المخاطَب في شعر أحمد السيد عطيف قراءة أسلوبية لديوان "زجاج"

أحمد قيسي

يتشابه كثير من الشعراء في أساليب تعبيرهم تشابهًا قد يصل بالقارئ حد الإحباط من الإنتاج الغزير المتناسخ، فلا تكاد تلمسُ عند بعضهم ملمحًا يميز قصائده، لا من حيث التراكيب اللغوية، ولا من حيث الثيمات والموضوعات، وإن كان ذلك لا ينفي الجماليات التي تنطوي عليها القصيدة.

ولعل الشاعر -على وجه الخصوص- من أكثر الأدباء حاجة إلى دمغة أسلوبية يَسِمُ بها إبداعه، ويترك أثره في كل نص يتهيأ لمعانقة الضوء، فالشاعر الحق "يصوغ عبارته على نحوٍ يتفرد به، حتى لكأنه جزء من سماته وملامحه، تستطيع أن تعرفه به كما تعرفه بقسمات وجهه"[1].

ولكن مع تلك الكثرة الغالبة لا نعدَمُ المتفردين، فثمة شعراء مكنتهم ملكة الإبداع من تشكيل هوية خاصة لنصوصهم؛ نستدل بها عليهم من خلال الأساليب المطروقة، ومن هؤلاء الشاعر السعودي/ أحمد السيد عطيف.

  إن أول ما يلحظه القارئ لقصائد الشاعر أحمد السيد وجود مُخاطَبٍ داخل النص، يناجيه صراحةً، وحضوره بارز لا يخفى، فقصيدة السيد خطابٌ يوجهه الشاعر إلى مُخاطَبٍ بعينه، خلاف "القارئ الغفل"، ربما يراه الشاعر أو يتخيله، أما القارئ فلا يدركه إلا من خلال الإشارات التي يتضمنها الخطاب، ووجود هذا المُخاطبُ يستدعي التساؤلات الآتية:

- من هو هذا المخَاطب؟ وما صفته؟ أهو واحد في كل نصوصه؟ أم يختلف من قصيدة إلى أخرى؟ وما المسافة بينه وبين الشاعر؟  

   - لماذا يستدعيه الشاعر؟  وما مدى تأثير هذا المخاطب في قصائده؟

ولكي أقتحم عوالمَ نصوصه الشعرية بهذه التساؤلات، فإنني لا أجدُ بدًّا من اللجوء إلى المنهج الأسلوبي، والاستعانة بأدواته على تقصي كينونة هذا المخاطب؛ للإفصاح عن ملامحه، وتأثيره في النصوص. متخذًا من ديوانه "زجاج" مدونة لهذه الدراسة، ولكن قبل ذلك سأبدأ بالتعريف بالديوان، وتوضيح ما المقصود بالمخاطب، ثم أنتقل إلى محاور الدراسة الثلاثة، وهي: أساليب مخاطبة الذات، وأساليب مخاطبة الآخر، وأساليب مخاطبة المعنى.

تمهيد

ديوان "زجاج" للشاعر أحمد عطيف:

يُعدّ ديوان "زجاج" الكتاب الشعري الوحيد الذي أصدره الشاعر والكاتب السعودي أحمد السيد عطيف عن النادي الأدبي بالرياض سنة 2009م، أما بقية قصائده التي كتبها بعد هذا الإصدار فقد نشرها في الصحف والمجلات.

ويتألف الديوان من ثلاث وعشرين قصيدة موزونة، اتضح ميل الشاعر فيها إلى القصيدة الشطرية، حيث بلغ عددها في ديوانه سبع عشرة قصيدة، بينما جاءت القصائد الأربع المتبقية على نظام التفعيلة.

وتتنوع موضوعات نصوصه ما بين وجداني يتناول فيها قضاياه العاطفية، وأخرى تحمل همًّا ثقافيًّا أو اجتماعيًّا، وتشترك جميعها في ابتعاد الشاعر عن المباشرة في عرض فكرته، فهو يعبر عنها في قالب درامي، يحول الموضوع إلى حدثٍ ملموس مؤثر، يلجأ فيه غالبًا لأحد المكونين السرديين: الحوار أو المخاطبة.

الــمخاطَب

جاء في لسان العرب أن الخطاب "مراجعة الكلام، وقد خاطَبهُ بالكلامِ مخاطبةً وخطابًا، وهما يتخاطبان"[2]. وفي معجم اللغة العربية المعاصر: "خاطَبَ يُخاطِبُ مُـخَاطبةً فهو مُـخاطِب، والمفعول مُـخاطَب، خاطَبَ صديقهُ: كالمهُ وحادثهُ، اتجه إليه بالكلامِ"[3]. فالخطاب بهذا المعنى كلام موجه من شخص إلى آخر أو إلى آخرين. وهذا يقتضي أن يكون للخطاب مرسِلٌ (مُخاطِب)، ومُرسَلٌ إليهِ (مُخاطَب)، ورسالةٌ (محتوى الخطاب)، وقناة اتصال (اللغة)[4].

إن الـمُخاطَب الذي أعنيه في هذه المقاربة ذاتٌ يتوجه إليها الشاعر بالكلام عوضًا عن المباشرة في التعبير، يبوح لها بالمعنى الذي يريدُ إيصاله للقارئ، فالـمُخاطَبُ المقصود ليس القارئ، بل "مُرسلٌ إليه" مُحَددٌ في مُـخَيِّلة الشاعر، ومُشَارٌ إليه داخل القصيدة، وربما يكون تعلة يلجأ إليها لتكون وسيطًا بينه وبين القارئ، فيبلغنا عن طريق مناجاته لها ما يود إبلاغه.

وفي شعر أحمد السيد عطيف تتعدد الحالات التي يتجلى فيها المخاطب وفقًا لتنوع المقام، أو الموضوعات، أو القضايا التي يتطرق إليها، لذا لم تكن صورته واحدة في كل النصوص، ولم تكن أيضًا في كل أحوالها غامضة.

أولًا– أساليب مخاطبة الذات

الذات أقرب مُنَاجَى للإنسان، هي أول مَن نبوحُ له، وأدنى مَن نُرتِّبُ أفكارنا معه، إنها الرفيقُ الذي لا يمكن أن يخذلكَ عند ندائه، ولا ينفك يصغي إليك حتى تغادره من تلقاء نفسك، أو تلتفت إلى صوتٍ آخر غيره.

