بيــــــان أبو دهام
"التوحد ليس مرضًا، إنّه مجرد فرق"
- د. جيمس ماكغراث- مشخّص بالتوحد
المقدمة
يلحظ الناظر في موضوعات الرواية العربية وهمومها شحًا في تناول موضوعات الإعاقة، وخاصة الإعاقة من جانبها السلوكي والذهني مثل التوحد، فلا نجد إلّا روايات معدودة في معالجتها لهذا الجانب[1] مقارنةً بغيرها، مثل: الإعاقة البصرية والحركية، وقد قابل هذا غيابٌ في المعالجة النقدية، حيث نجد دراسات عديدة تعرّضت للعمى، وعجز الحركة ربّما لشيوع تلك الإعاقات آنذاك في الأدب العربي منذ عصوره الأولى التي كان فيها "المعري" نموذجًا وظاهرةً إبداعية معبّرة عن ذاتها، ولم أجد بحسب اطلاعي التفاتًا كافيًا لغيرها.
وقد لفت انتباهي أثناء البحث عن مدوّنة مناسبة للبحث أنّ الروايات المصرية تتصدّر المشهد في تناولها شخصية الطفل المتوحد، واللافت أكثر أنّ توظيف هذه الشخصية عادةً ما يحضر في سياق الجريمة أو الرعب والغموض. هذا الحضور أثار تساؤلات تسعى الورقة إلى الإجابة عنها، تتمثل في:
- لماذا اختار الكاتب فضاء الجريمة لتوظيف شخصية الطفل المتوحد؟ وهل كان ذلك للإشارة إلى غموض التوحد، أم استغلالًا له في عالم الجريمة؟
- كيف حضر طفل التوحد وسلوكه النمطي في الرواية، وهل مُثّل بصورة سلبية أم إيجابية؟
- أما السؤال الأهم فهو هل من حق الرواية، وروايات الجريمة بالتحديد أن تنوع في شخصياتها الخيالية، وتتعامل مع الإعاقات الذهنية المختلفة كما تتعامل مع الطبيعية بخيالية أدبية؟ وهل سيؤثر ذلك في الفهم المجتمعي لإعاقة التوحد؟
ولأنّ عنوان الورقة ومادتها وأسئلتها تركز على فئة "التوحد" رأيت أن تكون المعالجة النقدية من منظور دراسات الإعاقة والتنوع العصبي [2]؛ لعنايتها بهذه الفئة، وضرورة محاكمة تمثيل إعاقة شخصيات التوحد، فهل مُثّلت مشكلاتهم وواقعهم بصورة حقيقية أم طالها المبالغة والتشويه، وسأقتصر مراعاةً لحدود الورقة على رواية واحدة من ثلاثية التوحد لمحمود أمين[3]، وهي رواية "حالة توحد".
التوحد بين الإعاقة والغموض
تتمحور رواية "حالة توحد" حول فكرة رئيسة تتعلق بإعاقة التوحد، وطبيعة تفاعلات المتوحد مع محيطه الخارجي، وتتّخذ الجريمة فضاءً لاكتشاف حالة التوحد وسلوكياتها التي بدت للمجتمع المحيط لغزًا يوازي لغز الجريمة في الغموض، هذا الحضور للطفل التوحدي في روايات الجريمة والغموض شائع أيضًا في الأدبيات الأجنبية، ومثالها الأشهر رواية "حادثة الكلب الغريبة في الليل. The Curious Incident of the Dog in the Night-Time" للكاتب البريطاني "مارك هادون Mark Haddon"، ورواية "روبرنيكر Rubbernecker" لـــ"بليندا باور"Belinda Bauer، وغيرها من الروايات التي قادت أحداثها شخصيات توحدية في فضاء جرائمي وغامض[4] ، وهو حضور نمطي يدعو للتساؤل؛ لأنّه انتقل لعالم الرواية العربية، فهل روايات الجريمة هي النوع الأنسب لتمثيل التوحد؟
يصنّف التوحد بوصفه إحدى الإعاقات "الغامضة[5] ، ومن أكثر اضطرابات الطفولة إثارةً للحيرة، يثبت ذلك تعدد تسمياته التي بدأت بوصفه متلازمة سلوكية (الطبيب النمساوي ليو كانر ١٩٤٣م)، والبعض الآخر ذهب في وصفها باضطراب انفعالي، والبعض يراه نتيجة لبعض التأثيرات البيئية، إلى أن عرّفته جمعية الطب النفسي الأمريكية عام ٢٠٠٠م بأنّه اضطراب نمائي وليس نفسيًا ولا انفعاليًا، وهو أيضًا خُلقي يولد مع الطفل منذ الولادة وليس نتيجة، وصنّفه الدليل الإحصائي التشخيصي والإحصائي (DSM-5) بأنّه إعاقة تطورية عصبية، وليس مرضًا عقليًا.
والواضح من تعامل الروايات مع هذه الإعاقة أنّ توظيف إعاقة طفل التوحد -في بعض الروايات- لم تكن اعتباطية، بل هو توظيف دلالي يظهر من خلال التفاعل بين الشخصية وعناصر النص؛ لإيضاح الحاسة المعطلة لدى طفل التوحد، وبعض الروايات اتّخذت هذه الإعاقة أداةً سردية تستند إليها الروايات التشويقية، خاصة الروايات مفتوحة النهايات، التي تبقي في النهاية ما يقود إلى جزءٍ آخر، أو تُخلف تساؤلات معلقة للقارئ.
