الصراع مع الاكتئاب في فيلم "البابادوك The Babadook": قراءة نفسية

محمد قائد

المقدمة

تُعرّف موسوعة بريتانيكا فيلم الرعب على أنه "عمل سينمائي مصمم لاستثارة مشاعر النفور، والخوف، أو الرهبة". لكن سينما الرعب أصبحت وعاءً فنيًا يمكن من خلاله تقديم موضوعات أكثر عمقًا وإنسانية. تطرح أفلام الرعب ثيمات لطالما شغلت أذهان الفرد والمجتمع مثل الخلود، والخير والشر، والإدمان، والأزمات الوجودية، والقيم العائلية. الفيلم موضوع هذه المقالة يقدم دراسة للاعتلال النفسي في قالب من الأجواء المقبضة والأحداث المشوقة، يُصنّف فيلم "البابادوك" ضمن أفلام الرعب إذ يحتوي على مشاهد مثيرة ومخيفة، ناهيك عن الكائن الغامض الذي يظهر بين الفينة والأخرى. هذه هي النظرة على المستوى السطحي للحبكة، وهو ما قد يخرج به غالبية المشاهدين، غير أن هذه الدراسة تزعم بأن العمل يهدف إلى عرض معاناة الفرد المكتئب وكفاحه بطريقة مبتكرة ومؤثرة. فالفيلم يصور سقوط الشخصية الرئيسة في براثن الاكتئاب بُعيد فقدان زوجها، كما يصوّر للمُشاهد أعراض الاكتئاب ومراحل التعافي من الأسى.

تهدف هذه الدراسة إلى قراءة الفيلم قراءة نفسية مع تسليط الضوء على أعراض المعاناة النفسية لبطلة الفيلم ومؤشرات تعافيها. كما تسعى الدراسة إلى الإجابة على التساؤل الآتي: كيف أمكن لفيلم "بابادوك" بصفته فيلمًا من سينما الرعب معالجة موضوع الاكتئاب والصدمة وتقديمه للمشاهد العادي؟ المنهج المتبع هو التحليل النفسي مع تطبيق التحليل السيميائي حين يتطلب السياق ذلك.

ستُحلل الدراسة المَشاهد، وتُطبق المنهج النفسي عليها؛ لاستخلاص الظواهر النفسية من حيث المسببات، والأعراض، وسُبل التعافي.

الدراسات السابقة:

اتجهت أغلب المقالات النقدية –بخلاف الانطباعية– إلى تحليل الفيلم على ضوء جندري، مثل: مناقشة الدور المتوقع من المرأة كأم، أو دراسته دراسة سيميائية باستنطاق رمزية الكائن الشيطاني. ثمة مقالات قرأت الفيلم قراءة نفسية، غير أنها ركزت على الضغوطات النفسية التي تتعرض لها أم أرملة جرّاء تربية طفل مضطرب. أما هذه الدراسة فستتناول الفيلم بصفته عملًا فنيًا يدرس الاكتئاب من حيث الدوافع والأعراض والتعافي.

نبذة عن الفيلم:

حقق فيلم "البابادوك" نجاحًا كبيرًا عند صدوره عام 2014، حيث حصد أرباحًا تزيد على 10 ملايين دولار أمريكي حول العالم انطلاقًا من ميزانية لا تتجاوز 2 مليون دولار. صُوّر "البابادوك" في أستراليا إلا أنه حقق نجاحًا أكبر خارج البلاد. الفيلم من كتابة وإخراج جنيفر كنت، وبطولة إيسي دايفز ونواه وايزمان.

الحبكة:

تدور أحداث الفيلم حول معاناة الأم العزباء (إيميليا فانِك) في تربية ولدها (صامويل) بعد فقدان زوجها الذي توفي بحادث مروري وهو متجه مع زوجته إلى مستشفى الولادة. منذ بداية الفيلم تتكالب الظروف على إيميليا، ما بين ضغوطات العمل إلى مسؤولية التعامل مع طفل مضطرب، ومن حزن فقدان الزوج إلى ألم الوحدة.

