أحمد قيسي
يتشابه كثير من الشعراء في أساليب تعبيرهم تشابهًا قد يصل بالقارئ حد الإحباط من الإنتاج الغزير المتناسخ، فلا تكاد تلمسُ عند بعضهم ملمحًا يميز قصائده، لا من حيث التراكيب اللغوية، ولا من حيث الثيمات والموضوعات، وإن كان ذلك لا ينفي الجماليات التي تنطوي عليها القصيدة.
ولعل الشاعر -على وجه الخصوص- من أكثر الأدباء حاجة إلى دمغة أسلوبية يَسِمُ بها إبداعه، ويترك أثره في كل نص يتهيأ لمعانقة الضوء، فالشاعر الحق "يصوغ عبارته على نحوٍ يتفرد به، حتى لكأنه جزء من سماته وملامحه، تستطيع أن تعرفه به كما تعرفه بقسمات وجهه"[1].
ولكن مع تلك الكثرة الغالبة لا نعدَمُ المتفردين، فثمة شعراء مكنتهم ملكة الإبداع من تشكيل هوية خاصة لنصوصهم؛ نستدل بها عليهم من خلال الأساليب المطروقة، ومن هؤلاء الشاعر السعودي/ أحمد السيد عطيف.
إن أول ما يلحظه القارئ لقصائد الشاعر أحمد السيد وجود مُخاطَبٍ داخل النص، يناجيه صراحةً، وحضوره بارز لا يخفى، فقصيدة السيد خطابٌ يوجهه الشاعر إلى مُخاطَبٍ بعينه، خلاف "القارئ الغفل"، ربما يراه الشاعر أو يتخيله، أما القارئ فلا يدركه إلا من خلال الإشارات التي يتضمنها الخطاب، ووجود هذا المُخاطبُ يستدعي التساؤلات الآتية:
- من هو هذا المخَاطب؟ وما صفته؟ أهو واحد في كل نصوصه؟ أم يختلف من قصيدة إلى أخرى؟ وما المسافة بينه وبين الشاعر؟
- لماذا يستدعيه الشاعر؟ وما مدى تأثير هذا المخاطب في قصائده؟
ولكي أقتحم عوالمَ نصوصه الشعرية بهذه التساؤلات، فإنني لا أجدُ بدًّا من اللجوء إلى المنهج الأسلوبي، والاستعانة بأدواته على تقصي كينونة هذا المخاطب؛ للإفصاح عن ملامحه، وتأثيره في النصوص. متخذًا من ديوانه "زجاج" مدونة لهذه الدراسة، ولكن قبل ذلك سأبدأ بالتعريف بالديوان، وتوضيح ما المقصود بالمخاطب، ثم أنتقل إلى محاور الدراسة الثلاثة، وهي: أساليب مخاطبة الذات، وأساليب مخاطبة الآخر، وأساليب مخاطبة المعنى.
تمهيد
ديوان "زجاج" للشاعر أحمد عطيف:
يُعدّ ديوان "زجاج" الكتاب الشعري الوحيد الذي أصدره الشاعر والكاتب السعودي أحمد السيد عطيف عن النادي الأدبي بالرياض سنة 2009م، أما بقية قصائده التي كتبها بعد هذا الإصدار فقد نشرها في الصحف والمجلات.
ويتألف الديوان من ثلاث وعشرين قصيدة موزونة، اتضح ميل الشاعر فيها إلى القصيدة الشطرية، حيث بلغ عددها في ديوانه سبع عشرة قصيدة، بينما جاءت القصائد الأربع المتبقية على نظام التفعيلة.
وتتنوع موضوعات نصوصه ما بين وجداني يتناول فيها قضاياه العاطفية، وأخرى تحمل همًّا ثقافيًّا أو اجتماعيًّا، وتشترك جميعها في ابتعاد الشاعر عن المباشرة في عرض فكرته، فهو يعبر عنها في قالب درامي، يحول الموضوع إلى حدثٍ ملموس مؤثر، يلجأ فيه غالبًا لأحد المكونين السرديين: الحوار أو المخاطبة.
