تمثــيـلات غموض الإعاقة في رواية "حالة توحد" لمحمود أمين

بيــــــان أبو دهام

"التوحد ليس مرضًا، إنّه مجرد فرق"
- د. جيمس ماكغراث- مشخّص بالتوحد

المقدمة

يلحظ الناظر في موضوعات الرواية العربية وهمومها شحًا في تناول موضوعات الإعاقة، وخاصة الإعاقة من جانبها السلوكي والذهني مثل التوحد، فلا نجد إلّا روايات معدودة في معالجتها لهذا الجانب[1] مقارنةً بغيرها، مثل: الإعاقة البصرية والحركية، وقد قابل هذا غيابٌ في المعالجة النقدية، حيث نجد دراسات عديدة تعرّضت للعمى، وعجز الحركة ربّما لشيوع تلك الإعاقات آنذاك في الأدب العربي منذ عصوره الأولى التي كان فيها "المعري" نموذجًا وظاهرةً إبداعية معبّرة عن ذاتها، ولم أجد بحسب اطلاعي التفاتًا كافيًا لغيرها.

وقد لفت انتباهي أثناء البحث عن مدوّنة مناسبة للبحث أنّ الروايات المصرية تتصدّر المشهد في تناولها شخصية الطفل المتوحد، واللافت أكثر أنّ توظيف هذه الشخصية عادةً ما يحضر في سياق الجريمة أو الرعب والغموض. هذا الحضور أثار تساؤلات تسعى الورقة إلى الإجابة عنها، تتمثل في:

- لماذا اختار الكاتب فضاء الجريمة لتوظيف شخصية الطفل المتوحد؟ وهل كان ذلك للإشارة إلى غموض التوحد، أم استغلالًا له في عالم الجريمة؟

- كيف حضر طفل التوحد وسلوكه النمطي في الرواية، وهل مُثّل بصورة سلبية أم إيجابية؟

- أما السؤال الأهم فهو هل من حق الرواية، وروايات الجريمة بالتحديد أن تنوع في شخصياتها الخيالية، وتتعامل مع الإعاقات الذهنية المختلفة كما تتعامل مع الطبيعية بخيالية أدبية؟ وهل سيؤثر ذلك في الفهم المجتمعي لإعاقة التوحد؟

ولأنّ عنوان الورقة ومادتها وأسئلتها تركز على فئة "التوحد" رأيت أن تكون المعالجة النقدية من منظور دراسات الإعاقة والتنوع العصبي [2]؛ لعنايتها بهذه الفئة، وضرورة محاكمة تمثيل إعاقة شخصيات التوحد، فهل مُثّلت مشكلاتهم وواقعهم بصورة حقيقية أم طالها المبالغة والتشويه، وسأقتصر مراعاةً لحدود الورقة على رواية واحدة من ثلاثية التوحد لمحمود أمين[3]، وهي رواية "حالة توحد".

التوحد بين الإعاقة والغموض

تتمحور رواية "حالة توحد" حول فكرة رئيسة تتعلق بإعاقة التوحد، وطبيعة تفاعلات المتوحد مع محيطه الخارجي، وتتّخذ الجريمة فضاءً لاكتشاف حالة التوحد وسلوكياتها التي بدت للمجتمع المحيط لغزًا يوازي لغز الجريمة في الغموض، هذا الحضور للطفل التوحدي في روايات الجريمة والغموض شائع أيضًا في الأدبيات الأجنبية، ومثالها الأشهر رواية "حادثة الكلب الغريبة في الليل. The Curious Incident of the Dog in the Night-Time" للكاتب البريطاني "مارك هادون Mark Haddon"، ورواية "روبرنيكر Rubbernecker" لـــ"بليندا باور"Belinda Bauer، وغيرها من الروايات التي قادت أحداثها شخصيات توحدية في فضاء جرائمي وغامض[4] ، وهو حضور نمطي يدعو للتساؤل؛ لأنّه انتقل لعالم الرواية العربية، فهل روايات الجريمة هي النوع الأنسب لتمثيل التوحد؟

