محمد قائد
المقدمة
تُعرّف موسوعة بريتانيكا فيلم الرعب على أنه "عمل سينمائي مصمم لاستثارة مشاعر النفور، والخوف، أو الرهبة". لكن سينما الرعب أصبحت وعاءً فنيًا يمكن من خلاله تقديم موضوعات أكثر عمقًا وإنسانية. تطرح أفلام الرعب ثيمات لطالما شغلت أذهان الفرد والمجتمع مثل الخلود، والخير والشر، والإدمان، والأزمات الوجودية، والقيم العائلية. الفيلم موضوع هذه المقالة يقدم دراسة للاعتلال النفسي في قالب من الأجواء المقبضة والأحداث المشوقة، يُصنّف فيلم "البابادوك" ضمن أفلام الرعب إذ يحتوي على مشاهد مثيرة ومخيفة، ناهيك عن الكائن الغامض الذي يظهر بين الفينة والأخرى. هذه هي النظرة على المستوى السطحي للحبكة، وهو ما قد يخرج به غالبية المشاهدين، غير أن هذه الدراسة تزعم بأن العمل يهدف إلى عرض معاناة الفرد المكتئب وكفاحه بطريقة مبتكرة ومؤثرة. فالفيلم يصور سقوط الشخصية الرئيسة في براثن الاكتئاب بُعيد فقدان زوجها، كما يصوّر للمُشاهد أعراض الاكتئاب ومراحل التعافي من الأسى.
تهدف هذه الدراسة إلى قراءة الفيلم قراءة نفسية مع تسليط الضوء على أعراض المعاناة النفسية لبطلة الفيلم ومؤشرات تعافيها. كما تسعى الدراسة إلى الإجابة على التساؤل الآتي: كيف أمكن لفيلم "بابادوك" بصفته فيلمًا من سينما الرعب معالجة موضوع الاكتئاب والصدمة وتقديمه للمشاهد العادي؟ المنهج المتبع هو التحليل النفسي مع تطبيق التحليل السيميائي حين يتطلب السياق ذلك.
ستُحلل الدراسة المَشاهد، وتُطبق المنهج النفسي عليها؛ لاستخلاص الظواهر النفسية من حيث المسببات، والأعراض، وسُبل التعافي.
الدراسات السابقة:
اتجهت أغلب المقالات النقدية –بخلاف الانطباعية– إلى تحليل الفيلم على ضوء جندري، مثل: مناقشة الدور المتوقع من المرأة كأم، أو دراسته دراسة سيميائية باستنطاق رمزية الكائن الشيطاني. ثمة مقالات قرأت الفيلم قراءة نفسية، غير أنها ركزت على الضغوطات النفسية التي تتعرض لها أم أرملة جرّاء تربية طفل مضطرب. أما هذه الدراسة فستتناول الفيلم بصفته عملًا فنيًا يدرس الاكتئاب من حيث الدوافع والأعراض والتعافي.
نبذة عن الفيلم:
حقق فيلم "البابادوك" نجاحًا كبيرًا عند صدوره عام 2014، حيث حصد أرباحًا تزيد على 10 ملايين دولار أمريكي حول العالم انطلاقًا من ميزانية لا تتجاوز 2 مليون دولار. صُوّر "البابادوك" في أستراليا إلا أنه حقق نجاحًا أكبر خارج البلاد. الفيلم من كتابة وإخراج جنيفر كنت، وبطولة إيسي دايفز ونواه وايزمان.
الحبكة:
تدور أحداث الفيلم حول معاناة الأم العزباء (إيميليا فانِك) في تربية ولدها (صامويل) بعد فقدان زوجها الذي توفي بحادث مروري وهو متجه مع زوجته إلى مستشفى الولادة. منذ بداية الفيلم تتكالب الظروف على إيميليا، ما بين ضغوطات العمل إلى مسؤولية التعامل مع طفل مضطرب، ومن حزن فقدان الزوج إلى ألم الوحدة.
بينما تتخبط الأرملة في هذه الظروف القاسية يظهر كتاب أطفال بصورة مفاجئة على عتبة باب المنزل ليزيد الطين بلة. يتحدث الكتاب المريب عن كائن مخيف اسمه "البابادوك" إذا ظهر لشخص ما قد يجعله يتمنى الموت. رغم محاولات التخلص من الكتاب، إلا أنه يعود في كل مرة بطريقة غامضة. يصبح الطفل ذي الخيال الخصب مهووسًا بـ "البابادوك" فيدعي رؤيته ويلقي باللائمة عليه بشأن الأحداث الفظيعة التي تقع في المنزل. تجاهد الأم المرهقة لإقناع وحيدها بعدم وجود الوحش في الحقيقة، غير أنها نفسها تبدأ بمشاهدته وسماع أصواته من وقت لآخر، مما يجعلها تسقط في وحل المنطقة الفاصلة بين الوهم واليقين.
لاحقًا يتهم صامويل "البابادوك" بالاستحواذ على والدته، وذلك عندما تزداد عصبيتها وانفلات سلوكها إثر الأوضاع الصعبة التي تمر بها. تصل الأحداث ذروتها عندما تقدم إيميليا على قتل كلبها الأليف ومطاردة ولدها لتذيقه المصير نفسه. لحسن الحظ، تتمكن الوالدة من السيطرة على نفسها والإفاقة من نوبة العنف التي تملكتها. في تلك اللحظة تقرر إيميليا مواجهة المخلوق الشرير الذي يفر من شجاعتها إلى القبو.