الــمخاطَب
جاء في لسان العرب أن الخطاب "مراجعة الكلام، وقد خاطَبهُ بالكلامِ مخاطبةً وخطابًا، وهما يتخاطبان"[2]. وفي معجم اللغة العربية المعاصر: "خاطَبَ يُخاطِبُ مُـخَاطبةً فهو مُـخاطِب، والمفعول مُـخاطَب، خاطَبَ صديقهُ: كالمهُ وحادثهُ، اتجه إليه بالكلامِ"[3]. فالخطاب بهذا المعنى كلام موجه من شخص إلى آخر أو إلى آخرين. وهذا يقتضي أن يكون للخطاب مرسِلٌ (مُخاطِب)، ومُرسَلٌ إليهِ (مُخاطَب)، ورسالةٌ (محتوى الخطاب)، وقناة اتصال (اللغة)[4].
إن الـمُخاطَب الذي أعنيه في هذه المقاربة ذاتٌ يتوجه إليها الشاعر بالكلام عوضًا عن المباشرة في التعبير، يبوح لها بالمعنى الذي يريدُ إيصاله للقارئ، فالـمُخاطَبُ المقصود ليس القارئ، بل "مُرسلٌ إليه" مُحَددٌ في مُـخَيِّلة الشاعر، ومُشَارٌ إليه داخل القصيدة، وربما يكون تعلة يلجأ إليها لتكون وسيطًا بينه وبين القارئ، فيبلغنا عن طريق مناجاته لها ما يود إبلاغه.
وفي شعر أحمد السيد عطيف تتعدد الحالات التي يتجلى فيها المخاطب وفقًا لتنوع المقام، أو الموضوعات، أو القضايا التي يتطرق إليها، لذا لم تكن صورته واحدة في كل النصوص، ولم تكن أيضًا في كل أحوالها غامضة.
أولًا– أساليب مخاطبة الذات
الذات أقرب مُنَاجَى للإنسان، هي أول مَن نبوحُ له، وأدنى مَن نُرتِّبُ أفكارنا معه، إنها الرفيقُ الذي لا يمكن أن يخذلكَ عند ندائه، ولا ينفك يصغي إليك حتى تغادره من تلقاء نفسك، أو تلتفت إلى صوتٍ آخر غيره.
والشاعر أحمد عطيف نصَّبَ ذاته طرفًا ضمنَ الأطراف التي يخاطبها في نصوصه، يتحدثُ إليها كما يتحدث إلى أي شخص آخر، فحينًا يوجه إليها القولَ بصفتها الكلية، كما لو أنه يُحدث إنسانًا مستقلًا عنه، وحينًا ينادي جزءًا منها، ويوجه إليه حديثًا يلائم وظيفته في الكينونة الكبرى، ويبقى التساؤل: ما حاجة الشاعر لمخاطبة ذاته؟
يقول السيد في مطلع قصيدته "هل آلم الجرح؟":
هل آلم الجرح؟ خل الجرح منسكبا .. لعل تفهم ما كان النوى لَعِبا[5]
ولعلي أردف تساؤلًا آخر يعينني على إجابة السابق: ((هل ذات الشاعرِ جاهلةً بآلامه كي يسألها عن وقع الألم؟)) بطبيعة الحال لا، فالاستفهام هنا تقريري، يؤيد ذلك جملة الأمر التي تلي جملة الاستفهام مباشرة "خل الجرح منسكبا"، التي يتغيا منها توبيخ نفسه على ما أصابه نتيجة "الفراق"، وكأنه يقول لها:
"تستحقين هذا الألم"، ثم يأتي الشطر الثاني ليبين العلة من ذلك التوبيخ.