بينما تتخبط الأرملة في هذه الظروف القاسية يظهر كتاب أطفال بصورة مفاجئة على عتبة باب المنزل ليزيد الطين بلة. يتحدث الكتاب المريب عن كائن مخيف اسمه "البابادوك" إذا ظهر لشخص ما قد يجعله يتمنى الموت. رغم محاولات التخلص من الكتاب، إلا أنه يعود في كل مرة بطريقة غامضة. يصبح الطفل ذي الخيال الخصب مهووسًا بـ "البابادوك" فيدعي رؤيته ويلقي باللائمة عليه بشأن الأحداث الفظيعة التي تقع في المنزل. تجاهد الأم المرهقة لإقناع وحيدها بعدم وجود الوحش في الحقيقة، غير أنها نفسها تبدأ بمشاهدته وسماع أصواته من وقت لآخر، مما يجعلها تسقط في وحل المنطقة الفاصلة بين الوهم واليقين.

لاحقًا يتهم صامويل "البابادوك" بالاستحواذ على والدته، وذلك عندما تزداد عصبيتها وانفلات سلوكها إثر الأوضاع الصعبة التي تمر بها. تصل الأحداث ذروتها عندما تقدم إيميليا على قتل كلبها الأليف ومطاردة ولدها لتذيقه المصير نفسه. لحسن الحظ، تتمكن الوالدة من السيطرة على نفسها والإفاقة من نوبة العنف التي تملكتها. في تلك اللحظة تقرر إيميليا مواجهة المخلوق الشرير الذي يفر من شجاعتها إلى القبو.

تعود المياه إلى مجاريها بين صامويل ووالدته فيحتفلان بعيد ميلاده في جو تسوده الألفة والتفاهم. أما "البابادوك" فيقبع في عتمة القبو فيما تطعمه إيميليا المخلفات دون أن تخشاه.

أسباب الاكتئاب:

يختلف تفسير منابع الاكتئاب من مدرسة لأخرى ومن نظرية لأختها. أحد أسباب الاكتئاب المزمن هو فقدان شخص عزيز، سواء بالوفاة أو بغيرها. يفترض لويس ولبرت في كتابه (الحزن الخبيث: تشريح الاكتئاب، ص 171) "إن فقد الشخص الذي نتعلق به أو اختفاءه سواءً كان ذلك الشخص أبًا أو أمًا أو حبيبًا أو صديقًا يشعل رغبة عارمة في استعادة هذا الشخص، فإذا أخفق الشخص في ذلك ارتكن إلى الحزن وأخذ في الانزواء والضمور. وينطبق ذلك على حالة الوفاة كذلك، فالرغبة في استعادة المفقود لا تخبو بوفاته، فيظل المرء تواقًا إلى استعادة من فقد وممعنًا في حزنه نتيجة فشل مساعيه، فيعاني أسوأ الآلام النفسية التي قد يعرفها البشر".

يشير الفيلم في عدة مشاهد إلى أن إيميليا تعرضت لصدمة شديدة في أعقاب الحادث الذي فقدت فيه زوجها. في افتتاحية الفيلم نشاهد لقطات من الحادث على هيئة كابوس يراود الأرملة. إذ بينما تجلس في مقعد السيارة وتتنفس بطريقة تنم عن التوتر، تتناثر الشظايا الزجاجية من نافذة السيارة على وجهها فيما يبدو بأنه حادث اصطدام.

في مشهد السوبرماركت يشترك الطفل اليتيم مع صبية في اللعب وعندما تطالب والدة الطفلة ابنتها بالعودة إلى المنزل لرؤية والدها يتدخل صامويل قائلًا: "والدي في المقبرة، تُوفي وهو يوصل أمي إلى المستشفى كي تلدني"، فتأمره والدته بالصمت على الفور، وهنا تتضافر مرارة الفقد مع ألم الكبت؛ مما يدفعها للتوغل أكثر في غابة الاكتئاب الموحشة.