هذا التوظيف يسميه الباحثان في دراسات الإعاقة " David T. Mitchell and Sharon L.Snyder" بــــــ"العكازة السردية Narrative Prosthesis"[6] ، وهو مصطلح يُشير إلى الطريقة التي تُستخدم بها الإعاقة بوصفها عكازًا تعتمد عليه الروايات لزيادة قوّتها التشويقية، فهي تمدّ فضاء الرواية بمخزون وصفي مختلف خارج عن المألوف[7]، ولكون إعاقة التوحد منطوية على ذاتها، وصامتة إن صحّ وصفها بذلك، فهذا يمنح الراوي حرية إسقاط كل ما يتخيّله عليها.
رواية "حالة توحد"[8] جمعت بين محاولة التركيز على الإعاقة بسطحية لا تتجاوز التركيز على السلوك، والمعلومات العشوائية حول التوحد، واتخذت من الطفل التوحدي شخصية محورية، قادت الرواية إلى تمثيلات يتجاذب فيها غموض الإعاقة مع غموض الجريمة؛ لتخلق عالمًا من التشويق الذي استمر في الأجزاء الثلاثة.
التوحد بوصفه لغزًا
تبدأ رواية "حالة توحد" أول فصولها بجريمة قتل اعتاد الضابط "كرم" على حدوثها، فباشر في العمل عليها مخمنًا أنّها قضية سهلة سيصل إلى فاعلها بمجرّد رفع البصمات، والوصول إلى أداة الجريمة، لكن المفاجأة تأتي من وجود الطفل "مازن" وحده في مسرح الجريمة، ويداه ملوثتان بالدماء، غير مبالٍ للجثتين المقتولتين أمامه -واحدة منهما هي جثّة والدته "مي"-، ولا للدماء، ولا للمكان الذي احتشد برجال الشرطة.
هذا الطفل كان محور تأمل الضابط، الذي أمعن في مواصفاته الشكلية التي تميل لملامح الأنوثة فـــ"شعره بني ناعم طويل يزيد من الإحساس أنّه بنت، عيناه زرقاوان، لكنها زرقة ليست زرقة عادية، بل زرقة فاتحة بطريقة غير طبيعية"[9]، ومما أثار حالة تأمل الضابط المعتاد على الجرائم حالة الهدوء التي لزمت "مازن" فــــ"كيف يجلس هكذا ببرود؟"[10]
شكّلت حالة الهدوء هذه لغزًا محيرًا للضابط، وأثارت العديد من الأسئلة التشويقية للقارئ، فهل يمكن أن يكون هذا الطفل الهادئ قاتلًا؟ خاصةً أنّ سلاح الجريمة الحاضر في مكان الجريمة هو المقص الذي بين يديه الملطختين بالدماء!
- [1] من تلك الروايات رواية "ذاتَوي" لمحمد عصمت، "البحث عن أشياء نادرة" لعاطف سنارة، "أوتيزم" لرامي أحمد، "عطر الورد في توحد داوود" لأنهار الفردان، "عُروب بضم العين" لهديل الحربي، "أثر النحلة طيف التوحد" لخلود خالد، "أطياف الحب: قصة عائلة مع التوحد" لخلود الكندري، "أرني الدنيا بعينيك" لإيمان العليلي، "خاوية" لأيمن العتوم، "طيف سبيبة: رواية لليافعين "للطيفة لبصير.
- [2] هي حركة مناصرة للذين لديهم اختلافات عصبية، تنادي بقبول التوحد والحالات العصبية الأخرى، بوصفها جزءًا طبيعيًا من التنوع العصبي البشري يجب تقبلها واحتضانها، وللمزيد حول هذا ينظر: https://www.psychologytoday.com/us/basics/autism/neurodiversity-and-the-benefits-autism وأيضًا كتاب .Autistic Community and the Neurodiversity Movement, stories from the Frontline .2020
- [3] محمود أمين محمود أحمد: روائي مصري ولد في القاهرة سنة ١٩٨٢م، التحق بكلية العلوم بجامعة عين شمس، ثمّ عيّن معيدًا بقسم الرياضيات، وهو الآن أستاذ مساعد بالقسم، من نتاجه الروائي: ثلاثية توحد: (حالة توحد- نائب القدر- قاتل من عالم آخر)، الحشاش، استجواب، رقصة الشيخ، ورواية "هي"، وله أيضًا مجموعة قصصية بعنوان "التشريفة".
- [4] للمزيد يُنظر: https://booktrib.com/2023/10/17/5-thrilling-novels-led-by-badass-autistic-main-characters/
- [5] يستخدم هذا الوصف للإشارة إلى الإعاقات التي لا تكون ظاهرة على المستوى الجسدي، مثل: الأمراض النفسية، واضطرابات التعلم (عسر القراءة- نقص الانتباه- فرط النشاط)، واضطرابات طيف التوحد التي يصعب فهمها لأنها غير مرئية.
- [6] يترجمه البعض بـــ"التركيب السردي الاستعاضي"، لكني أجد العكازة السردية أدق في وصف الفكرة التي يقصدها الباحثان.
- [7] يُنظر: Mitchell, David T., and L.Snyder,Sharon.(2000) Narrative Prosthesis: Disability and the Dependencies of Discourse, The University of Michigan Press, PP:47-63.
- [8] أمين، محمود (٢٠١٦م). حالة توحد، دار بصمة للنشر والتوزيع.
- [9] حالة توحد، ص٧.
- [10] حالة توحد، ص١١.