وفي البيت التالي من القصيدة نفسها يقول:
"لعبتَ بالنار يا قلبي، فهل عَلِقتْ إلا حناياك؟ فاهنأ. كلنا التهبا"[6]
إن مفردة اللعب في هذا البيت تحيل إلى عبثٍ يمكن اجتنابه، والشاعر هنا يبين لذاته الفعل الذي اقترفته، ممثلًا في (الحب) الذي عبر عنه مجازًا بعبارة (اللعب بالنار)، ثم النتيجة التي ترتب عليها ذلك الفعل (علقت حناياك)، ليؤنبها هذه المرة بفعل الأمر (اهنأ) الذي يتضمن مدلول السخرية، معرجًا على تداعيات ذلك العبث (كلنا التهبا)، فهو بتوبيخه لذاته يلقي باللائمة عليها، وكأنه يبرئ نفسه من ذلك الفعل الذي ورطه فيه قلبه، ليظهر بمظهر الضحية لنزوة لا ذنب له فيها.
ولم يكن الخطاب في القصيدة كلها موجهًّا إلى ذاته، فوجهة الكلام تتغير دون سابق إنذار إلى مُخَاطَبٍ آخر/أنثى، يقول لها:
"بهية الخدِّ إنا نازلون هنا يا عمرك الله ردي دوننا الحجبا"[7]
لندرك عن طريق هذا (الالتفات) المغزى من تأنيبه لذاته سابقًا، فبعد أن علقت حنايا قلبه بحب امرأة غادرها ورحل إلى بلادٍ بعيدة (كوالالمبور)، لا يجدُ خلاصًا من ذلك التعلق، مهما رأى من جميلات سواها، لذا يأمر (بهية الخد) في البيت السابق أن ترد الحجب دونهما؛ لأنها -كما يتضح في بقية القصيدة- لن تحل محل التي شُغِفَ بها، مهما بلغ بها الجمال.
أما في قصيدة "استسقاء" فإن الشاعر اتخذ من الذات ملاذًا، لجأ إليها عندما شعر بحاجته إلى مناجاتها، فقد استهل القصيدة بوصفهِ لموقف أربكه، حيث يقول:
لا بابها يدري ولا سيارتي
بجموح فتنتها ولا بجموحي
فتكت زجاجة بابها برزانتي
ما بين نكران إلى تلميح[8]
لكنه يباغت القارئ عن طريق "الالتفات" الذي غير به مسار الكلام إلى ذاته قائلًا:
يا خاطري لا ترتبك. كُن عاقلا
وتجمعي في بابها يا روحي[9]
ففي هذا البيت الذي يقع في القصيدة موقع الجملة الاعتراضية في النص، يهربُ الشاعر إلى داخله، ليعيد ترتيب أوراقه، يُخَاطِبُ ما ارتبكَ منهُ (الخاطر، الروح)، وكأنه يُفكر بصوتٍ يسمعه المتلقي.
إن هذا الالتفات منح النص مساحة أخرى، يرينا الشاعر من خلالها جانبًا غائبًا من المعنى، أي خلاف الموقف الذي وصفه في مطلع القصيدة؛ لينقل خلجاته، وما يعتمل في أعماقه، وليرصد لنا حديث نفسه، وهنا يكمن تأثير هذا الـمُخاطب في القصيدة.
وإذا كانت مخاطبة الذات في القصيدتين السابقتين تأتي عَرَضًا في النص، لأن الخطاب فيهما موجه في الأصل لغيرِ الذات، فإن الشاعر في قصيدة "آه" يوجه الخطاب كاملًا إلى ذاته، حيث يقول:
َلِّب كفوفكَ من دنياك هل جَمَعَت
إلا ظلالَ المنى .. إلا المواعيدا[10]
يتشابه كثير من الشعراء في أساليب تعبيرهم تشابهًا قد يصل بالقارئ حد الإحباط من الإنتاج الغزير المتناسخ، فلا تكاد تلمسُ عند بعضهم ملمحًا يميز قصائده، لا من حيث التراكيب اللغوية، ولا من حيث الثيمات والموضوعات، وإن كان ذلك لا ينفي الجماليات التي تنطوي عليها القصيدة.