والشاعر أحمد عطيف نصَّبَ ذاته طرفًا ضمنَ الأطراف التي يخاطبها في نصوصه، يتحدثُ إليها كما يتحدث إلى أي شخص آخر، فحينًا يوجه إليها القولَ بصفتها الكلية، كما لو أنه يُحدث إنسانًا مستقلًا عنه، وحينًا ينادي جزءًا منها، ويوجه إليه حديثًا يلائم وظيفته في الكينونة الكبرى، ويبقى التساؤل: ما حاجة الشاعر لمخاطبة ذاته؟
يقول السيد في مطلع قصيدته "هل آلم الجرح؟":
هل آلم الجرح؟ خل الجرح منسكبا .. لعل تفهم ما كان النوى لَعِبا[5]
ولعلي أردف تساؤلًا آخر يعينني على إجابة السابق: ((هل ذات الشاعرِ جاهلةً بآلامه كي يسألها عن وقع الألم؟)) بطبيعة الحال لا، فالاستفهام هنا تقريري، يؤيد ذلك جملة الأمر التي تلي جملة الاستفهام مباشرة "خل الجرح منسكبا"، التي يتغيا منها توبيخ نفسه على ما أصابه نتيجة "الفراق"، وكأنه يقول لها:
"تستحقين هذا الألم"، ثم يأتي الشطر الثاني ليبين العلة من ذلك التوبيخ.

وفي البيت التالي من القصيدة نفسها يقول:
"لعبتَ بالنار يا قلبي، فهل عَلِقتْ إلا حناياك؟ فاهنأ. كلنا التهبا"[6]

إن مفردة اللعب في هذا البيت تحيل إلى عبثٍ يمكن اجتنابه، والشاعر هنا يبين لذاته الفعل الذي اقترفته، ممثلًا في (الحب) الذي عبر عنه مجازًا بعبارة (اللعب بالنار)، ثم النتيجة التي ترتب عليها ذلك الفعل (علقت حناياك)، ليؤنبها هذه المرة بفعل الأمر (اهنأ) الذي يتضمن مدلول السخرية، معرجًا على تداعيات ذلك العبث (كلنا التهبا)، فهو بتوبيخه لذاته يلقي باللائمة عليها، وكأنه يبرئ نفسه من ذلك الفعل الذي ورطه فيه قلبه، ليظهر بمظهر الضحية لنزوة لا ذنب له فيها.

ولم يكن الخطاب في القصيدة كلها موجهًّا إلى ذاته، فوجهة الكلام تتغير دون سابق إنذار إلى مُخَاطَبٍ آخر/أنثى، يقول لها:

"بهية الخدِّ إنا نازلون هنا يا عمرك الله ردي دوننا الحجبا"[7]

لندرك عن طريق هذا (الالتفات) المغزى من تأنيبه لذاته سابقًا، فبعد أن علقت حنايا قلبه بحب امرأة غادرها ورحل إلى بلادٍ بعيدة (كوالالمبور)، لا يجدُ خلاصًا من ذلك التعلق، مهما رأى من جميلات سواها، لذا يأمر (بهية الخد) في البيت السابق أن ترد الحجب دونهما؛ لأنها -كما يتضح في بقية القصيدة- لن تحل محل التي شُغِفَ بها، مهما بلغ بها الجمال.

أما في قصيدة "استسقاء" فإن الشاعر اتخذ من الذات ملاذًا، لجأ إليها عندما شعر بحاجته إلى مناجاتها، فقد استهل القصيدة بوصفهِ لموقف أربكه، حيث يقول:

لا بابها يدري ولا سيارتي 

بجموح فتنتها ولا بجموحي

فتكت زجاجة بابها برزانتي

ما بين نكران إلى تلميح[8]

لكنه يباغت القارئ عن طريق "الالتفات" الذي غير به مسار الكلام إلى ذاته قائلًا:

يا خاطري لا ترتبك. كُن عاقلا

وتجمعي في بابها يا روحي[9]

ففي هذا البيت الذي يقع في القصيدة موقع الجملة الاعتراضية في النص، يهربُ الشاعر إلى داخله، ليعيد ترتيب أوراقه، يُخَاطِبُ ما ارتبكَ منهُ (الخاطر، الروح)، وكأنه يُفكر بصوتٍ يسمعه المتلقي.

إن هذا الالتفات منح النص مساحة أخرى، يرينا الشاعر من خلالها جانبًا غائبًا من المعنى، أي خلاف الموقف الذي وصفه في مطلع القصيدة؛ لينقل خلجاته، وما يعتمل في أعماقه، وليرصد لنا حديث نفسه، وهنا يكمن تأثير هذا الـمُخاطب في القصيدة.

وإذا كانت مخاطبة الذات في القصيدتين السابقتين تأتي عَرَضًا في النص، لأن الخطاب فيهما موجه في الأصل لغيرِ الذات، فإن الشاعر في قصيدة "آه" يوجه الخطاب كاملًا إلى ذاته، حيث يقول:

َلِّب كفوفكَ من دنياك هل جَمَعَت

إلا ظلالَ المنى .. إلا المواعيدا[10]

يتشابه كثير من الشعراء في أساليب تعبيرهم تشابهًا قد يصل بالقارئ حد الإحباط من الإنتاج الغزير المتناسخ، فلا تكاد تلمسُ عند بعضهم ملمحًا يميز قصائده، لا من حيث التراكيب اللغوية، ولا من حيث الثيمات والموضوعات، وإن كان ذلك لا ينفي الجماليات التي تنطوي عليها القصيدة.

ولعل الشاعر -على وجه الخصوص- من أكثر الأدباء حاجة إلى دمغة أسلوبية يَسِمُ بها إبداعه، ويترك أثره في كل نص يتهيأ لمعانقة الضوء، فالشاعر الحق "يصوغ عبارته على نحوٍ يتفرد به، حتى لكأنه جزء من سماته وملامحه، تستطيع أن تعرفه به كما تعرفه بقسمات وجهه"[1].

ولكن مع تلك الكثرة الغالبة لا نعدَمُ المتفردين، فثمة شعراء مكنتهم ملكة الإبداع من تشكيل هوية خاصة لنصوصهم؛ نستدل بها عليهم من خلال الأساليب المطروقة، ومن هؤلاء الشاعر السعودي/ أحمد السيد عطيف.