تتقدم أحداث الفيلم ونجد صورة أخرى لتأثر إيميليا برحيل زوجها، ومرة أخرى ترفض الحديث عن الموضوع. في حفلة الطفلة روبي، تجلس كلير مع إيميليا وتحاول استمالتها لتفضي بما يجيش به صدرها. فتعمد إلى معاتبتها على تحفظها المفرط في الحديث عن رحيل زوجها.

كلير: "بربك يا إيميليا، فور أن يُذكر أوسكار (اسم زوجها) لا تتمكنين من التعامل مع الأمر".
إيميليا: "هذا غير صحيح!".
كلير: "قريبًا ستكون قد مرت سبعة أعوام على وفاته. ألم يحن الوقت لتتجاوزين الأمر؟"
إيميليا: "لقد تجاوزته! أنا لا أذكر اسمه ولا أتحدث عنه! ما الذي يضايقك في هذا يا كلير؟"

يتجلى في هذا المشهد إحدى مراحل التعامل مع الصدمة حسب نموذج كيوبلر روس، وهي مرحلة الإنكار. قدمت عالمة النفس السويسرية الأمريكية هذا النموذج لأول مرة عام 1969 في كتابها "الموت والاحتضار"، وافترضت أن الإنسان يمر بخمس مراحل عندما يتلقى صدمة كبيرة: الإنكار، والغضب، والمساومة، والحزن ثم القبول. لا شك أن إنكار الواقع وكبت المشاعر بدلًا من تقبلها ومناقشتها بصراحة لا يسهم سوى في تفاقم الاكتئاب، وكما رأينا في المشهد السابق، فإن إيميليا تحبس نفسها في زنزانة الكبت والنكران.

وليس قمع المشاعر بالعامل الوحيد في تدهور حالة إيميليا، هناك كذلك ضغوطات تربية طفل، مثل: صامويل دون سند من والده. فالصبي تارة يهشم الأشياء في المنزل، وتارة يدفع الأطفال بعنف كما فعل بالصغيرة روبي أثناء حفلتها، ولربما دخل أيضًا في نوبة من الصراخ والركل دون توقف. في إحدى تلك النوبات تصرخ فيه والدته: "ألا يمكنك أن تكون طبيعيًا قط؟". يتعرض الطفل عندئذ إلى نوبة تشبه الصرع وتحمله والدته إلى الطبيب. إلى جانب سلوكه المُرهق، يتمتع صامويل بخيال نشط وغريب، فتخيلاته للوحوش –من ضمنها "البابادوك"– مستمرة إلى درجة الهوس. في مشهد الحديقة نرى صامويل يلوح بيده وكأنها تحمل سيفًا ويهتف بوحش خفي: "سأهشم رأسه يا أمي"، هذا إلى جانب سلاحه الخطير الذي يُطلق ما يشبه الرماح، وهو لعبته المفضلة.

في معالجة شديدة الذكاء، يشير الفيلم إلى أن معاناة الابن ليست معزولة عن كرب والدته. فتخيل صامويل لـ "البابادوك" تتبعه خيالات من الأم نفسها بينما فرط حركته وعنفه يؤججان قلقها بلا حدود. وكذلك فإن انسحابية الأم تؤثر في استقراره النفسي، كما أن غضبها وميلها للعنف تعززان مخاوفه من كل ما يُرى وما لا يُمكن رؤيته.

أعراض وظواهر الاكتئاب:

يذكر لويس ولبرت في كتابه (الحزن الخبيث: تشريح الاكتئاب، ص 53-54) أنه لكي نشخص فردًا بالاكتئاب فينبغي توفر خمسة أعراض على الأقل من بين الأعراض الآتية ولمدة أسبوعين على الأقل:

  1. تدني المزاج معظم اليوم.
  2. تراجع القدرة على الاهتمام أو الاستمتاع.
  3. غير ملحوظ في الوزن سواء بالزيادة أو النقصان.
  4. زيادة النوم أو نقصانه بصورة مؤثرة.
  5. العجز في السيطرة على حركة البدن.
  6. التعب الشديد.
  7. الشعور بالذنب أو قلة القيمة.
  8. نقصان القدرة على التفكير والتركيز.
  9. التفكير بالموت أو الانتحار.
  10. فقدان الشهية أو الشراهة.
  11. الشعور باليأس.