ولعل الشاعر -على وجه الخصوص- من أكثر الأدباء حاجة إلى دمغة أسلوبية يَسِمُ بها إبداعه، ويترك أثره في كل نص يتهيأ لمعانقة الضوء، فالشاعر الحق "يصوغ عبارته على نحوٍ يتفرد به، حتى لكأنه جزء من سماته وملامحه، تستطيع أن تعرفه به كما تعرفه بقسمات وجهه"[1].
ولكن مع تلك الكثرة الغالبة لا نعدَمُ المتفردين، فثمة شعراء مكنتهم ملكة الإبداع من تشكيل هوية خاصة لنصوصهم؛ نستدل بها عليهم من خلال الأساليب المطروقة، ومن هؤلاء الشاعر السعودي/ أحمد السيد عطيف.
إن أول ما يلحظه القارئ لقصائد الشاعر أحمد السيد وجود مُخاطَبٍ داخل النص، يناجيه صراحةً، وحضوره بارز لا يخفى، فقصيدة السيد خطابٌ يوجهه الشاعر إلى مُخاطَبٍ بعينه، خلاف "القارئ الغفل"، ربما يراه الشاعر أو يتخيله، أما القارئ فلا يدركه إلا من خلال الإشارات التي يتضمنها الخطاب، ووجود هذا المُخاطبُ يستدعي التساؤلات الآتية:
- من هو هذا المخَاطب؟ وما صفته؟ أهو واحد في كل نصوصه؟ أم يختلف من قصيدة إلى أخرى؟ وما المسافة بينه وبين الشاعر؟
- لماذا يستدعيه الشاعر؟ وما مدى تأثير هذا المخاطب في قصائده؟
ولكي أقتحم عوالمَ نصوصه الشعرية بهذه التساؤلات، فإنني لا أجدُ بدًّا من اللجوء إلى المنهج الأسلوبي، والاستعانة بأدواته على تقصي كينونة هذا المخاطب؛ للإفصاح عن ملامحه، وتأثيره في النصوص. متخذًا من ديوانه "زجاج" مدونة لهذه الدراسة، ولكن قبل ذلك سأبدأ بالتعريف بالديوان، وتوضيح ما المقصود بالمخاطب، ثم أنتقل إلى محاور الدراسة الثلاثة، وهي: أساليب مخاطبة الذات، وأساليب مخاطبة الآخر، وأساليب مخاطبة المعنى.
تمهيد
ديوان "زجاج" للشاعر أحمد عطيف:
يُعدّ ديوان "زجاج" الكتاب الشعري الوحيد الذي أصدره الشاعر والكاتب السعودي أحمد السيد عطيف عن النادي الأدبي بالرياض سنة 2009م، أما بقية قصائده التي كتبها بعد هذا الإصدار فقد نشرها في الصحف والمجلات.
ويتألف الديوان من ثلاث وعشرين قصيدة موزونة، اتضح ميل الشاعر فيها إلى القصيدة الشطرية، حيث بلغ عددها في ديوانه سبع عشرة قصيدة، بينما جاءت القصائد الأربع المتبقية على نظام التفعيلة.
وتتنوع موضوعات نصوصه ما بين وجداني يتناول فيها قضاياه العاطفية، وأخرى تحمل همًّا ثقافيًّا أو اجتماعيًّا، وتشترك جميعها في ابتعاد الشاعر عن المباشرة في عرض فكرته، فهو يعبر عنها في قالب درامي، يحول الموضوع إلى حدثٍ ملموس مؤثر، يلجأ فيه غالبًا لأحد المكونين السرديين: الحوار أو المخاطبة.