يصنّف التوحد بوصفه إحدى الإعاقات "الغامضة[5] ، ومن أكثر اضطرابات الطفولة إثارةً للحيرة، يثبت ذلك تعدد تسمياته التي بدأت بوصفه متلازمة سلوكية (الطبيب النمساوي ليو كانر ١٩٤٣م)، والبعض الآخر ذهب في وصفها باضطراب انفعالي، والبعض يراه نتيجة لبعض التأثيرات البيئية، إلى أن عرّفته جمعية الطب النفسي الأمريكية عام ٢٠٠٠م بأنّه اضطراب نمائي وليس نفسيًا ولا انفعاليًا، وهو أيضًا خُلقي يولد مع الطفل منذ الولادة وليس نتيجة، وصنّفه الدليل الإحصائي التشخيصي والإحصائي (DSM-5) بأنّه إعاقة تطورية عصبية، وليس مرضًا عقليًا.

والواضح من تعامل الروايات مع هذه الإعاقة أنّ توظيف إعاقة طفل التوحد -في بعض الروايات- لم تكن اعتباطية، بل هو توظيف دلالي يظهر من خلال التفاعل بين الشخصية وعناصر النص؛ لإيضاح الحاسة المعطلة لدى طفل التوحد، وبعض الروايات اتّخذت هذه الإعاقة أداةً سردية تستند إليها الروايات التشويقية، خاصة الروايات مفتوحة النهايات، التي تبقي في النهاية ما يقود إلى جزءٍ آخر، أو تُخلف تساؤلات معلقة للقارئ.

هذا التوظيف يسميه الباحثان في دراسات الإعاقة " David T. Mitchell and Sharon L.Snyder" بــــــ"العكازة السردية Narrative Prosthesis"[6] ، وهو مصطلح يُشير إلى الطريقة التي تُستخدم بها الإعاقة بوصفها عكازًا تعتمد عليه الروايات لزيادة قوّتها التشويقية، فهي تمدّ فضاء الرواية بمخزون وصفي مختلف خارج عن المألوف[7]، ولكون إعاقة التوحد منطوية على ذاتها، وصامتة إن صحّ وصفها بذلك، فهذا يمنح الراوي حرية إسقاط كل ما يتخيّله عليها.

رواية "حالة توحد"[8] جمعت بين محاولة التركيز على الإعاقة بسطحية لا تتجاوز التركيز على السلوك، والمعلومات العشوائية حول التوحد، واتخذت من الطفل التوحدي شخصية محورية، قادت الرواية إلى تمثيلات يتجاذب فيها غموض الإعاقة مع غموض الجريمة؛ لتخلق عالمًا من التشويق الذي استمر في الأجزاء الثلاثة.

التوحد بوصفه لغزًا

تبدأ رواية "حالة توحد" أول فصولها بجريمة قتل اعتاد الضابط "كرم" على حدوثها، فباشر في العمل عليها مخمنًا أنّها قضية سهلة سيصل إلى فاعلها بمجرّد رفع البصمات، والوصول إلى أداة الجريمة، لكن المفاجأة تأتي من وجود الطفل "مازن" وحده في مسرح الجريمة، ويداه ملوثتان بالدماء، غير مبالٍ للجثتين المقتولتين أمامه -واحدة منهما هي جثّة والدته "مي"-، ولا للدماء، ولا للمكان الذي احتشد برجال الشرطة.

هذا الطفل كان محور تأمل الضابط، الذي أمعن في مواصفاته الشكلية التي تميل لملامح الأنوثة فـــ"شعره بني ناعم طويل يزيد من الإحساس أنّه بنت، عيناه زرقاوان، لكنها زرقة ليست زرقة عادية، بل زرقة فاتحة بطريقة غير طبيعية"[9]، ومما أثار حالة تأمل الضابط المعتاد على الجرائم حالة الهدوء التي لزمت "مازن" فــــ"كيف يجلس هكذا ببرود؟"[10]

شكّلت حالة الهدوء هذه لغزًا محيرًا للضابط، وأثارت العديد من الأسئلة التشويقية للقارئ، فهل يمكن أن يكون هذا الطفل الهادئ قاتلًا؟ خاصةً أنّ سلاح الجريمة الحاضر في مكان الجريمة هو المقص الذي بين يديه الملطختين بالدماء!