سنجد أن عددًا لا بأس به من الأعراض المذكورة تمظهرت بصورة أو بأخرى في الشخصية الرئيسة في أحداث الفيلم. علاوة على أن مدة استمرار معاناة الأم الأرملة لا تقل عن 6 سنوات (عمر الطفل الذي وُلد يوم وفاة والده). فيما يأتي سنحلل بعضًا من تلك الأعراض التي يمكن للمتابع التقاطها من أحداث الفيلم وسلوكيات الشخصية الرئيسة.

  1. تدني المزاج معظم اليوم:
  2. يتراوح المزاج المتدني بين الحزن، والغضب، والتوتر والقلق. منذ بداية الفيلم ورغم تعدد المواقف والأشخاص والأماكن، فإن إيميليا كانت بعيدة كل البعد عن مظاهر الفرحة والمرح. فلا تتجاوب مع ولدها عندما يمازحها ولا تتلطف مع المسنات التي ترعاهن بحكم عملها، ولا تبدي الحماسة أثناء حفلة الطفلة روبي مع غيرها من السيدات.

    يزداد المزاج سوداوية مع مرور أحداث الفيلم وهيمنة الاكتئاب على نفسيتها. فبعد إحدى ثوراتها على ابنها، تلحق به إلى غرفته للتأكد من تناوله الدواء. ترجع بعدها لتنزوي في إحدى الغرف وتنكفئ على كرسي وتنخرط في بكاء مرير. يلج كلبهم الأليف الغرفة فتلتفت نحوه باحثة عن المواساة: "مرحبًا يا باغزي، مرحبًا يا عزيزي!". يخرج الكلب بعد هنيهة لتعاود إيميليا الانتحاب من جديد.

    من مؤشرات تدني المزاج الغضب المتواصل والاستجابة لأبسط الاستفزازات. يتصاعد غضب إيميليا مع تتابع أحداث الفيلم. ومن أحد تجلياته ردها الفج على جارتها المسنة عندما حكت لها بأن صامويل يشبه أباه الراحل من حيث إنهما يقولان ما يفكران به دون مواربة. فما كان رد إيميليا على ذلك سوى التجهم والسؤال الاستنكاري: "هل يجب أن تذكرينه دائمًا؟"

    تستمر جمرة الغضب في التوقد فنشاهد صامويل يحدثها وهي تحاول العودة إلى النوم شاكيًا إليها عدم وجود طعام في الثلاجة. مع إلحاحه المستمر تنتفض من مضجعها وتصرخ به: "إذا كنت جائعًا لهذه الدرجة فلم لا تذهب وتأكل الفضلات؟!". وتلك ردة فعل يصعب تصديقها ما لم نأخذ في الحسبان أن هذه الشخصية تمر بأزمة نفسية حادة.

  3. تراجع الاهتمام أو الاستمتاع:
    • الاهتمام بالمظهر
    • منذ افتتاحية الفيلم تطالعنا إيميليا فانِك بشعر غير مصفف ووجه يخلو من الزينة. حتى إننا نجدها في عملها لا تختلف كثيرًا في المظهر عن السيدات الطاعنات في السن التي ترعاهن.
      في مشهد حفلة الصغيرة روبي، ثمة مجاورة (juxtaposition) متجلية في المنظر حول طاولة الطعام، حيث تجلس إيميليا بشعرها الأشعث وملابسها الرثة بين صفين من السيدات المتأنقات بشدة. وهنا تتجسد قوة الصورة في تحفيز ذهن المشاهد على تمييز الفرق بين الإنسان الطبيعي والمكتئب.

