إيمان العزوزي
تعدُّ (ياسمينا رضا) من أهم كتّاب المسرح الفرنسي المعاصر، وُلدت لأبوين ينحدران من خلفيات متنوعة؛ مهندس روسي ذو جذور إيرانية، وعازفة كمان مجرية من أصل يهودي، التقيا في روسيا خلال العهد السوفيتي، وأسسا أسرة ذات اهتمامات ثقافية رفيعة. واجهت أسرة (ياسمينا) -مثل العديد من الأسر المثقفة- تحديات السياسة التي أجبرتها في نهاية المطاف على الهجرة إلى فرنسا. وقد استطاعت ياسمينا الاندماج في المجتمع الفرنسي وبالتالي المشهد الثقافي، وشقت طريقها بنجاح ممثلةً ثم كاتبةً مسرحية، مُحققة تميزًا في مجالها.
استلهمت (ياسمينا) أعمالها من مسرحيين عالميين مثل (تشيخوف) و(نتالي ساروت)، ويبدو تأثير الأخيرة جليًا في معظم مسرحياتها. وقد طورت أسلوبًا خاصًا أتاح لمسرحياتها التألق محليًا وعالميًا؛ يميل إلى الإيجاز في البناء المكاني والزمني لأعمالها، وغالبًا لا تتجاوز مسرحياتها مئة وخمسين صفحة. كما تُسيطر على نصوصها موضوعات الفن والموسيقى، وهي موضوعات تعترف (ياسمينا) أنها مستقاة من تجاربها الشخصية. تُصنف أعمالها ضمن المسرح التجريدي والكتابة التقليلية[1] التي تركز على العناصر الأساسية والجوهرية وتعتمد التكثيف والاختزال، كما تجنح (ياسمينا) إلى ترك مساحات بيضاء في النص، تُترجم إلى صمت على خشبة المسرح، تراهن من خلالها على قدرات الممثل التشخيصية وعلى وعي المتلقي من أجل ملئها.
تختار (ياسمينا) شخصياتها بدقة متناهية، وتكتفي بالشخصيات الرئيسة مستغنيةً عن الشخصيات الثانوية، تصف شخصياتها بأنها شخصيات تغالب اضطرابها العصبي، وأنها تقف دائمًا على حافة الانهيار، شخصيات قلقة تسعى إلى فرض أفكارها على الآخرين. تسبر (ياسمينا) من خلالها أغوار التناقضات الإنسانية، حيث تخفي الشخصيات وراء قناع اللباقة الاجتماعية غرائزَها البدائية والمفرطة في القسوة والخداع والحقد. يكشف عالم (ياسمينا رضا) الطبيعة الحقيقية للأفراد، من خلال وضع الشخصيات في مواقف متطرفة وعنيفة تجردهم من أقنعتهم.
مسرحية (فن) تجمع كل هذه العناصر، وقد تميزت بالنجاح الكبير منذ كتابتها في عام 1994م، حيث نالت استحسان الجمهور والنقاد، وتُوجت بجوائز مرموقة مثل جائزة (موليير) الفرنسية في عام 1995م، وجائزة (أنطوانيت بيري) الأمريكية للتميّز المسرحي في عام 1998م، بالإضافة إلى جوائز دولية أخرى، ونتيجة لهذا النجاح، تُرجمت المسرحية إلى أكثر من 35 لغة منها العربية، وعُرضت على معظم المسارح الوطنية حول العالم مثل برلين ولندن وطوكيو. تُصنف المسرحية ضمن فئة "Huis clos" أي "الأبواب المغلقة"، وتتألف من فصل واحد لا يزيد عن 130 صفحة، يشتمل على متتاليات من المشاهد التي تضم غالبًا شخصيتين أو ثلاث شخصيات، مع مونولوجات[2] منفصلة لكل شخصية. تترك (ياسمينا) فترات من الصمت بين المشاهد لتخفيف حدة الصراع بين الشخصيات، وتتميّز المساجلات بكونها سريعة ونابضة بالحياة، تتنوع بين السخرية ومحاولات إثبات وجهات النظر المتباينة.
- [1] الكتابة التقليلية: بالإنجليزية: (minimalism writing) أسلوب كتابة يستغني عن اللغة التفصيلية والوصفية لتقديم القصة ببساطة ومباشرة.
- [2] المونولوج: حديث النفس أو النجوى التي تكون في دواخل الشخصيات.