  إن أول ما يلحظه القارئ لقصائد الشاعر أحمد السيد وجود مُخاطَبٍ داخل النص، يناجيه صراحةً، وحضوره بارز لا يخفى، فقصيدة السيد خطابٌ يوجهه الشاعر إلى مُخاطَبٍ بعينه، خلاف "القارئ الغفل"، ربما يراه الشاعر أو يتخيله، أما القارئ فلا يدركه إلا من خلال الإشارات التي يتضمنها الخطاب، ووجود هذا المُخاطبُ يستدعي التساؤلات الآتية:

- من هو هذا المخَاطب؟ وما صفته؟ أهو واحد في كل نصوصه؟ أم يختلف من قصيدة إلى أخرى؟ وما المسافة بينه وبين الشاعر؟  

   - لماذا يستدعيه الشاعر؟  وما مدى تأثير هذا المخاطب في قصائده؟

ولكي أقتحم عوالمَ نصوصه الشعرية بهذه التساؤلات، فإنني لا أجدُ بدًّا من اللجوء إلى المنهج الأسلوبي، والاستعانة بأدواته على تقصي كينونة هذا المخاطب؛ للإفصاح عن ملامحه، وتأثيره في النصوص. متخذًا من ديوانه "زجاج" مدونة لهذه الدراسة، ولكن قبل ذلك سأبدأ بالتعريف بالديوان، وتوضيح ما المقصود بالمخاطب، ثم أنتقل إلى محاور الدراسة الثلاثة، وهي: أساليب مخاطبة الذات، وأساليب مخاطبة الآخر، وأساليب مخاطبة المعنى.

تمهيد

ديوان "زجاج" للشاعر أحمد عطيف:

يُعدّ ديوان "زجاج" الكتاب الشعري الوحيد الذي أصدره الشاعر والكاتب السعودي أحمد السيد عطيف عن النادي الأدبي بالرياض سنة 2009م، أما بقية قصائده التي كتبها بعد هذا الإصدار فقد نشرها في الصحف والمجلات.

ويتألف الديوان من ثلاث وعشرين قصيدة موزونة، اتضح ميل الشاعر فيها إلى القصيدة الشطرية، حيث بلغ عددها في ديوانه سبع عشرة قصيدة، بينما جاءت القصائد الأربع المتبقية على نظام التفعيلة.

وتتنوع موضوعات نصوصه ما بين وجداني يتناول فيها قضاياه العاطفية، وأخرى تحمل همًّا ثقافيًّا أو اجتماعيًّا، وتشترك جميعها في ابتعاد الشاعر عن المباشرة في عرض فكرته، فهو يعبر عنها في قالب درامي، يحول الموضوع إلى حدثٍ ملموس مؤثر، يلجأ فيه غالبًا لأحد المكونين السرديين: الحوار أو المخاطبة.

الــمخاطَب

جاء في لسان العرب أن الخطاب "مراجعة الكلام، وقد خاطَبهُ بالكلامِ مخاطبةً وخطابًا، وهما يتخاطبان"[2]. وفي معجم اللغة العربية المعاصر: "خاطَبَ يُخاطِبُ مُـخَاطبةً فهو مُـخاطِب، والمفعول مُـخاطَب، خاطَبَ صديقهُ: كالمهُ وحادثهُ، اتجه إليه بالكلامِ"[3]. فالخطاب بهذا المعنى كلام موجه من شخص إلى آخر أو إلى آخرين. وهذا يقتضي أن يكون للخطاب مرسِلٌ (مُخاطِب)، ومُرسَلٌ إليهِ (مُخاطَب)، ورسالةٌ (محتوى الخطاب)، وقناة اتصال (اللغة)[4].

إن الـمُخاطَب الذي أعنيه في هذه المقاربة ذاتٌ يتوجه إليها الشاعر بالكلام عوضًا عن المباشرة في التعبير، يبوح لها بالمعنى الذي يريدُ إيصاله للقارئ، فالـمُخاطَبُ المقصود ليس القارئ، بل "مُرسلٌ إليه" مُحَددٌ في مُـخَيِّلة الشاعر، ومُشَارٌ إليه داخل القصيدة، وربما يكون تعلة يلجأ إليها لتكون وسيطًا بينه وبين القارئ، فيبلغنا عن طريق مناجاته لها ما يود إبلاغه.

وفي شعر أحمد السيد عطيف تتعدد الحالات التي يتجلى فيها المخاطب وفقًا لتنوع المقام، أو الموضوعات، أو القضايا التي يتطرق إليها، لذا لم تكن صورته واحدة في كل النصوص، ولم تكن أيضًا في كل أحوالها غامضة.

أولًا– أساليب مخاطبة الذات

الذات أقرب مُنَاجَى للإنسان، هي أول مَن نبوحُ له، وأدنى مَن نُرتِّبُ أفكارنا معه، إنها الرفيقُ الذي لا يمكن أن يخذلكَ عند ندائه، ولا ينفك يصغي إليك حتى تغادره من تلقاء نفسك، أو تلتفت إلى صوتٍ آخر غيره.

والشاعر أحمد عطيف نصَّبَ ذاته طرفًا ضمنَ الأطراف التي يخاطبها في نصوصه، يتحدثُ إليها كما يتحدث إلى أي شخص آخر، فحينًا يوجه إليها القولَ بصفتها الكلية، كما لو أنه يُحدث إنسانًا مستقلًا عنه، وحينًا ينادي جزءًا منها، ويوجه إليه حديثًا يلائم وظيفته في الكينونة الكبرى، ويبقى التساؤل: ما حاجة الشاعر لمخاطبة ذاته؟
يقول السيد في مطلع قصيدته "هل آلم الجرح؟":
هل آلم الجرح؟ خل الجرح منسكبا .. لعل تفهم ما كان النوى لَعِبا[5]
ولعلي أردف تساؤلًا آخر يعينني على إجابة السابق: ((هل ذات الشاعرِ جاهلةً بآلامه كي يسألها عن وقع الألم؟)) بطبيعة الحال لا، فالاستفهام هنا تقريري، يؤيد ذلك جملة الأمر التي تلي جملة الاستفهام مباشرة "خل الجرح منسكبا"، التي يتغيا منها توبيخ نفسه على ما أصابه نتيجة "الفراق"، وكأنه يقول لها:
"تستحقين هذا الألم"، ثم يأتي الشطر الثاني ليبين العلة من ذلك التوبيخ.

وفي البيت التالي من القصيدة نفسها يقول:
"لعبتَ بالنار يا قلبي، فهل عَلِقتْ إلا حناياك؟ فاهنأ. كلنا التهبا"[6]

إن مفردة اللعب في هذا البيت تحيل إلى عبثٍ يمكن اجتنابه، والشاعر هنا يبين لذاته الفعل الذي اقترفته، ممثلًا في (الحب) الذي عبر عنه مجازًا بعبارة (اللعب بالنار)، ثم النتيجة التي ترتب عليها ذلك الفعل (علقت حناياك)، ليؤنبها هذه المرة بفعل الأمر (اهنأ) الذي يتضمن مدلول السخرية، معرجًا على تداعيات ذلك العبث (كلنا التهبا)، فهو بتوبيخه لذاته يلقي باللائمة عليها، وكأنه يبرئ نفسه من ذلك الفعل الذي ورطه فيه قلبه، ليظهر بمظهر الضحية لنزوة لا ذنب له فيها.