    • المنزل
    • يخبرنا المنزل الكثير عن صحة إيميليا النفسية. فالصناديق الملقاة، والأغراض المبعثرة والمطبخ الغارق في الفوضى، جميعها دلالات على أن الصحة النفسية لصاحب المنزل ليست على ما يرام. في أحد المشاهد، تندلق مجموعة من الديدان من خلف الثلاجة، الأمر الذي يسبب لها إحراجًا أمام مفتشي الحكومة. يدل تساقط الدود من الحائط على نقص في الاهتمام بالنظافة العامة، غير أنه قد يرمز أيضًا إلى قمع العواطف الذي لا بد وأن يؤدي إلى انفجار لكل المشاعر السلبية بأبشع الصور الممكنة.

    • الاهتمام العام
    • منذ الدقائق الأولى للفيلم والمشاهد يرى نماذج مختلفة لعدم اهتمام الأرملة بكل ما يدور حولها. فعلى سبيل المثال، يحاول ابنها تنفيذ خدعة سحرية هاتفًا بكل حماسة: "يداي خاليتان...يداي خاليتان!"، بينما هي منهمكة في ضبط هندامها دون أن تعيره أدنى اهتمام. الأمر مقلق خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن صامويل يتيم وليس له أشقاء.
      في الحديقة مع صديقتها الوحيدة، تجلس إيميليا غير مكترثة بالشكوى المحمومة التي تبثها إياها كلير عن شخص ما. تلاحظ كلير شرودها فتعاتبها لعدم إنصاتها: "أنتِ لا تستمعين إليّ"، لتدعي صديقتها المكتئبة بأنها كلها آذان صاغية.
      لا تكاد إيميليا تفعل شيئًا في وقت فراغها سوى مشاهدة التلفاز، ومع ذلك فإن ملامحها لا تعكس أي انفعالات سوى انعكاس الأضواء التلفزيونية كأنوار على سطح مُصمَت. في العمل يحاول زميلها التودد إليها، تارة بإلقاء الفكاهات وتارة في التعاون معها أثناء الضغوطات، أما ردود أفعالها فلا تعدو عن كونها باردة وغير مناسبة.

  4. زيادة النوم ونقصانه بصورة مؤثرة:
  5. يركز الفيلم بصورة خاصة على اضطرابات النوم التي تعاني منها إيميليا ويبدع في تصويرها بشتى الوسائل. في المشهد الافتتاحي نشاهد إيميليا تسقط في الهواء وكأنها في هبوط قسري وصولًا إلى فراشها. ثم بين كل مشهد وآخر، نراقبها وهي تقضي ساعات الأرق أمام التلفاز أو في غرفة النوم وهي تحدق في الفراغ بجانب ولدها.

    وإذا تحدثنا عن النوم فلا بد من الحديث عن جودته، لا عن عدد الساعات فحسب. فحتى عندما تخلد إلى النوم، تراودها الكوابيس، بعضها عن الحادث الذي فقدت فيه زوجها، أو لاحقًا عن "البابادوك". كما أنها تعاني من الخروج المفاجئ عن عالم النوم، سواءً بسبب ولدها كثير الإلحاح، أو دون سبب. ومن أبدع طرق تصوير رداءة النوم هي تسريع لقطة النوم حتى تبزغ الشمس خلال ثوانٍ بعد أن تسبل السيدة المكلومة جفنيها، مما يجعل المشاهد يشاركها الإحساس بانعدام الراحة في النوم، وكأن منامها لا يعدو عن كونه غمضة عين لا أكثر.

    عندما تزور إيميليا الطبيب لفحص صامويل ويعرض عليها إحالته إلى طبيب نفسي. تطلب منه أن يعطيه "شيئًا الآن لمساعدته على النوم"، ثم تتوسل إليه وتزل لسانها بخلط احتياجها للدواء بحالة صامويل: "لم أنم منذ أسابيع...وكذلك صامويل". يجدر بالذكر أن الفيلم لم يوضح بأن صامويل يعاني أي مشكلات متعلقة بالنوم على عكس والدته.