الــمخاطَب
جاء في لسان العرب أن الخطاب "مراجعة الكلام، وقد خاطَبهُ بالكلامِ مخاطبةً وخطابًا، وهما يتخاطبان"[2]. وفي معجم اللغة العربية المعاصر: "خاطَبَ يُخاطِبُ مُـخَاطبةً فهو مُـخاطِب، والمفعول مُـخاطَب، خاطَبَ صديقهُ: كالمهُ وحادثهُ، اتجه إليه بالكلامِ"[3]. فالخطاب بهذا المعنى كلام موجه من شخص إلى آخر أو إلى آخرين. وهذا يقتضي أن يكون للخطاب مرسِلٌ (مُخاطِب)، ومُرسَلٌ إليهِ (مُخاطَب)، ورسالةٌ (محتوى الخطاب)، وقناة اتصال (اللغة)[4].
إن الـمُخاطَب الذي أعنيه في هذه المقاربة ذاتٌ يتوجه إليها الشاعر بالكلام عوضًا عن المباشرة في التعبير، يبوح لها بالمعنى الذي يريدُ إيصاله للقارئ، فالـمُخاطَبُ المقصود ليس القارئ، بل "مُرسلٌ إليه" مُحَددٌ في مُـخَيِّلة الشاعر، ومُشَارٌ إليه داخل القصيدة، وربما يكون تعلة يلجأ إليها لتكون وسيطًا بينه وبين القارئ، فيبلغنا عن طريق مناجاته لها ما يود إبلاغه.
وفي شعر أحمد السيد عطيف تتعدد الحالات التي يتجلى فيها المخاطب وفقًا لتنوع المقام، أو الموضوعات، أو القضايا التي يتطرق إليها، لذا لم تكن صورته واحدة في كل النصوص، ولم تكن أيضًا في كل أحوالها غامضة.
أولًا– أساليب مخاطبة الذات
الذات أقرب مُنَاجَى للإنسان، هي أول مَن نبوحُ له، وأدنى مَن نُرتِّبُ أفكارنا معه، إنها الرفيقُ الذي لا يمكن أن يخذلكَ عند ندائه، ولا ينفك يصغي إليك حتى تغادره من تلقاء نفسك، أو تلتفت إلى صوتٍ آخر غيره.
والشاعر أحمد عطيف نصَّبَ ذاته طرفًا ضمنَ الأطراف التي يخاطبها في نصوصه، يتحدثُ إليها كما يتحدث إلى أي شخص آخر، فحينًا يوجه إليها القولَ بصفتها الكلية، كما لو أنه يُحدث إنسانًا مستقلًا عنه، وحينًا ينادي جزءًا منها، ويوجه إليه حديثًا يلائم وظيفته في الكينونة الكبرى، ويبقى التساؤل: ما حاجة الشاعر لمخاطبة ذاته؟
يقول السيد في مطلع قصيدته "هل آلم الجرح؟":
هل آلم الجرح؟ خل الجرح منسكبا .. لعل تفهم ما كان النوى لَعِبا[5]
ولعلي أردف تساؤلًا آخر يعينني على إجابة السابق: ((هل ذات الشاعرِ جاهلةً بآلامه كي يسألها عن وقع الألم؟)) بطبيعة الحال لا، فالاستفهام هنا تقريري، يؤيد ذلك جملة الأمر التي تلي جملة الاستفهام مباشرة "خل الجرح منسكبا"، التي يتغيا منها توبيخ نفسه على ما أصابه نتيجة "الفراق"، وكأنه يقول لها:
"تستحقين هذا الألم"، ثم يأتي الشطر الثاني ليبين العلة من ذلك التوبيخ.
وفي البيت التالي من القصيدة نفسها يقول:
"لعبتَ بالنار يا قلبي، فهل عَلِقتْ إلا حناياك؟ فاهنأ. كلنا التهبا"[6]
إن مفردة اللعب في هذا البيت تحيل إلى عبثٍ يمكن اجتنابه، والشاعر هنا يبين لذاته الفعل الذي اقترفته، ممثلًا في (الحب) الذي عبر عنه مجازًا بعبارة (اللعب بالنار)، ثم النتيجة التي ترتب عليها ذلك الفعل (علقت حناياك)، ليؤنبها هذه المرة بفعل الأمر (اهنأ) الذي يتضمن مدلول السخرية، معرجًا على تداعيات ذلك العبث (كلنا التهبا)، فهو بتوبيخه لذاته يلقي باللائمة عليها، وكأنه يبرئ نفسه من ذلك الفعل الذي ورطه فيه قلبه، ليظهر بمظهر الضحية لنزوة لا ذنب له فيها.