ولم يكن الخطاب في القصيدة كلها موجهًّا إلى ذاته، فوجهة الكلام تتغير دون سابق إنذار إلى مُخَاطَبٍ آخر/أنثى، يقول لها:

"بهية الخدِّ إنا نازلون هنا يا عمرك الله ردي دوننا الحجبا"[7]

لندرك عن طريق هذا (الالتفات) المغزى من تأنيبه لذاته سابقًا، فبعد أن علقت حنايا قلبه بحب امرأة غادرها ورحل إلى بلادٍ بعيدة (كوالالمبور)، لا يجدُ خلاصًا من ذلك التعلق، مهما رأى من جميلات سواها، لذا يأمر (بهية الخد) في البيت السابق أن ترد الحجب دونهما؛ لأنها -كما يتضح في بقية القصيدة- لن تحل محل التي شُغِفَ بها، مهما بلغ بها الجمال.

أما في قصيدة "استسقاء" فإن الشاعر اتخذ من الذات ملاذًا، لجأ إليها عندما شعر بحاجته إلى مناجاتها، فقد استهل القصيدة بوصفهِ لموقف أربكه، حيث يقول:

لا بابها يدري ولا سيارتي 

بجموح فتنتها ولا بجموحي

فتكت زجاجة بابها برزانتي

ما بين نكران إلى تلميح[8]

لكنه يباغت القارئ عن طريق "الالتفات" الذي غير به مسار الكلام إلى ذاته قائلًا:

يا خاطري لا ترتبك. كُن عاقلا

وتجمعي في بابها يا روحي[9]

ففي هذا البيت الذي يقع في القصيدة موقع الجملة الاعتراضية في النص، يهربُ الشاعر إلى داخله، ليعيد ترتيب أوراقه، يُخَاطِبُ ما ارتبكَ منهُ (الخاطر، الروح)، وكأنه يُفكر بصوتٍ يسمعه المتلقي.

إن هذا الالتفات منح النص مساحة أخرى، يرينا الشاعر من خلالها جانبًا غائبًا من المعنى، أي خلاف الموقف الذي وصفه في مطلع القصيدة؛ لينقل خلجاته، وما يعتمل في أعماقه، وليرصد لنا حديث نفسه، وهنا يكمن تأثير هذا الـمُخاطب في القصيدة.

وإذا كانت مخاطبة الذات في القصيدتين السابقتين تأتي عَرَضًا في النص، لأن الخطاب فيهما موجه في الأصل لغيرِ الذات، فإن الشاعر في قصيدة "آه" يوجه الخطاب كاملًا إلى ذاته، حيث يقول:

َلِّب كفوفكَ من دنياك هل جَمَعَت

إلا ظلالَ المنى .. إلا المواعيدا[10]

يتشابه كثير من الشعراء في أساليب تعبيرهم تشابهًا قد يصل بالقارئ حد الإحباط من الإنتاج الغزير المتناسخ، فلا تكاد تلمسُ عند بعضهم ملمحًا يميز قصائده، لا من حيث التراكيب اللغوية، ولا من حيث الثيمات والموضوعات، وإن كان ذلك لا ينفي الجماليات التي تنطوي عليها القصيدة.

ولعل الشاعر -على وجه الخصوص- من أكثر الأدباء حاجة إلى دمغة أسلوبية يَسِمُ بها إبداعه، ويترك أثره في كل نص يتهيأ لمعانقة الضوء، فالشاعر الحق "يصوغ عبارته على نحوٍ يتفرد به، حتى لكأنه جزء من سماته وملامحه، تستطيع أن تعرفه به كما تعرفه بقسمات وجهه"[1].

ولكن مع تلك الكثرة الغالبة لا نعدَمُ المتفردين، فثمة شعراء مكنتهم ملكة الإبداع من تشكيل هوية خاصة لنصوصهم؛ نستدل بها عليهم من خلال الأساليب المطروقة، ومن هؤلاء الشاعر السعودي/ أحمد السيد عطيف.

  إن أول ما يلحظه القارئ لقصائد الشاعر أحمد السيد وجود مُخاطَبٍ داخل النص، يناجيه صراحةً، وحضوره بارز لا يخفى، فقصيدة السيد خطابٌ يوجهه الشاعر إلى مُخاطَبٍ بعينه، خلاف "القارئ الغفل"، ربما يراه الشاعر أو يتخيله، أما القارئ فلا يدركه إلا من خلال الإشارات التي يتضمنها الخطاب، ووجود هذا المُخاطبُ يستدعي التساؤلات الآتية:

- من هو هذا المخَاطب؟ وما صفته؟ أهو واحد في كل نصوصه؟ أم يختلف من قصيدة إلى أخرى؟ وما المسافة بينه وبين الشاعر؟  

   - لماذا يستدعيه الشاعر؟  وما مدى تأثير هذا المخاطب في قصائده؟

ولكي أقتحم عوالمَ نصوصه الشعرية بهذه التساؤلات، فإنني لا أجدُ بدًّا من اللجوء إلى المنهج الأسلوبي، والاستعانة بأدواته على تقصي كينونة هذا المخاطب؛ للإفصاح عن ملامحه، وتأثيره في النصوص. متخذًا من ديوانه "زجاج" مدونة لهذه الدراسة، ولكن قبل ذلك سأبدأ بالتعريف بالديوان، وتوضيح ما المقصود بالمخاطب، ثم أنتقل إلى محاور الدراسة الثلاثة، وهي: أساليب مخاطبة الذات، وأساليب مخاطبة الآخر، وأساليب مخاطبة المعنى.

تمهيد

ديوان "زجاج" للشاعر أحمد عطيف:

يُعدّ ديوان "زجاج" الكتاب الشعري الوحيد الذي أصدره الشاعر والكاتب السعودي أحمد السيد عطيف عن النادي الأدبي بالرياض سنة 2009م، أما بقية قصائده التي كتبها بعد هذا الإصدار فقد نشرها في الصحف والمجلات.

ويتألف الديوان من ثلاث وعشرين قصيدة موزونة، اتضح ميل الشاعر فيها إلى القصيدة الشطرية، حيث بلغ عددها في ديوانه سبع عشرة قصيدة، بينما جاءت القصائد الأربع المتبقية على نظام التفعيلة.

وتتنوع موضوعات نصوصه ما بين وجداني يتناول فيها قضاياه العاطفية، وأخرى تحمل همًّا ثقافيًّا أو اجتماعيًّا، وتشترك جميعها في ابتعاد الشاعر عن المباشرة في عرض فكرته، فهو يعبر عنها في قالب درامي، يحول الموضوع إلى حدثٍ ملموس مؤثر، يلجأ فيه غالبًا لأحد المكونين السرديين: الحوار أو المخاطبة.