  6. نقصان القدرة على التفكير أو التركيز:
  7. النظرات الساهمة، وعدم القدرة على متابعة الحديث، والتصرف دون وعي، كل ما سبق يدل على عجز إيميليا عن التركيز والتفكير. في مشهد مُعبّر، تغادر إيميليا موقع عملها بعد موقف غير لائق تجاه السيدات في دار الرعاية. تسير الأم العزباء دون هدى وهي تتناول المثلجات، ثم تجلس على كرسي ترمق الغادي والرائح بتعابير جامدة. بعد ذلك تتجه إلى عربتها، ومن داخلها تختلس النظر باتجاه زوجين يتعانقان. في لحظة إدراك مباغتة، تستخرج هاتفها من حقيبتها لتجد عشر مكالمات فائتة من كلير الغاضبة من تصرفات صامويل في منزلها.

    قد يصل انعدام التركيز إلى درجة تعريض النفس والآخرين إلى الخطر. في لقطة مثيرة للتوتر، نجد إيميليا دون سبب واضح تقود سيارتها عكس اتجاه السير، وليست لوحدها فقط، بل بوجود طفلها في المقعد الخلفي. عندما يسألها صامويل عن وجهتهم ترد عليه بكل بساطة: "أود القيادة لبعض الوقت لا أكثر". لا عجب أنها أوشكت على التعرض لحادث مروع بعد دقائق من القيادة، مما قد يدفعنا للتساؤل إن كان الأمر يتجاوز كونه عدم انتباه إلى عرض آخر من أعراض الاكتئاب وهو التفكير في الانتحار.

  8. العجز في السيطرة على حركة البدن:
  9. لا تنفك إيميليا عن تحريك فكها والكزّ على أسنانها في حركة قهرية. وفي هذا مؤشر على عدم قدرتها على التحكم بجسدها، وفي الوقت نفسه عدم الاكتراث بصفة عامة، وإلا لكانت توجهت إلى طبيب مختص في أقرب وقت ممكن. نعرف أن المكتئب ليست لديه أولويات، أو قد تكون أولوياته غير طبيعية مقارنة بالشخص المتزن نفسيًا. لذا لا غرابة إذ أرجئت الشخصية المكتئبة زيارة الطبيب لأجل غير مسمى على الرغم من الألم الذي تقاسيه.
    هناك العديد من الأعراض الأخرى التي لم يركز عليها الفيلم بصورة خاصة، وإنما ظهرت بصورة عرضية. هذا إضافة إلى المعادلات الموضوعية التي يزخر بها الفيلم من سماء مكفهرة، وغرف مظلمة وديدان مستشرية.

التعافي:

للتعافي ظروف وعوامل جانب الرغبة والدافع الذاتي في التعافي. بعد معاناة مريرة مع الاكتئاب، تبدأ إيميليا بالتماثل للشفاء، ولكن ذلك لا يحصل بسهولة ولا بصورة نهائية. فيما يأتي نستكشف بعض العوامل والمراحل التي مرت بها الشخصية الرئيسة في الفيلم في رحلتها للنجاة من الحزن الخبيث.

الوعي الذاتي:

مع تدهور حالة إيميليا النفسية، تزداد نوبات الغضب والانهيارات العاطفية من حيث الحدّة والتكرار. غير أننا نبدأ بملاحظة أن الأزمة بدأت تتكشف لصاحبتها بدليل الاعتذارات التي تقدمها لولدها. على سبيل المثال: بعد أن طلب صامويل الطعام وردت عليه بردها الصادم -المذكور آنفًا-، لحقت الأم بولدها لطلب السماح "لم أكن واعية بما قلته"، بل وعرضت عليه الإفطار في مطعم: "هل تريد الذهاب إلى مطعم "والي"؟ يمكنك تناول أي شيء...بل يمكنك تناول المثلجات على الإفطار إن شئت."