تعود المياه إلى مجاريها بين صامويل ووالدته فيحتفلان بعيد ميلاده في جو تسوده الألفة والتفاهم. أما "البابادوك" فيقبع في عتمة القبو فيما تطعمه إيميليا المخلفات دون أن تخشاه.
أسباب الاكتئاب:
يختلف تفسير منابع الاكتئاب من مدرسة لأخرى ومن نظرية لأختها. أحد أسباب الاكتئاب المزمن هو فقدان شخص عزيز، سواء بالوفاة أو بغيرها. يفترض لويس ولبرت في كتابه (الحزن الخبيث: تشريح الاكتئاب، ص 171) "إن فقد الشخص الذي نتعلق به أو اختفاءه سواءً كان ذلك الشخص أبًا أو أمًا أو حبيبًا أو صديقًا يشعل رغبة عارمة في استعادة هذا الشخص، فإذا أخفق الشخص في ذلك ارتكن إلى الحزن وأخذ في الانزواء والضمور. وينطبق ذلك على حالة الوفاة كذلك، فالرغبة في استعادة المفقود لا تخبو بوفاته، فيظل المرء تواقًا إلى استعادة من فقد وممعنًا في حزنه نتيجة فشل مساعيه، فيعاني أسوأ الآلام النفسية التي قد يعرفها البشر".
يشير الفيلم في عدة مشاهد إلى أن إيميليا تعرضت لصدمة شديدة في أعقاب الحادث الذي فقدت فيه زوجها. في افتتاحية الفيلم نشاهد لقطات من الحادث على هيئة كابوس يراود الأرملة. إذ بينما تجلس في مقعد السيارة وتتنفس بطريقة تنم عن التوتر، تتناثر الشظايا الزجاجية من نافذة السيارة على وجهها فيما يبدو بأنه حادث اصطدام.
في مشهد السوبرماركت يشترك الطفل اليتيم مع صبية في اللعب وعندما تطالب والدة الطفلة ابنتها بالعودة إلى المنزل لرؤية والدها يتدخل صامويل قائلًا: "والدي في المقبرة، تُوفي وهو يوصل أمي إلى المستشفى كي تلدني"، فتأمره والدته بالصمت على الفور، وهنا تتضافر مرارة الفقد مع ألم الكبت؛ مما يدفعها للتوغل أكثر في غابة الاكتئاب الموحشة.
تتقدم أحداث الفيلم ونجد صورة أخرى لتأثر إيميليا برحيل زوجها، ومرة أخرى ترفض الحديث عن الموضوع. في حفلة الطفلة روبي، تجلس كلير مع إيميليا وتحاول استمالتها لتفضي بما يجيش به صدرها. فتعمد إلى معاتبتها على تحفظها المفرط في الحديث عن رحيل زوجها.
كلير: "بربك يا إيميليا، فور أن يُذكر أوسكار (اسم زوجها) لا تتمكنين من التعامل مع الأمر".
إيميليا: "هذا غير صحيح!".
كلير: "قريبًا ستكون قد مرت سبعة أعوام على وفاته. ألم يحن الوقت لتتجاوزين الأمر؟"
إيميليا: "لقد تجاوزته! أنا لا أذكر اسمه ولا أتحدث عنه! ما الذي يضايقك في هذا يا كلير؟"
يتجلى في هذا المشهد إحدى مراحل التعامل مع الصدمة حسب نموذج كيوبلر روس، وهي مرحلة الإنكار. قدمت عالمة النفس السويسرية الأمريكية هذا النموذج لأول مرة عام 1969 في كتابها "الموت والاحتضار"، وافترضت أن الإنسان يمر بخمس مراحل عندما يتلقى صدمة كبيرة: الإنكار، والغضب، والمساومة، والحزن ثم القبول. لا شك أن إنكار الواقع وكبت المشاعر بدلًا من تقبلها ومناقشتها بصراحة لا يسهم سوى في تفاقم الاكتئاب، وكما رأينا في المشهد السابق، فإن إيميليا تحبس نفسها في زنزانة الكبت والنكران.
وليس قمع المشاعر بالعامل الوحيد في تدهور حالة إيميليا، هناك كذلك ضغوطات تربية طفل، مثل: صامويل دون سند من والده. فالصبي تارة يهشم الأشياء في المنزل، وتارة يدفع الأطفال بعنف كما فعل بالصغيرة روبي أثناء حفلتها، ولربما دخل أيضًا في نوبة من الصراخ والركل دون توقف. في إحدى تلك النوبات تصرخ فيه والدته: "ألا يمكنك أن تكون طبيعيًا قط؟". يتعرض الطفل عندئذ إلى نوبة تشبه الصرع وتحمله والدته إلى الطبيب. إلى جانب سلوكه المُرهق، يتمتع صامويل بخيال نشط وغريب، فتخيلاته للوحوش –من ضمنها "البابادوك"– مستمرة إلى درجة الهوس. في مشهد الحديقة نرى صامويل يلوح بيده وكأنها تحمل سيفًا ويهتف بوحش خفي: "سأهشم رأسه يا أمي"، هذا إلى جانب سلاحه الخطير الذي يُطلق ما يشبه الرماح، وهو لعبته المفضلة.
في معالجة شديدة الذكاء، يشير الفيلم إلى أن معاناة الابن ليست معزولة عن كرب والدته. فتخيل صامويل لـ "البابادوك" تتبعه خيالات من الأم نفسها بينما فرط حركته وعنفه يؤججان قلقها بلا حدود. وكذلك فإن انسحابية الأم تؤثر في استقراره النفسي، كما أن غضبها وميلها للعنف تعززان مخاوفه من كل ما يُرى وما لا يُمكن رؤيته.