فلوة الدرعان
المقدمة
تعددت الروايات التي تناولت قضايا المهمّشين والمضطهدين، وكانت إحدى أكثر الفئات التي هُمّشت على امتداد التاريخ ذوي العرق الأسود، ومما يلاحظ اختلاف الخطاب الذي تناول صورة الأسود وقضية العبودية بين خطاب المنتمي (الأسود) وغير المنتمي (غير الأسود)، وهذا ما سيُدرس في هذا البحث.
فرضية البحث
يفترض البحث وجود اختلاف في صورة الأسود ومعاناته بين خطاب الكاتب المنتمي عرقيًا وبين خطاب الكاتب غير المنتمي، رغم تشابه الثيمات الكبرى في الأعمال، وعلى الرغم ما تفترضه المدونة من تشابه في الخطاب.
أسئلة البحث
- • كيف اختلفت صورة الأسود في العملين منذ العتبة الأولى؟
- • كيف اختلفت الألفاظ التي استخدمها الكاتب لوصف السود لأنفسهم ووصف الآخر لهم؟
- • من هم المسترقون في العملين؟ وكيف تعاملوا مع حقيقة عبوديتهم؟
- • كيف اختلف التعامل الأسود المسترق مع الدين والمستعمر؟
المدونة المدروسة
سيدرس البحث روايتي "ثمن الملح" للكاتب البحريني (خالد البسام)، وهي رواية غير المنتمي. ورواية "شوق الدرويش" للكاتب السوداني (حمّور زيادة) وهي رواية المنتمي للعرق الأسود.
وكان سبب اختيار المدونة اعتراف الروائيين أنها محاولة لتسجيل معاناة العبودية وتاريخ استعباد السود في العالم العربي، واستنادهم لوثائق ووقائع حقيقية، إضافة إلى قرب الفترة الزمنية التي صدرت بها الروايتان (شوق الدرويش 2014)، (ثمن الملح 2016)، كذلك تناول الروايتين لفترة زمنية متقاربة وهي نهايات القرن الماضي.
الدراسات السابقة
• إسماعيل، عزوز علي. (2015). التراث والمتخيل السردي عند حمّور زيادة في شوق الدرويش. مجلة كلية دار العلوم. ع81، 75-114.
سيفيد منها البحث في معالجتها لتمثلات المستعمر والدين في الرواية، وسيختلف عنها في مقارنته بين التمثلات ذاتها في رواية غير المنتمي، وفي تناوله لتمثلات أخرى في الرواية.
منهج البحث
يستند البحث إلى النظرية العرقية (Critical Race Theory) وهي النظرية التي "تنصب على دراسة الأعراق الإنسانية، ضمن منظورات إثنية وثقافية ونقدية خاصة. وتوحي النظرية العرقية في صميمها بمركزية الرجل الأبيض، وتميزه طبقيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وتفوقه على باقي الأعراق الأخرى. ويقصد بالنظرية العرقية في الأدب والنقد التركيز على دراسة الأعراق الوراثية والجينية. بمعنى أن هذه النظرية تدافع عن الأقليات المهمشة عرقيًا ولونيًا في عالمنا هذا، كالحركة الزنجية التي تنافح عن الإنسان الأسود ضد هيمنة الرجل الأبيض وغطرسته. ومن ثم، فالنظرية العرقية هي التي تقوم على أساس عرقي في إطار وراثي وثقافي وإثني. وبتعبير آخر، فالنظرية العرقية هي ضد التغريب، والإقصاء، والنبذ، والكراهية، والعدوان، والتمييز اللوني والعرقي. ومن هنا، تهتم النظرية العرقية في الأدب والنقد بالظواهر العرقية والإثنية. وتعنى كذلك بالتمايزات اللونية التي تحبل بها النصوص والخطابات الإبداعية والثقافية على حد سواء، بغية مدارستها وتحليلها ومناقشتها في ضوء المقاربات المتعددة الاختصاصات التي تمزج بين مجموعة من المناهج المعرفية المعروفة لفهم البنية والدلالة والوظيفة. وقد ارتبطت النظرية العرقية تاريخيا بخطاب "ما بعد الاستعمار"؛ لأنه يكشف التفاوت اللوني والعرقي والحضاري والإثني والثقافي بين عالم الغرب والعالم الثالث. ومن هنا، فنظرية العرقية هي التي تنكب على النصوص والخطابات ذات التوجه العرقي والتمايز اللوني والإثني بمشرح التفكيك والتقويض والتشتيت، بغية فضح الأيديولوجيا الليبرالية الغربية القائمة على الميثولوجيا البيضاء الواهمة". (حمداوي، جميل. (2016).
نظريات النقد الأدبي والبلاغة في مرحلة ما بعد الحداثة. طنطا: دار النابغة للنشر والتوزيع. ص 264-265).