  • [1] في فلسفة النقد، زكي نجيب محمود، مؤسسة هنداوي، مصر، 2021م، ص 74.
  • [2]سان العرب، ابن منظور، مادة (خ ط ب)، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1998م.ص 2/1194.
  • [3] معجم اللغة العربية المعاصر، أحمد مختار عمر، عالم الكتب مصر، ط1، 2008م، مادة (خ ط ب)، 1/ 659.
  • [4] نظر: اللغة، إعداد وترجمة: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، المغرب، ط5، 2010م، ص61- 62.
  • [5] زجاج، أحمد عطيف، نادي الرياض الأدبي، الرياض، ط1، 2009م، ص 95.
  • [6] زجاج، أحمد عطيف، ص 95.
  • [7]  السابق، نفسه.
  • [8] السابق، ص15.
  • [9] السابق، نفسه.
  • [10] زجاج، أحمد عطيف، ص35.

إن الشاعر يستدعي الذات هذه المرة لغرض مختلف عن الغرضين السابقين، فالحزن هنا سيد الموقف، ولو أمعنا النظر في الأغراض الثلاثة التي اضطرت الشاعر للحديث إلى ذاته، لوجدنا أنها تتناسب وطبيعة الخطاب/ مخاطبة الذات، فالإنسان –بعيدًا عن الشعر والأدب– يعود إلى نفسه في مثل هذه المواقف، فمرة يؤنبها ويوبخها، ومرة يحاول أن يستعيد توازنه بحديثه معها، ومرة يبث إليها حزنه؛ ففي مناجاتها يجد سلواه.

إن تنوع الأساليب الإنشائية التي يؤسس بها الشاعر عملية المخاطبة تمنح النص حركة وحيوية، تكسر رتابة الوصف، والتعبير المباشر في القصيدة، كما تجعل النص قريبًا من وجدان القارئ، وقريبًا من تفكيره.

والمتتبع للأساليب التي ينشئ بها الشاعر عملية الاتصال بينه وبين الذات في النصوص الثلاثة السابقة يدرك تشابهها، فالشاعر يتحدث عن نفسه بضمير المتكلم المفرد المذكر (أنا)، بصفته المرسل للخطاب، ثم يستدعي الذات بأسلوبٍ يُشعِر القارئ بقربها منه، وباستجابتها له، إما عن طريق مُـخاطبتها مباشرة باستفهام وإما أمر أو نهي، يوجهه إليها، متضمنًا الإشارة بضمير المخاطَب (أنتَ)، الذي لا يأتي ظاهرًا في كل الأحوال، أو عن طريق النداء.

والاستفهامات التي استعملها السيد في القصائد الثلاث تقريرية، لا ينتظر إجابة عليها، بل يهدف منها إلى تبئير الفكرة التي يود الانطلاق منها إلى قول ما يريد، بينما تأتي أساليب الأمر في هذه القصائد حقيقية غير بلاغية؛ نظرًا إلى توافر شروط الاستعلاء فيها، فسلطة الشاعر على ذاته تخوله لاستعمال هذه الصيغة.

ويلاحظ ارتباط صيغتي الاستفهام والأمر في الأبيات السابقة، فإما أن تترتب صيغة الأمر على ما تطرق إليه في الاستفهام، وإما العكس، فجملة الأمر "خل الجرح منسكبا" تترتب على جملة الاستفهام "هل آلم الجرح؟"، وجملة الأمر "قَلّب كفوفك من دنياك" يترتب عليها الاستفهامان "هل جَمَعَت إلا ظلال المنى.. إلا المواعيدا". فالارتباط بين كل جملتي أمر واستفهام ظاهر بجلاء في الأبيات، وهو الذي يمنح النص درامية.

أما أسلوب "النداء" فلم يستخدمه الشاعر إلا للتنبيه على جزء من ذاته، كالقلب، والروح، والخاطر، ويلاحظ أنه يهتف لكل منها بأداة النداء للقريب "يا"؛ فالذات كما أسلفت أقرب الـمُخاطَبين إلى الإنسان.

ثانيًا– أساليب مخاطبة الآخر

إن المقصود بالآخر في قصيدة السيد شخصية لها وجودها وكيانها المستقل عن الشاعر، يتوجه إليها بخطابه، ومن المؤكد أن الشاعر يعرف هذا الآخر جيدًا، أما المتلقي فلا يدركه إلا من خلال الإشارات المضمنة في النص.

ثمة فرضية أخرى تبدو ممكنة أيضًا، وهي أن يكون الآخر مجرد صورة مُتَخيلة، ينصّبها الشاعر في قصيدته؛ ليقول عبر تعاطيه معها ما يريد قوله، وكذلك قد يكون بعض هذا الآخر حقيقي، وبعضه مُتَخيَّل.

وعلى أية حال، فإن ذاتَ الـمُخَاطبِ حاضرة في النص الشعري، ولابد أن نتعامل معها وفقَ الماهية أو الصفة التي تهيأت بها.

  تتعدد صورة "الآخر" الذي يخاطبه السيد في نصوصه بحسب الغرض الذي يقوده للتعبير عن فكرته، فالآخر يتمثل بنسب متفاوتة في كل عناصر الثنائيتين: (مجهول/معلوم)، (مذكر/مؤنث)، ولكن يُتفق على أنه "مفرد" في كل صفة يأتي بها.

مخاطَبٌ معلوم

في ثلاث قصائد يُخاطِبُ السيد أسماءً بعينها، هم أقربُ الأشخاص إليه حسب ما يتضح من النص الشعري، ويذكرها صراحةً، سواءً بصفتها القريبة، أو بالاسم، ففي قصيدة "آه يابه" يُناجي والده قائلًا:

"آآآآه يابَه / كل الطريق إليه أولها وآخرها حرابةْ/ من أين أدخل في غدي/ وغدي بلا بابٍ ألاوعهُ/ أأرسمهُ؟؟/ أكتبهُ كتابةْ"[11].

إن لحظة الضعف الإنساني هي التي تقود الشاعر للجوء إلى مَنْ كان يَراهُ منذ صغره مصدر القوة، والملاذ الآمن الذي لا يتحرج من البكاء بين يديه، والشكوى إليه، وأعني "الأب"، الذي سيظل في عين ابنه كبيرًا، وسيكون أثر مواساته مختلفًا عن مواساة البقية له، وخوف الشاعر من المستقبل في تلك المرحلة هي التي ألجأته إلى والده لبث الشكوى، وطرح تلك التساؤلات الـمُحيرة التي لا ينتظر تفسيرًا لها من والده، بل ينتظر منه التربيت على كتفه.