ولم يكن الخطاب في القصيدة كلها موجهًّا إلى ذاته، فوجهة الكلام تتغير دون سابق إنذار إلى مُخَاطَبٍ آخر/أنثى، يقول لها:
"بهية الخدِّ إنا نازلون هنا يا عمرك الله ردي دوننا الحجبا"[7]
لندرك عن طريق هذا (الالتفات) المغزى من تأنيبه لذاته سابقًا، فبعد أن علقت حنايا قلبه بحب امرأة غادرها ورحل إلى بلادٍ بعيدة (كوالالمبور)، لا يجدُ خلاصًا من ذلك التعلق، مهما رأى من جميلات سواها، لذا يأمر (بهية الخد) في البيت السابق أن ترد الحجب دونهما؛ لأنها -كما يتضح في بقية القصيدة- لن تحل محل التي شُغِفَ بها، مهما بلغ بها الجمال.
أما في قصيدة "استسقاء" فإن الشاعر اتخذ من الذات ملاذًا، لجأ إليها عندما شعر بحاجته إلى مناجاتها، فقد استهل القصيدة بوصفهِ لموقف أربكه، حيث يقول:
لا بابها يدري ولا سيارتي
بجموح فتنتها ولا بجموحي
فتكت زجاجة بابها برزانتي
ما بين نكران إلى تلميح[8]
لكنه يباغت القارئ عن طريق "الالتفات" الذي غير به مسار الكلام إلى ذاته قائلًا:
يا خاطري لا ترتبك. كُن عاقلا
وتجمعي في بابها يا روحي[9]
ففي هذا البيت الذي يقع في القصيدة موقع الجملة الاعتراضية في النص، يهربُ الشاعر إلى داخله، ليعيد ترتيب أوراقه، يُخَاطِبُ ما ارتبكَ منهُ (الخاطر، الروح)، وكأنه يُفكر بصوتٍ يسمعه المتلقي.
إن هذا الالتفات منح النص مساحة أخرى، يرينا الشاعر من خلالها جانبًا غائبًا من المعنى، أي خلاف الموقف الذي وصفه في مطلع القصيدة؛ لينقل خلجاته، وما يعتمل في أعماقه، وليرصد لنا حديث نفسه، وهنا يكمن تأثير هذا الـمُخاطب في القصيدة.
وإذا كانت مخاطبة الذات في القصيدتين السابقتين تأتي عَرَضًا في النص، لأن الخطاب فيهما موجه في الأصل لغيرِ الذات، فإن الشاعر في قصيدة "آه" يوجه الخطاب كاملًا إلى ذاته، حيث يقول:
َلِّب كفوفكَ من دنياك هل جَمَعَت
إلا ظلالَ المنى .. إلا المواعيدا[10]
يتشابه كثير من الشعراء في أساليب تعبيرهم تشابهًا قد يصل بالقارئ حد الإحباط من الإنتاج الغزير المتناسخ، فلا تكاد تلمسُ عند بعضهم ملمحًا يميز قصائده، لا من حيث التراكيب اللغوية، ولا من حيث الثيمات والموضوعات، وإن كان ذلك لا ينفي الجماليات التي تنطوي عليها القصيدة.
ولعل الشاعر -على وجه الخصوص- من أكثر الأدباء حاجة إلى دمغة أسلوبية يَسِمُ بها إبداعه، ويترك أثره في كل نص يتهيأ لمعانقة الضوء، فالشاعر الحق "يصوغ عبارته على نحوٍ يتفرد به، حتى لكأنه جزء من سماته وملامحه، تستطيع أن تعرفه به كما تعرفه بقسمات وجهه"[1].