أولًا: العتبات
تظهر على غلاف رواية "ثمن الملح" صورة لسوق العبيد في مكة سنة 1962 ويعرف بسوق "دكّة الرقيق"، في مشهد يصفه الروائي (خالد البسام) داخل الرواية بقوله: "كان من المستحيل تقدير عدد العبيد الذين كانوا على متنها. فقد وُجدوا وكأنهم عش من النمل وكانوا في منتهى البؤس. وكانت تنبعث رائحة داخل السفينة كريهة لا تطاق بسبب المياه القذرة والقمامة التي تغطيه. وفي أسفل السفينة كانت توجد أعداد من الأطفال والمخلوقات التعسة في أسوأ مراحل الجدري وداء الخنازير. ولا يمكن أن تقع عينا المرء على مشهد أكثر بشاعة وهدرًا للإنسانية من هذا. ويكفي أن قذارة المركب بلغت الحدّ الذي لا يستطيع أن يتحمله البحّارة". (البسام، خالد. (2017). ثمن الملح. (ط2). بيروت: جداول للنشر والترجمة. 16-17). نلحظ في هذا المشهد أن الكاتب يصف هؤلاء البشر كما لو كان وصفًا لزريبة حيوانات لا لبشر، وهو يعترف بذلك إذ يصفه بأنه هدر للإنسانية. في المقابل نجد في رواية "شوق الدرويش" على غلاف الرواية صورة للقساوسة أعضاء البعثة التبشيرية المقيمة آنذاك في جبال النوبة، وهم الذين أسرهم المهدي قبل سقوط الأبيض، وهؤلاء هم من تبقوا على قيد الحياة وحضروا مع جيش المهدي إلى الخرطوم. وهم الأب (جوزيف أهوالدر) (Joseph Ohrwalder)، والأختين الراهبتين (فينتورني وشينكارني) (Sisters Venturini and Chincarini) ومعهما خادمتهما (عديلة). الصورة من كتاب (Ten Years captivity in the Mahdo's Camp 882-1892)، ورغم أن الصورة المستخدمة للنصارى البيض الذين يعدّون أقليّة في بلد الأسود، إلا أنهم يقفون شامخين، يحمل الأب جوزيف سلاحًا، وتظهر على ملامحهم أمارات الثقة.
وفي العتبات النصية بدءًا من العنوان نجد الرواية الأولى معنونة في بـ"ثمن الملح" يفسّر الراوي اختيار العنوان في حوار العبدة (عبدة) مع سيدتها (موزة) حين أخذت من الإنكليز ورقة حريتها: "لا تتصوري أن الإنكليز سوف يجعلونك حرّة.. فأنتِ عبدتي وأنا اشتريتك بالمال.. أنتِ ما تزالين عندي عبدة عفنة وراقصة حقيرة.. إذا أردتِ الحرية فادفعي كل المبلغ الذي دفعته لك.. مفهوم يا "حرّة"... حرّة هاها.. حرّة. هذه السوداء الحقيرة صارت حرّة.. هذا آخر الزمان... أنتِ يا ثمن الملح.. هل تعرفين أنكِ لا تساوين حتّى ذرة ملح؟! يا ثمن الملح الرخيص" (البسام، خالد 206-207). وهو ما فيه استنقاص ودونية لـ(عبدة) التي تنتمي للعرق الأسود. أما في رواية "شوق الدرويش" يفسر الراوي هذا العنوان حين يقول: "يشتعل رغبةً. يتشظى حنقًا. يعض شوقه. يطلب النوم. فتصهل الأحلام الموجعة في روحه. يشتاقها كشوق درويش للجنة" (زيادة، حمّور. (2015). شوق الدرويش. (ط15). القاهرة: دار العين للنشر. 364)، وهو الشوق الذي تكنه الشخصية الرئيسة في العمل (بخيت منديل) للنصرانية التي يحبها (ثيودورا)، إذ تعبر الرواية على امتدادها عن محبة (بخيت) لـ(ثيودورا) وشوقه لها وسعيه للانتقام من قاتليها، وهو العبد الأسود، في حالةٍ لا تجرده من إنسانيته فرغم سواده وعبوديته كان يحبّ النصرانية البيضاء -المختلفة عنه عرقيًا ودينيًا- ويسعى إلى الزواج بها. وفي مقاربة بين عنوانيّ الروايتين نلحظ دونية التسمية في عمل الكاتب غير المنتمي "ثمن الملح" الذي يعبّر عن ازدراء وقلّة قيمة للأسود، أما في رواية المنتمي "شوق الدرويش" فالعنوان يعبّر عن أشواق إنسان عادي لمحبوبة لا يركّز على اختلاف لونيهما.
كذلك في العتبات النصية فإن رواية "شوق الدرويش" تحمل إهداءً: "إلى التي". ثم اقتباسًا من ابن عربي: "كل شوقٍ يسكن باللقاء لا يعوّل عليه". تعبر عن حالة إنسانية طبيعية من الاشتياق البالغ للمحبوبة، أما في رواية "ثمن الملح" يضع الكاتب اقتباسًا لنصار مبارك الخيري من جريدة المقتطف المصرية عام 1910، يقول فيه: "ما قولكم في بيع الرقيق أفضيلة هو أم رذيلة، فإن كان الأول فلماذا يصادره الغربيون، وإن كان الثاني فلماذا لا يقول بتحريمه رجال الدين في الشرق. ويقول الغربيون إن علة هذا الداء الإسلام والمسلمون، فهل هذا صحيح، وإن لم يكن كذلك فما سبب تأصله حتى صار يصعب قطع جرثومته من الشرق؟" وهي عتبة نلحظ معها اختزال الروائي (خالد البسام) للأسود في لونه حتى في النصوص التي يقتبسها، وعلى امتداد العمل كانت الشخصية الرئيسة (حنّا) التي غُيّر اسمها إلى (عبدة) تراعي في كل فعلٍ تقوم به فكرة عبوديتها، وأنها سوداء، كذلك بقية الشخوص في العمل، من السود وغيرهم، لم يستطيعوا الانفصال عن فكرة العبودية والرق والنظرة تجاه السود، وإن كانوا غير سود، وقضية العبودية سيطرت على الكاتب منذ غلاف الرواية حتى نهايتها، وهي فكرة موجودة في كل صفحة تقريبًا إلا في الصفحات القليلة التي عرضت لهروب (ابن نصري) إلى (شيراز) وشوق أمه له.