  • [1] من تلك الروايات رواية "ذاتَوي" لمحمد عصمت، "البحث عن أشياء نادرة" لعاطف سنارة، "أوتيزم" لرامي أحمد، "عطر الورد في توحد داوود" لأنهار الفردان، "عُروب بضم العين" لهديل الحربي، "أثر النحلة طيف التوحد" لخلود خالد، "أطياف الحب: قصة عائلة مع التوحد" لخلود الكندري، "أرني الدنيا بعينيك" لإيمان العليلي، "خاوية" لأيمن العتوم، "طيف سبيبة: رواية لليافعين "للطيفة لبصير.
  • [2] هي حركة مناصرة للذين لديهم اختلافات عصبية، تنادي بقبول التوحد والحالات العصبية الأخرى، بوصفها جزءًا طبيعيًا من التنوع العصبي البشري يجب تقبلها واحتضانها، وللمزيد حول هذا ينظر: https://www.psychologytoday.com/us/basics/autism/neurodiversity-and-the-benefits-autism وأيضًا كتاب .Autistic Community and the Neurodiversity Movement, stories from the Frontline .2020
  • [3] محمود أمين محمود أحمد: روائي مصري ولد في القاهرة سنة ١٩٨٢م، التحق بكلية العلوم بجامعة عين شمس، ثمّ عيّن معيدًا بقسم الرياضيات، وهو الآن أستاذ مساعد بالقسم، من نتاجه الروائي: ثلاثية توحد: (حالة توحد- نائب القدر- قاتل من عالم آخر)، الحشاش، استجواب، رقصة الشيخ، ورواية "هي"، وله أيضًا مجموعة قصصية بعنوان "التشريفة".
  • [4] للمزيد يُنظر: https://booktrib.com/2023/10/17/5-thrilling-novels-led-by-badass-autistic-main-characters/
  • [5] يستخدم هذا الوصف للإشارة إلى الإعاقات التي لا تكون ظاهرة على المستوى الجسدي، مثل: الأمراض النفسية، واضطرابات التعلم (عسر القراءة- نقص الانتباه- فرط النشاط)، واضطرابات طيف التوحد التي يصعب فهمها لأنها غير مرئية.
  • [6]  يترجمه البعض بـــ"التركيب السردي الاستعاضي"، لكني أجد العكازة السردية أدق في وصف الفكرة التي يقصدها الباحثان.
  • [7] يُنظر: Mitchell, David T., and L.Snyder,Sharon.(2000) Narrative Prosthesis: Disability and the Dependencies of Discourse, The University of Michigan Press, PP:47-63.
  • [8] أمين، محمود (٢٠١٦م). حالة توحد، دار بصمة للنشر والتوزيع.
  • [9]  حالة توحد، ص٧.
  • [10] حالة توحد، ص١١.

هنا يصبح أمام الضابط لغزان: لغز الجريمة، ولغز الطفل، وبؤرة التشويق تجاه الطفل أكثر من الجريمة، متمثلةً في سلوكه الهادئ والمريب لكل الحاضرين؛ لأنّ المقتولة والدته، ولأنّ مشهد الدماء بحد ذاته مرعب لأيّ إنسان مهما كان عمره.

إن طبيعة "مازن"[11] الهادئة تمثله أمام المحيطين مفتقرًا إلى الإحساس لمجرّد أنّه لم يبدِ أي انفعال تجاه الحدث، وكذلك تجعل سلوكه في مقارنة بالوضع الطبيعي إزاء حوادث القتل، وردود الطفل الطبيعية، وهذه المقارنة لا تعامل الاختلاف باختلافه، بل تجعل منه آخرًا خارجًا عن الوضع الطبيعي، وحتى الطبيعي مثل مظهره الشكلي جرى وصفها في الاقتباس السابق بأنّها زرقة عينين غير طبيعية!