ولكن مع تلك الكثرة الغالبة لا نعدَمُ المتفردين، فثمة شعراء مكنتهم ملكة الإبداع من تشكيل هوية خاصة لنصوصهم؛ نستدل بها عليهم من خلال الأساليب المطروقة، ومن هؤلاء الشاعر السعودي/ أحمد السيد عطيف.
إن أول ما يلحظه القارئ لقصائد الشاعر أحمد السيد وجود مُخاطَبٍ داخل النص، يناجيه صراحةً، وحضوره بارز لا يخفى، فقصيدة السيد خطابٌ يوجهه الشاعر إلى مُخاطَبٍ بعينه، خلاف "القارئ الغفل"، ربما يراه الشاعر أو يتخيله، أما القارئ فلا يدركه إلا من خلال الإشارات التي يتضمنها الخطاب، ووجود هذا المُخاطبُ يستدعي التساؤلات الآتية:
- من هو هذا المخَاطب؟ وما صفته؟ أهو واحد في كل نصوصه؟ أم يختلف من قصيدة إلى أخرى؟ وما المسافة بينه وبين الشاعر؟
- لماذا يستدعيه الشاعر؟ وما مدى تأثير هذا المخاطب في قصائده؟
ولكي أقتحم عوالمَ نصوصه الشعرية بهذه التساؤلات، فإنني لا أجدُ بدًّا من اللجوء إلى المنهج الأسلوبي، والاستعانة بأدواته على تقصي كينونة هذا المخاطب؛ للإفصاح عن ملامحه، وتأثيره في النصوص. متخذًا من ديوانه "زجاج" مدونة لهذه الدراسة، ولكن قبل ذلك سأبدأ بالتعريف بالديوان، وتوضيح ما المقصود بالمخاطب، ثم أنتقل إلى محاور الدراسة الثلاثة، وهي: أساليب مخاطبة الذات، وأساليب مخاطبة الآخر، وأساليب مخاطبة المعنى.
تمهيد
ديوان "زجاج" للشاعر أحمد عطيف:
يُعدّ ديوان "زجاج" الكتاب الشعري الوحيد الذي أصدره الشاعر والكاتب السعودي أحمد السيد عطيف عن النادي الأدبي بالرياض سنة 2009م، أما بقية قصائده التي كتبها بعد هذا الإصدار فقد نشرها في الصحف والمجلات.
ويتألف الديوان من ثلاث وعشرين قصيدة موزونة، اتضح ميل الشاعر فيها إلى القصيدة الشطرية، حيث بلغ عددها في ديوانه سبع عشرة قصيدة، بينما جاءت القصائد الأربع المتبقية على نظام التفعيلة.
وتتنوع موضوعات نصوصه ما بين وجداني يتناول فيها قضاياه العاطفية، وأخرى تحمل همًّا ثقافيًّا أو اجتماعيًّا، وتشترك جميعها في ابتعاد الشاعر عن المباشرة في عرض فكرته، فهو يعبر عنها في قالب درامي، يحول الموضوع إلى حدثٍ ملموس مؤثر، يلجأ فيه غالبًا لأحد المكونين السرديين: الحوار أو المخاطبة.
- [1] في فلسفة النقد، زكي نجيب محمود، مؤسسة هنداوي، مصر، 2021م، ص 74.
- [2]سان العرب، ابن منظور، مادة (خ ط ب)، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1998م.ص 2/1194.
- [3] معجم اللغة العربية المعاصر، أحمد مختار عمر، عالم الكتب مصر، ط1، 2008م، مادة (خ ط ب)، 1/ 659.
- [4] نظر: اللغة، إعداد وترجمة: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، المغرب، ط5، 2010م، ص61- 62.
- [5] زجاج، أحمد عطيف، نادي الرياض الأدبي، الرياض، ط1، 2009م، ص 95.
- [6] زجاج، أحمد عطيف، ص 95.
- [7] السابق، نفسه.
- [8] السابق، ص15.
- [9] السابق، نفسه.
- [10] زجاج، أحمد عطيف، ص35.