في مشهد تالٍ يتصل صامويل بجارتهم طلبًا للطمأنينة إذ استشعر الخطر من سلوك والدته. تثور ثائرة إيميليا إلى درجة تلويحها بالسكين في وجه الصبي. بعد ذلك تخلد للنوم في تلك الليلة ويراودها حلم عن زوجها الفقيد. في البداية تكون الرؤيا جالبة للراحة والعزاء، لكن أوسكار ينقلب فجأةً إلى شخص مرعب يطلب من زوجته أن تعطيه "الصبي". ترفض الزوجة هذا الطلب الكابوسي وتفر من الموقف. يشير هذا المشهد إلى إدراك إيميليا خطورتها على ولدها، فكأن عقلها الباطن يصرخ بها أن المطاف سينتهي بها إلى إحداث ضرر في حياة الطفل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

في الليلة الأخيرة تنفجر السيدة المكتئبة انفجارها الأكبر حيث تلاحق ولدها بطريقة متوحشة وتصرخ فيه بشتائم وتهديدات شرسة: "أيها الخنزير الصغير...أحيانًا أريد أن أحطم رأسك على الحائط حتى يتفجر دماغك". بعد حديثها إلى جارتها المسنة التي تطرق الباب لتستفسر عن الجلبة، تعود الأم بوجه تكسوه الشفقة وتفضي لولدها بأهم اعتراف في الفيلم: "صامويل...أنا آسفة. أتفهم خوفك، فأنا لم أكن في أحسن حال منذ رحيل والدك. لم أكن جيدة على الإطلاق. أنا مريضة يا صامويل وأحتاج إلى مساعدة."

المواجهة:

تصل الأحداث إلى ذروتها عندما يتمكن صامويل من تقييد والدته التي تتلوى بطريقة فظيعة توحي بوجود مس شيطاني أو عذاب نفسي، متيحة للمشاهد اختيار تفسيره. يستغل الطفل الوضع بمواجهتها بالحقيقة: "أمي، لن أتركك! قلت إننا لن نترك بعضنا البعض، لكنك لم تعودي تحبينني... "البابادوك" لن يدعك تفعلين. لكنني أحبك وسأحبك إلى الأبد".

تعتري إيميليا تشنجات عقب تلك المواجهة وتتقيأ مادة سوداء، في إشارة محتملة إلى التخلص من الاكتئاب. تنهض بعدها وتمشي مترنحة وهي تحاول استيعاب ما حدث، وقبل أن تفعل، يختطف "البابادوك" صامويل إلى غرفة في الأعلى. وهنا تحدث المواجهة النهائية. يبدأ الوحش بالزئير من الزاوية المعتمة للغرفة فيما تحدق فيه إيميليا بصلابة وتهتف: "أنت لا شيء!". يتغول "البابادوك" وتشتد زمجرته وتستمر إيميليا في التحدي: هذا منزلي وأنت تقتحمه! إذا لمست ابني مرة أخرى فسأقتلك!". تواصل السيدة فانِك الصراخ ثم تتجرأ وتلمس "البابادوك" رغم منظره البشع، ما يجعله يلوذ بالفرار إلى القبو.

بذلك تكون إيميليا اعترفت بإصابتها بالاكتئاب وواجهته بدلًا من الكبت والإنكار والسير مغمضة العينين كأن شيئًا لم يكن. وكذلك أكدت على قدرتها على التحكم بمشاعرها "هذا بيتي وأنت تقتحمه!"، إلى جانب إعلانها بأن ولدها خط أحمر "إذا لمست ابني مرة أخرى فسأقتلك!". جرأتها على مواجهة الاكتئاب وملامسته عن قرب هو خطوة مهمة جدًا في التعافي، غير أنها ليست النهاية الحتمية كما سنرى لاحقًا.

مؤشرات التعافي:

فور الانتصار بالمواجهة الكبرى، تحتضن إيميليا ولدها في عناق دافئ لم نشهد مثله طوال الفيلم. وهذا ملمح مهم إذ إن الاكتئاب يغتال المشاعر الطبيعية والعواطف التلقائية. في المشهد التالي يلوّح الابن بفرح لوالدته العائدة من العمل ويسارع لاستقبالها. لا شك أن هناك فرقًا شاسعًا بين خوفه السابق منها ونظراته التي تحاول استشراف تصرفاتها العنيفة وبين فرحته الصافية في هذا المشهد. فالشخص قد يختطفه الاكتئاب لدرجة أنه يصبح منفرًا وطاردًا لمن حوله، حتى أولئك الذين يهتمون لأمره ويحاولون مساعدته.