التوحد المخيف

سلوك الطفل الهادئ في ميدان الجريمة كان سببًا في بثّ الخوف في قلب الضابط ومساعديه، لدرجة الخوف من الجلوس بجواره، فأثناء نقله للمصحة التي سيبقى فيها حتى الانتهاء من رفع البصمات، والتحقيقات كان الخوف منه حاضرًا، إلّا أنّ معرفة حالته الغريبة هي مفتاح القضية؛ لكونه الشاهد الوحيد، أو ربما القاتل!

وممّا زاد من خوف الضابط أنّ اسمه هو الاسم الوحيد الذي ظلّ عالقًا في ذاكرة الطفل، ومارس تجاهه سلوكه اللفظي التكراري "كرم، اسمك جميل" بطريقة وصفها الراوي بـــ"المرعبة"[12]، وعلى إثرها "لعن اسمه وكرهه بسبب هذا الطفل."[13] ولمزيد من التشويق والإثارة لم تقف حالة الخوف عند حدود المصحة، فلازمت الضابط في أحلامه أيضًا التي يزورها "مازن" في توقيت الجريمة نفسه -الرابعة فجرًا- بثباته وهدوئه، ممسكًا بمقص الجريمة، وما يردده، هذه الأحلام أفزعت الضابط من جهة، وأفسدت نوم زوجته، وخلقت مشكلات بينهما، ولأنّ الإنسان يخاف ما يجهل قرر الضابط أن يستعين بالإنترنت؛ ليفهم حالة مازن ويطمئن، والأهم ألا "يكون حمارًا" أمام الأطباء النفسيين الذين يعيدون عليه المعلومة ذاتها "مازن مصاب بالتوحد".

ولأنّ "مازن" هو العنصر المحرّك لحبكة الرواية؛ نجد حالة الخوف تتطور لدرجة المبالغة، بحضور خيال الطفل وكأنه "شبح" في حياة كرم، فيراه في النادي الذي يرتاده أبناؤه، ويلمحه في حفلة ميلاد ابنته، وينزلق على الأرض وهو يهرع باحثًا عن مازن بين الأطفال، ويُخيّل له وهو في سيارته ويتعرض لحادث مروري بسبب رعبه، والكثير من المبالغات التي تزيد من حالة الخوف.

كما تظهر حالة الخوف والقلق من الطفل ملازمةً لأي حضور له، فلغة الراوي العليم في وصف حوارات "مازن" اليسيرة ارتبطت بوصف يُظهر حالة الخوف منه، فعندما يجمع حوار بين كرم الضابط، ومازن المتوحد يقول الراوي بلغة واصفة ومبالغة" تلفت كرم حوله بقلق، ثمّ ابتلع ريقه بصوت مسموع قبل أن يرد بقلق"[14]، وفي حوار آخر يصف حالة كرم بقوله:" نظر إليه كرم بغيظ.. لكنه لا يعرف لماذا تحوّل غضبه إلى خوف عندما نظر إليه مازن فجأة.. كان ينظر إليه بطريقة جمدت الدماء في عروقه"[15].

حالة الخوف التي تشعر بها الشخصيات في الرواية تعكس الجهل وسوء الفهم بطبيعة التوحد، وكيفية التعامل معه، خاصةً حين يتبدّى للضابط في النهاية أنّ مازن هو رمز السلام في قصته المشتبكة بجريمة قتل، والسلبية أجدها في هذا التمثيل، وإن كان الغرض منها كشف جهل البيئة المحيطة، فكون حالة الخوف المحيطة بأجواء الرواية سببها طفل ومشخّص بالتوحد لا تليق بطفولته وإعاقته، خاصةً في حضرة جريمة قتل بشعة من الأولى أن يكون الرعب والخوف منها، ومن قاتلها المجهول.