تتضح حيرة الشاعر في تساؤله ((من أين أدخل في غدي؟))، ويتبين يأسه في تقريره بأن ((غدي بلا بابٍ ألاوعه))، فحتى فكرة "المحاولة" للدخول إلى الغد الذي يريده مُستَبعَدة.، وأما ذلك الضعف الذي شَعر به لحظتها، فلم يجد أجدر من والده للانكفاء عليه.

وفي قصيدتين يوجه الخطاب إلى صديقه المقرب "بَرَّاق"، ففي مطلع قصيدة "جيزان" يقول:

بــرَّاق، كــيف أقــــول يــــا بَــــــرَّاق

سرقَ الكلام المنتقى سَــرَّاق

كان الكلامُ معي فضاع! كأنني

ما أدبــتْــنـــي لــــوعة وفِـــــــراقُ[12]

والشاعر بحسب سياق القصيدة متضجر من غربتهِ، والحنين يأخذه لمسقط رأسه الذي حرم الاستقرار به، وأصبحَ بين المكانين في فُرقَةٍ تتجدد، يتضح ذلك من البيتين التاليين:

مِــــن فُـــرقـــةٍ وتصُــبني في فُرقةٍ

أرأيتَ ماء العمر كيف يُــرَاقُ

عمري وداعاتٌ، فلم أظفر به

إلا وفَـــــــــرَّقَ بـــيـــنـــنا فَــــــــــرَّاقُ[13]

فالسُنون تمضي، والفُرقَة تأخذه من أقرب الناس إليه، ليكون في غربة ٍ يُرَاقُ فيها العمر، وأمام شعور "عدم الاستقرار" المقيتِ، يلوذ إلى رفيق دربِه الذي يذكره باسمه الصريح؛ ليبوح له بما يضيقُ به صدره.

وفي قصيدة "مدد" يعود الشاعر مرة أخرى، ولذات الغرض، إلى رفيق غربته "براق"، وإن كانت الفكرة مختلفة - شيئاً ما- هذه المرة عن القصيدة السابقة، حيث يقول:

قلتُ للبرّاقِ: يا وجهَ السعد

نثر الكورنيش أسرار البلد

خـــفـــفـت جِـدة مــن أثــقالـهــا 

لم تعد جدة تخشى من أحد[14]

إن البوح لأقربِ الناس إليكَ يجعلكَ تقول كل ما تُريدُ، وهذا المعنى يتجلى في هذه القصيدة، حيث يبوح الشاعر لصديقه بكل شيء يزعجه في الغربة، يحدثه عن النساء في الكورنيش، وعن العباءات وفتنتها، وكيف أنها تعيد إليه الحنين إلى مسقط رأسه، فعن هذا الإغواء يقول لصديقه:

َعِـــِبَت جـــدةُ فينا لَــــــعِبـــا

لعبتْ فينا ولـم ترحم أحد

هُزّ قلبي يستعِدْ حِشمتهُ

هزَّهُ قل: يا جميلات ضمد[15]

ومن هنا نُدركُ تأثير هذا الـمُخاطَب في قصيدة السيد، حيث جعله يبلغ أقصى درجات البوح، والتعبير دون تحفظ على أفكاره، يقول ما يعتمل في نفسه، وكأن من يستمع إليه رفيقه فحسب، لا كل قارئ للنص.

من حيث الأسلوب تأتي القصائد التي يتجه فيها الخطاب إلى آخر/معلوم باستفهامات ليست تقريرية هذه المرة، بل استفهامات محيرة للشاعر نفسه، ((من أين أدخل في غدي؟/ كيف أقول يا براق؟)) ولا ينتظر من الـمُخاطَبِ إجابة عليها، فليس المسؤول فيها بأعلم من السائل، ولكنه يريد أن يخبر هذا الآخر بما يحيره، وبهمومه التي تشغل تفكيره، لذا فهو لا يبحث إلا عمن يشاطره المواجع.

تتخفف هذه القصائد الثلاث من أسلوب الأمر، فليس للشاعر سلطة على صديقه، ولا على والده، وهو كذلك لا يطلبُ شيئًا منهما، سوى أن يُدرك أن حوله مَن يشعر به، ويتعاطف معه، فلم يكن لفعل الأمر حضور إلا في الجملة الشرطية "هز قلبي يستعد حشمته".

تنطلق عملية التواصل بين الشاعر والمخاطب في هذه النصوص الثلاثة من النداء، الذي يوجهه الشاعر إلى هاتين الشخصيتين، فالمرسل هو الشاعر، ويستعمل لاستدعاء الـمُخَاطَبَين أداة النداء للقريب (يا)، لقربهما منه، وقد يستغني عن أداة النداء ليشعر القارئ بدنو الـمُخَاطب منه، كندائه لصديقه "براق" في قوله "براق كيف أقول".

أما في حديثه لوالده فقد ناداه باللفظ الدارج في الاستعمال اليومي "آآآآه يابَه"، وهو بهذا الاستعمال جعلنا نشعر بالقرب الشديد منه، للحد الذي جعله يستغني عن اللفظ الفصيح، ليناديه باللفظ الذي اعتاد على ندائه به، وكأنه يُشعِر القارئ بأنه أمام والده حقًّا.

مخاطَبٌ مجهول

تتفق القصائد التي يأتي فيها الـمُخاطَب مجهولًا في أن هذا الـمُخَاطَب "أنثى"، فلا عجب إذن أن يكون مجهولًا، لا سيما وأن الأغراض الشعرية التي يطرقها السيد وهو يوجه خطابه إليها، تنطوي على خصوصية، تستدعي إخفاء صفة الـمُخَاطب، وتكتفي بالضمائر الدالة عليه.

ويستأثر هذا المخاطَب بأكثر القصائد في ديوان السيد، ففي قصيدتين يستدعيه إلى جانب مخاطبته لذاته كما أسلفنا، وهما قصيدتا "هل آلم الجرح؟"، و"استسقاء"، لكنه يخصص له النص الشعري كاملًا في سبع قصائد، لا يُناجي فيها أحدًا سواه، وهي على التوالي: "زخات المواعيد، سؤال، رشد، انتحار، أنت أحلى، إلا الفراق، لو مرة".

إن الموضوع الأكبر الذي تنبثق منه أغراض استدعاء هذا المخاطَب/الأنثى هو الحب، وكل ما يمس العلاقة بين الحبيبين، فتارة يستدعيها ليواسيها، كما فعل في قصيدة "سؤال" التي يقول في مطلعها:

هل صوتكِ الرنان يخفي خلفه

جرحا قديما في الضلوع خفيَّا[16]

وتارة يناديها متوددًا، كما في قصيدة "زخات المواعيد"، أو قصيدة "رشد" التي يقول فيها:

لا تعتقيني من عينيكِ لي بهما

شُعلٌ شغلتُ به عمري، شغلتُ غدا

شــدي وثـــاقــي شديه، أنا رجل

أدري بقلبي، لــولا أنتِ، ضاع سُدى[17]

ومرة يأتي متشببًا، كما في قصيدة "مزاجي أنتِ"، أو قصيدة "أنتِ أحلى" التي يقول في مطلعها:

يا أنسَ عمري مالي

أراكِ كالأنس عجلى

أتسأليني؟ وخجلى!