يحل موعد عيد ميلاد صامويل ويحتفلان به في مظهر بهيج بحضور المفتشين الحكوميين. يذكر صامويل أن ذلك هو أول عيد ميلاد له يُحتفل به في يومه، وهو تصريح أذهل المفتشين. تنبري إيميليا لتوضح لهما بأن والده توفي بيوم ميلاده نفسه، ثم تستمع لصامويل وهو يشرح حيثيات الحادث وعلى شفتيها ابتسامة تنم عن التقبل والسلام الداخلي. نقلة مهمة أخرى نشهدها إذ تعطي الأرملة الأولوية للحي على المتوفي، والاحتفاء على العزاء.

يجمع المشهد الختامي بين الصبي ووالدته في حديقة المنزل. يمارس صامويل هوايته المتمثلة في أداء الخدع السحرية. على النقيض من موقفها في بداية الفيلم، تتمكن إيميليا من التركيز في الخدعة ومن ثم إظهار الحماسة والذهول: "هذا رائع! كيف فعلت ذلك؟!". وذلك دليل آخر على استعادتها لنفسها من خلال القدرة على التركيز وإصدار ردود أفعال طبيعية.

التعافي رحلة دائمة

في المشهد الختامي للفيلم نُفاجأ بأن "البابادوك" ما زال في القبو رغم مظاهر الحياة الطبيعية في كل شيء سواه. تقدم إيميليا للمسخ طبقًا من دود الأرض ليقتات عليه. يزأر المسخ في وجه معيلته فيعتريها الرعب، غير أنها ما تلبث أن تتمالك نفسها وتهتف: "الأمر على ما يرام. لا بأس!"، فينسحب "البابادوك" ويصمت، وتستعيد إيميليا هدوءها واتزانها. في هذا المشهد إشارة إلى أن التخلص من الاكتئاب قد لا يكون أبديًا، بل تبقى أثاره في أغوار النفس، وسيتربص بصاحبه ليعاود الانقضاض متى ما لامس منه ضعفًا أو تراجعًا في المعنويات. والمطلوب من المتعافي أن يُبقي على حذره وألّا يترك المجال لوحش الاكتئاب للخروج من القبو ليعيث في منزله النفسي فسادًا وتهشيمًا.

خاتمة:

يُعدّ فيلم "البابادوك" من الأمثلة الممتازة لأعمال الرعب السينمائية التي يمكن أن تعبر عن قضايا عميقة تمس الفرد والمجتمع. يمكن للمشاهد بكل بساطة أن يستمتع به بوصفه فيلم رعب مفعم بعناصر التشويق وإثارة الذعر. لكن المتابع الحصيف سيجد فيه عمقًا نفسيًا قل نظيره من حيث الإبداع، وسلاسة الدمج، وواقعية الطرح.

يستثمر الفيلم فكرة المس الشيطاني ليصور معاناة الاكتئاب حيث لا يشعر بالآلام الممضة سوى من يرزح تحت وطأتها. من خلال مظهر الشخصية الرئيسة، وسلوكها وردود أفعالها، يعمد الفيلم إلى تصوير الاكتئاب المرضي بطريقة فنية مبتكرة. ولا يترك الفيلم المشاهد في عتمة الألم النفسي، بل يدعوه ليختبر نشوة التعافي مع البطلة الصامدة. وبذلك يترك الفيلم رسالة فحواها أن الاكتئاب مرض عضال وكذلك أن الشفاء ممكن.

في هذه الدراسة قرأنا الفيلم بعدسة نفسية استنطقنا بها الشخصية والأحداث لتحليل طريقة الفيلم في مناقشة معاناة الاكتئاب والتعافي منه. يمكن كذلك قراءة الفيلم بطريقة سيميائية تسلط الضوء على رموز المرض النفسي وتمثيلها في الفيلم. ومن نافلة القول إن العمل الفني الذي يمكن قراءته وتفسيره من زوايا مختلفة هو عمل يستحق الإشادة والتقدير.