التوحد بوصفه نتيجة

ركزت الرواية وبتقنية استرجاعية على الوضع الاجتماعي لعائلة "مازن"، ابتداءً من قصة زواج والديه الذي انبنى على مصالح مادية، وتوتر علاقة الوالدين بعد اكتشاف مرض الطفل، ليبقى زواجهما بعد ذلك على الورق فقط، وتعود "مي" والدة مازن لعشيقها السابق ابن خالتها "عمرو" الذي وُجد مقتولًا معها، وتحمل بطفل منه، وهي ما تزال زوجة لـ"ممدوح".

كان الشهود المستجوبين لدى الضابط، شهودًا على إهمال الأم لطفلها، وانشغالها بإنهاء زواجها من ممدوح من جهة، وغرامها القائم من جهة أخرى، ممّا جعل الضابط يخمن أنّ الأم هي سبب حالة الطفل، فعندما استعان الضابط بالإنترنت لفهم معنى التوحد، لم يستوقف انتباهه في المسببات إلا معلومة تقول: "هناك أسباب تتعلق بإهمال الأم وعدم تواصلها بصورة جيدة مع الطفل"[16].

ما تريد قوله الرواية هنا إن حالة مازن ما هي إلّا نتيجة لأخطاء اجتماعية محيطة به، ومازن ما هو إلا نتيجة لزواج فاشل، خاصةً أننا نكتشف في آخر الرواية أنّ والده مصاب بتعدد الشخصية الفصامي، وفي الوقت ذاته تجعل من إعاقة مازن سببًا في سوء العلاقة أكثر بين الزوجين بحسب أقوال الأب "أنجبنا مازن وبدأت المشكلات"[17].

وتقدم مقابل هذا النموذج العائلي الفاشل نموذجًا مثاليًا لعائلة الضابط كرم، وزوجته "الأم المثالية" التي وضعت نظامًا صارمًا لتربية الأطفال، والاهتمام الدقيق بتفاصيلهم، لم تسمح حتى لزوجها باختراقه، وإن حاول فعل ذلك انهالت عليه بمحاضرات عن تربية الأطفال.

فكرة أنّ التوحد يمكن أن يكون نتيجة لإهمال الوالدين هي فكرة قديمة، وغير دقيقة علميًا، حيث يعود تاريخ هذا التفسير إلى منتصف القرن العشرين، عندما اقترح الطبيب النفسي "برونو بتلهايم Bruno Bettelheim" نظرية "الأمومة الباردة Refrigerator Mothers" التي تدّعي أن التوحد ناتج عن انفصال وبرودة الأمهات تجاه أطفالهن، وهي من النظريات التي دُحضت من الباحثين الذين وصفوها بالأسطورة؛ لبعدها عن العلمية المطلوبة في تفسير طبيعة الإعاقة، وهيمنة الأعراف المجتمعية والتحيزات الثقافية في تشكل النظرية[18].

إن تركيز الرواية على إظهار مساوئ العائلة يعزز فكرة خاطئة حول التوحد، ويغيّب في الوقت ذاته عوامل أخرى قد تكون سببًا مثل العامل البيولوجي، والباحث عن المسببات سيجد تضاربًا كبيرًا بين المعلومات، فلا معلومة مؤكدة تقدّم سببًا إلا ونجد معلومةً وعالِمًا آخر ينفيها، والرواية هنا لا تتعامل بحذر مع المسببات.

البطولة وثالوث الإعاقة[19]

تُسند الرواية دور البطولة إلى طفل التوحد "مازن" الذي قدّم لضابط الشرطة خيوطًا تربط له الأحداث لحلّ الجريمة، وهذا يعني وعيه بالأحداث المحيطة به، ووعيه أيضًا بأنّ المقتولة والدته، وهذا ينفي الشكوك الأولى التي راودت الضابط بأنّ مازن بارد، ولا مبالٍ، وكأنّ ما يجري لا يعنيه بشكل من الأشكال. لكن البطولة في التعايش مع وضعه التوحدي تغيب؛ لأنّ الرواية اختارت وضع الأزمة في تمثيل كل شيء محيط بالطفل؛ فالعائلة مأزومة، والطفل إلى جانب غموضه بالنسبة للجميع تزوره نوبات أثناء مكوثه في المصحة يصفها المخبر -المراقب لغرفته حتى لا يفرّ منها- بـ"حالة هياج مفاجئة"[20]، وبسرد مفصل للضابط يصف حالة الهياج بقوله:" بدا كأنّه في عراك مع شخص وهمي.. كان يتمتم بكلمات غير مفهومة.. بعد ذلك سكن وعاد إلى سريره والدم ينزف من رأسه".[21]