ومذ عرفتكِ خجلى[18]

أو يخاطبها "متخوفًا" من مصيره دونها، كما في قصيدة "إلا الفراق"، ومنها يقول:

إلا الفراق .. أنا احتمالي دونه

لا لن ينوء بجمره صدري[19]

وغير ذلك من الأغراض التي تقتحم العالم الخاص بين كل عاشقين، ومرجعيتها الكبرى هي الحب.

ولعل أول ما يلحظه القارئ في الشواهد السابقة، وفي قصائده التي يخاطب بها أنثى أن مرسل الخطاب واحد مفرد، وكذلك مستقبِلَه، عدا قصيدة واحدة تخرج عن هذا التوصيف، وهي قصيدة "لو مرة" التي يقول فيها:

مزاجي أنتِ صبينا جميعا في فناجيلكْ
أديرينا على شفتيك لو مرة
لتُسكر نفسها الخمرة
وتلسع نفسها الجمرة[20]

إنه يتعدد أمام هذه الأنثى، لا يغدو واحدًا، ويريد أن يأتيها بجميعه، لا بمفرده، وهي في كل الأحوال واحدة، قادرة على احتوائه، سواءً أكان واحدًا أم متعددًا.

ولو تساءلنا: ما الذي يمنحهُ هذا المخاطبُ لقصيدة السيد؟ وما الذي يضيفه إليها؟ وهل من أثر له؟

إننا عندما نخطط للحديث مع أحد ونستحضر طيفه فإننا نقول أكثر مما نريد، وربما لو حضر أمامنا فعليًّا لما تمكنا من قول ما رتبنا له، وهذا ما يحدث تمامًا في قصيدة السيد، إنه يستحضر طيف أنثاه، ليتحدث إليها، ويعبر عن كل مكنوناته تجاهها، ولو كانت حاضرة في الحقيقة أمامه، فلن يتمكن من الإتيان بكل تلك الأفكار التي تطرق إليها، ففي قصيدة "سؤال" يقول:


  • [11] زجاج، أحمد عطيف، ص11.
  • [12] السابق، ص39.
  • [13] السابق، نفسه.
  • [14] السابق، ص87.
  • [15] السابق، نفسه.
  • [16] السابق، ص59.
  • [17] السابق، ص47.
  • [18] السابق، ص27.
  • [19] السابق، ص19.
  • [20] السابق، ص79

للحب أنتِ خلقتِ، لا لم تُخلقي

لــلحزنِ يــصــرخُ بــكــــرةً وعــشيّا

لا تُـزحمي بالهم صدرك، واطرحي 

يغدو الحديثُ عن الهموم شهيّا[21]

  ففي البيت الأول يستعمل جملة مثبتة "للحب أنت خلقت"، ويتعامل معها وكأنها حقيقة ثابتة، ليغرس في ظنها أنها لم تخلق لشيء سواه، ثم يتبعها بجملة منفية تبين خطأ وقوعها في الحزن (لا لم تُخلقي للحزن)، تليها في البيت الثاني جملة نهي مترتبة على الجملتين السابقتين (لا تزحمي بالهم قلبك)، وهذا التتابع في الجمل يبدو منطقيًّا من حيث التركيب.

والمتأمل في الأساليب التي اتبعها الشاعر في هذا الخطاب يلمس ميله للحجاج، فهو يحاول أن يقنع أنثاه بما يريد قوله، حيث يأتي بالجمل المثبتة وكأنها حقائق، ثم يبرهن على صحتها بعدد من الجمل الشعرية التي تتنوع فيها أساليب الإنشاء، من استفهام، ونفي، ونهي، وأمر، مراعيًا فيها المنطقية كما رأينا في الشاهد السابق، وهذه الأساليب تحضر في معظم النصوص التي أشرت إليها.

ثالثًا– أساليب مخاطبة المعنى

قد يُحدثُ المرء نفسه إن كان في حاجة للحديث إليها، وقد يحدثُ طيفَ الآخرين إن لم يجد بُدًّا من مناجاة خيالهم، ولكنه أحيانًا يشعر بحاجة لاستنطاق ما لا ينطقُ، والبوح إلى ما لا يسمع ولا يرى؛ فيؤنسن ما ليس له وجود حسي؛ لأنه –أي ذلك المخاطَب- يُحدِثُ أثرًا في حياته، ومن أمثلة هؤلاء المخاطَبِين الذين أعنيهم: الأعراف الثقافية، أو الاجتماعية، أو الدينية.

والشاعر أحمد السيد عطيف لجأ لهذه التعلة، فخاطبَ المعاني وكأنه يخاطب إنسانًا، بل يخال من يقرأ دون تعمق بأن المخاطبَ شخص يعرفه، ونجد ذلك في أربع قصائد، هي "من؟، عباءتان، خذ راحتك، مسرى"، التي يناقش فيها الأثر الذي أحدثته الصحوة في مجتمعاتنا في الحقبة السابقة، وتأثيرها في الناس.

ففي قصيدة "خذ راحتك" يقول: "في الظلام الذليل المبينْ/ على عجلٍ.. صفنا أجمعين/ تلنا كلنا للجبين/ ووجه بنا كيف شئتَ/ وسم بما شئتَ/ ثم .../ على مهل فليكن موتنا/ فهل تتأنى/ تأنَّ تأنَّ .. وخذ راحتك!/ ألا إن أعناقنا وجبت منذ حين/ أرح شفرتك/ لنشعرَ، لو مرةً، - إذن نموت – بأنا نموووووت.."[22]

إن كلمة "الظلام" هنا مجازية، تُحيلُ إلى الثقافة السائدة في تلك الآونة، لذا وصفه بالذليل، ثم المبين، أي ظاهر الذل، ولأنه كذلك فقد رأى أن يُعجل على المجتمع كله بالموت (أجمعين، كلنا)؛ لأن الموت أجدى من حالة الـمَوَات التي كان يعيشها آنذاك. بل ويطالب الذباح بأن يريح شفرته، ليشعرَ بالموتِ حقيقة هذه المرة لا مجازًا كحياته، لأن حياته السابقة ما هي إلا موت يرتدي ثياب الحياة. وأفعال الأمر المتتالية في القصيدة ليست حقيقية، بل بلاغية، فهو يطلب ويتمنى ولا يأمر، فليس بيده من الأمر شيء.

وفي قصيدة "مَن" يستغربُ وجود امرأة وحيدة بين حشد من الرجال، فيقول: "من هذه؟/ ما بيننا بشرٌ/ يتزاحمون ووحدها قائمةْ!/ لو أنها .. لو أن بعض نقابها../ لو ../ أربكتني لحظتي العائمةْ/ لفتاتها لفتاتها، وأريجها/ والقامة القروية الصارمةْ / ضمًّ العباءة../ كفُّها .. /حناؤها/ يا ويلتي! / لكأنها فاطمةْ "[23].

إنه ينتقد ثقافة النقاب وغطاء الوجه الذي كان لزامًا، لا اختيارًا، فتلك المرأة الواقفة لم يتمكن من التعرف عليها، ويرى في وقفتها ولفتاتها وقامتها، ونقش حناء كفها، شبهًا كبيرًا من زوجته، لكن الثقافة –آنذاك– تمنعه من القرب منها، والحديث إليها، ليعرف من تكون، فهو يخشى ألا تكون هي، كما يخشى أن تكون هي، وفي كل الأحوال لا يستطيع الاقتراب منها.

إن أول ما يمكن أن يلحظه القارئ للنصين السابقين، هو أن المتحدث ليس الشاعر وحده، بل المجتمع بأكمله، فهو يتحدث بضمير المتكلم للجمع (نحن)، أو (نا) التي تأتي في موقع المفعول به (صفنا، تلنا، بنا...)، أما المرسَلُ إليه فيعبر عنه بضمير المخاطَب المفرد (شئتَ، تأنَّ...)، وفي ذلك دلالة على أن هؤلاء الظلاميين قلة فرضوا ثقافتهم على المجتمع، والأمر كذلك ينطبق على بقية النصوص، عدا نص "عباءتان" التي يخاطب فيها الثقافة بصفة (المفرد/المذكر)، ليصف على لسانه العباءةَ من حيث لا تراها المرأة، ويبين أن لبس العباءة يجعل المرأة فاتنة أكثر من كونها بلا عباءة، يقول:

دَع ذا، وعُدَّ القول في أخرى

مطرزةً تلمح عن قليلٍ تنجل

الريحُ يومَ الريحِ ما من حشمة 

إلا وكانت لبسة المتفضل

الريح تهتك سر كل عباءةٍ 

هتكا، وتلمسُ جرحها في مقتل

لقد سبَقت هذه الأبيات أبيات أربعة، يتحدث فيها عن العباءة عمومًا، وهذا الالتفات (دع ذا) هيأ له الحديث عن نوع آخر من العباءات، وهي المطرزة، وعن فتنتها للعيون، وإبرازها للمفاتن.

يتخفف الشاعر في هذه القصائد الأربع من أسلوب الاستفهام، فلا يأتي إلا نادرًا، كما يتخفف من أساليب النهي؛ لأنه في هذا المقام ليس بحاجة إلى هذين الأسلوبين، فلا هو يريد أن يتساءل عن الثقافة، ولا هو مؤهل للنهي، لذا تكثر فيها الجُمل المثبتة، التي يحاول من خلالها أن يبين مكامن الخلل في الثقافة، وكذلك تشيع أساليب الأمر، وإن كان الأمر كما أسلفنا بلاغي، يأتي بمعاني الترجي أو التمني.

الخاتمة
  • ليس للمخاطَب في شعر السيد صفة واحدة، فمرة يُخاطبُ ذاته، ومرة شخصًا آخر، ومرة يخاطبُ معنى سائدًا.
  • في خطاب السيد لذاته تتجلى أغراضه في تأنيب الذات وتوبيخها، أو محاولة استعادة توازنه بحديثه معها، أو في التعبير عن حزنه إليها بحثًا عن سلوى، أما في خطابه للآخر، فتختلف الأغراض وفقًا لاختلاف هذا الآخر، ففي بوحه للآخر/ المعلوم ينتظر المواساة، وفي مناجاته للآخر/ المجهول –وهي أنثى في العادة– فتتجلى أغراضه في كل ما يتعلق بالحب من عتبٍ، أو تشبب، أو خوف الفقد، أو المواساة، وفي خطابه للمعنى، يتجلى غرضه في انتقاد الأعراف الاجتماعية التي دعت إليها الصحوة، وأثرت في المجتمع.
  • في خطاب الشاعر لذاته يستعمل -عادة- أسلوبي الاستفهام التقريري والأمر، حيث يترتب أحدهما على الآخر، أما في خطابه للآخر/ المعلوم فيستعمل استفهامًا غير تقريري، بل استفهام محير جعله يبث همه لأقرب الناس إليه بحثًا عن مواساة، متخففًا من أسلوب الأمر، وفي خطابه للآخر/ المجهول يلجأ لأسلوب المحاججة، بحيث يأتي بجملة مثبتة وكأنها حقيقة، ثم يتبعها بجمل النفي والنهي، ثم الأمر. أما في مخاطبته للمعنى، فإنه يلجأ كثيرًا لأسلوب الأمر البلاغي، الذي لا يحمل معاني الأمر، بل الترجي أو التمني.
  • عادة ما ينشئ الشاعر عملية التواصل بينه وبين المخاطَب ليكون المتحدث/ الشاعر بصفة المفرد المذكر، والمخاطبُ غالبًا ما يكون مفردًا، سواء أكان مذكرًا أم مؤنثًا، أما في خطابه للمعنى فإن الشاعر يتحدث عن نفسه بضمير الجمع، وكأنه يتحدث عن المجتمع بأكمله، بينما يأتي المرسَلُ إليه مفردًا.
  • تتيح المخاطبة مساحة للشاعر ليبرز جانبًا مظلمًا من المعنى، لن نتمكن من رؤيته لو لم ينقلنا إليها الالتفات.
  • تمنح المخاطبة والحوارية نصوص السيد حيوية ودرامية تكسر روتين التعبير المباشر، والوصفية.

    المراجع
  • - الأسلوب والأسلوبية، عبدالسلام المسدي، الدار العربية للكتاب، ليبيا، ط3، د.ت.
  • - زجاج، أحمد عطيف، نادي الرياض الأدبي، الرياض، ط1، 2009م.
  • - في فلسفة النقد، زكي نجيب محمود، مؤسسة هنداوي، مصر، 2021م.
  • - اللغة، إعداد وترجمة: محمد سبيلا وعبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، المغرب، ط5، 2010م.
  • - معجم اللغة العربية المعاصر، أحمد مختار عمر، عالم الكتب، مصر، ط1، 2008م.

  • [21] السابق، ص57
  • [22] زجاج، أحمد عطيف، ص43.
  • [23] السابق، ص91.