هذا التركيز على ثالوث الإعاقة بأعراضه الرئيسة، وحالات الضعف التي يمر بها الطفل هي ما مثّلته الرواية، في مقابل تغييب نقاط قوّة الطفل، وتحدياته في التواصل الاجتماعي التي تشكّل جزءًا من شخصيته، ولأنّه الصوت الغائب الذي ربّما غيّب لإبقاء الغموض محيطًا ونشطًا وممتدًا إلى أجزاء قادمة، فإننا لا نفهم من الطفل سوى سلوكه اللفظي التكراري؛ لكون السارد ناب عنه في حدود الرؤية الخارجية فقط.

الصوت التشويقي الأخير: صوت التوحد

بتتبع الأصوات في الرواية، وتحديد زاوية النظر للأحداث؛ نجد أنّ الراوي خارجي كلي العلم، فلم يمنح شخصيات القصة أصواتها إلا في الحوارات، وهو يعقّب بعد ذلك بإكمال المشهد بالوصف والتحليل، وقراءة الأفكار والنوايا، إلا مع شخصية "مازن".

وإذا تأملنا الأسباب وجدناها تتعلق بطبيعة إعاقة التوحد وظواهرها السلوكية، التي يمثّل التوحد مع الذات وعالمها الداخلي، والانعزال عن الخارج هو عرضها الأول، ولهذا نجد صوت الطفل في الرواية لا يظهر إلا لمامًا بسلوك


  • [11] أعتقد أنّ اختيار الكاتب هنا لهوية الطفل الجندرية مقصود، فمن المعلومات المغلوطة أنّ الأولاد هم فقط من يعاني من التوحد.
  • [12] حالة توحد، ص٥٣.
  • [13] حالة توحد، ص٥٤.
  • [14] حالة توحد، ص١٩.
  • [15] حالة توحد، ص٤٠.
  • [16] حالة توحد، ص٦٨.
  • [17] حالة توحد، ص٣٤.
  • [18] أنصح هنا بمشاهدة الفيلم الوثائقي "Refrigerator Mothers"، الذي يعرض معاناة الأمهات بسبب إلقاء اللوم عليهنّ في إصابة أطفالهن بالتوحد.
  • [19] "ثالوث الإعاقة" أو "ثالوث الضعف" يستخدم للإشارة إلى الصعوبات الأساسية الثلاثة التي تظهر عادةً للمشخّصين بالتوحد، وهي: ضعف التواصل الاجتماعي، وضعف التواصل، والسلوك التكراري.
  • [20] حالة توحد، ص٨٤.
  • [21] حالة توحد، ٩٠.

تكراري يمثل عرضًا آخر لهذه الإعاقة، ولكي تُبقي الرواية حبل التشويق مشدودًا لخدمة خيال الأجزاء القادمة، تمنح الطفل التوحدي سلطة الصوت بمقتطف وحيد صادر عن الطفل "مازن" يقول فيه: "لقد تركوني معك في الظلام.. وحدي معك في الظلام.. كنت في البداية أخشاك.. كنت أصرخ إليهم حتى يخرجوني من عندك.. لكنك صرت الآن أفضل صديق لي.. وقد دفعت ثمنًا غاليًا لهذه الصداقة.. كذلك دفع الجميع.. هل أنت معي يا شريف؟"[22]، ثمّ يعود الصوت للراوي العليم ليمارس الوصف الخارجي، وتُختم الرواية بـ"إلى اللقاء والجزء المتمم لرواية حالة توحد"[23].

هذا المقطع يحتشد بالغموض، فصوت مازن يحضر منفردًا بعيدًا عن سلطة الراوي العليم، وهذا ما لم نعتد عليه من بداية الرواية، وأيضًا يظهر مازن مخاطبًا لشخصية جديدة لم تحضر في الرواية، فمن هو شريف؟ وكيف يكون صديقًا مفضلًا وهو يخشاه؟، وقد قادني التشويق لقراءة الجزء الثاني "نائب القدر"؛ أملًا في العثور على صوت مازن مرة أخرى، الذي يحكي عنه وعن توحده، وخاب أملي في امتداد مسيرة جرائم أخرى، ولمزيد من التشويق جميعها تحدث بعلم "مازن".

الخــــــاتمة "التوحد هوية"

قدّمت الرواية تشخيصات عديدة طبية ومجتمعية لحالة "مازن"، فهو "مريض" بحسب أقوال الأب والجيران، و"ممسوس" في نظر الضابط ومساعديه، و"مصاب، ومريض نفسي" كما يقول الأطباء، وكل هذه التسميات لم تصف مازن بالإعاقة بشكل من الأشكال، بل تعاملت مع الحالة وكأنها تعاني من أمر سيزول، أو يتوجب علاجه، وهنا يلزمنا القول إن التوحد هوية، تمنح الطفل فرقًا يميزه عن غيره، ولا ينبغي تمثيله وكأنه مرض بحاجة إلى علاج، بينما الأجدر أن يمثل بطريقة يظهر فيها قبوله، وقبول اختلافه الغامض.

تقدّم الباحثة "شارلوت ويبر Charlotte Webber" -باحثة مشخّصة بالتوحد- نصائح لكتّاب الروايات الذين يوظفون في رواياتهم شخصيات متباينة عصبيًا، ومن تلك النصائح ألّا تقدّم التباينات العصبية بصورة نمطية في الروايات، كما يحدث في كثير من الروايات التي تعاملت مع التوحد، والأهم ألّا تقدم إعاقاتهم بوصفها مشكلة يجيب حلّها، أو أنّها تعاني لمجرد أنها متباينة عصبيًا، وهي نصيحة مهمة للكُتاب؛ لأنّ تكرار هذا الحضور النمطي يُعطي صورة ثابتة ومتحيزة حول أصحاب هذه الإعاقة، ويعزز الوصمات السلبية والتمييز ضدّ المتوحدين.

إنّ تمثيل الهوية التوحدية أدبيًا يُعدّ مسألة بالغة الصعوبة والحساسية، وإدراك هذه الصعوبة هي ما يجب على الكتّاب استيعابه، ووعي النتائج المترتبة عليه، كما يجب "أن يكون هدف التمثيل هو تطبيع وجود الشخصيات المتباينة عصبيًا في الخيال (وفي المجتمع)، بدلًا من إثارة هذه الشخصيات أو لفت الانتباه إليها، ولا يلزم أن تكون الشخصيات المتباينة عصبيًا دائمًا هي محور القصة، فمجرد وجودها يمكن أن يكون كافيًا لمساعدة القراء المتباينين عصبيًا على الشعور بالقبول"[24].

وبرأيي أنّ التمثيل في مثل هذه الحالات لا بدّ أن يكون واقعيًا، ودقيقًا، وبعيدًا عن مبالغات تقدّم للقارئ فكرة مشوهة عن الإعاقة وطبيعتها، فلهذا تأثيره الكبير في عرض موضوعات الإعاقة منظورًا إليها، والأولى منحها وجهة النظر؛ لكون التوحد منظور عميق ومختلف يعبّر عن رؤى عديدة، للعالم وللذات قبل ذلك يجب النظر من خلاله بدلًا من النظر إليه.

وختامًا، إن كنت سأحمد شيئًا للرواية، فهو على عتبتها النصية الرئيسة "حالة توحد"، التي لم يهمّش فيها الكاتب التنوع الواسع لحالات التوحد، بحسب تجاربها وسلوكياتها، فلفظة "حالة" أنقذت العمل من تعميم التمثيلات السابقة على جميع الأشخاص المصابين بالتوحد.