جزاع بن فرحان الشمري
السيرة الذاتية نص يكتبه الشخص بنفسه، يكتب تاريخ نفسه وحياته، كتابة تتصل بواقعه الماضي الذي عاشه، يسجل ويسرد فيها الوقائع والأحداث والأخبار التي مرّت عليه وما جرى له فيها من أفراح وأتراح، تعظم وتقل تبعاً لأهميتها وأثرها. والسيرة الذاتية نوع من الأنواع الأجناسية لأدب الكتابة عن الذات، تتخذ من الذات موضوعها عبر الاشتغال المكثف على الذاكرة وإعادة تشكيله في الزمن الحاضر "زمن الكتابة". وقد جاء تعريفها كثيراً في المعاجم وعند النقاد، فقد عرفها قاموس أوكسفورد بأنها: "كتابة الشخص لتاريخه وقصة حياته بقلمه" [1] كما عرفها أيضاً معجم المصطلحات العربية بأنها: "سرد متواصل يكتبه شخص ما عن حياته الماضية" [2] وتتعدد المفاهيم حول مصطلح السيرة الذاتية، فتدور في فلك الكتابة عن الذات، فالذات هي مرتكزها. وهي أكثر الأجناس الأدبية تطوراً ومرونة من حيث مفاهيمها وقضاياها وتعالقاتها مع الأجناس الأدبية الأخرى.
وقد اجتذبت السيرة الذاتية العديد من الكتّاب لكتابة تجاربهم ومغامراتهم وإنجازاتهم التي رأوا أنها جديرة بالتدوين؛ لفهم أنفسهم والمجتمع الذي يعيشون فيه؛ ولتوثيق تاريخهم ومسيرتهم في الحياة، ولتحقيق منزلة اجتماعية ومكانة أدبية لهم، وغيرها من الأسباب والدوافع التي دفعتهم لكتابتها. وتمر هذه الكتابة عبر إشكالات متعددة ومتنوعة، منها: عدم اكتمالها في تغطية حياة كاتبها، وذلك لأسباب مختلفة تمثل فيها الانتقائية الجزء الأكبر، فالكاتب يختار ما يود إظهاره ويغفل ما لا يرغب في الكشف عنه، كما أن النسيان يلعب دوراً مهما في محاولة استحضار الماضي في الذاكرة، فهي الوسيلة التي يستخدمها الكاتب في استحضار صور الماضي وأحداث الذات الشخصية بما تسعفه من تفاصيل وجزئيات، بالإضافة إلى العوامل النفسية والاجتماعية التي تجعل من الكاتب أن يختار المواقف والأحداث اللطيفة التي تتناسب مع إظهار صورته الذاتية ومكانته بين أفراد المجتمع.
يركز كتّاب السيرة الذاتية على مراحل محددة من حياتهم؛ لأسبابهم الشخصية أو الفكرية أو الأدبية في إبراز هذه الجوانب من دون غيرها، وفي اعتقادهم أن هذه المرحلة هي التي شكلت وجود ذواتهم، أو أنها تستحق الكتابة عنها وتخليدها. هذا الاعتقاد أنتج للقارئ والناقد على السواء سيرة غير مكتملة. فالسيرة غير المكتملة في أكمل صورها هي التي تناولت مرحلة من مراحل حياة الكاتب ومثلت أحداثها، هذا التمثيل يركز على جزء من حياة الكاتب، ومهما كانت قيمته إلا أنه لا يستوعب مجريات الحياة بكل تحولاتها بدءاً من الطفولة حتى زمن الكتابة. ويمكن -إن جاز التعبير- أن نسميها السيرة "الجزئية" التي يكتبها صاحبها باختيار سردها في البوح، وربما يعتريها النسيان في بعض تفاصيلها.
إن السيرة الجزئية لا يتحقق فيها البناء السردي بصورة شاملة؛ لأنها تركز على مرحلة محددة من حياة الكاتب وتجربته، هذا التحديد لا يخرجها من دائرة الأدبية أو الفنية، بل كثيراً ما يمنحها العمق وكثافة التجربة وحرارتها، ولا شك بأن كاتبها حينما اختار هذه المرحلة بما أسعفته به الذاكرة، يكشف عن أهميتها بالنسبة إليه، أتاحت له رؤية نفسه من خلالها، ولهذا جاءت أغلب السير الذاتية في الأدب العربي على هذا النوع من المراحل والأحداث الحياتية المحددة. فـ "طه حسين" كتب سيرة " الأيام" على أجزاء منفصلة، تناولت طفولته وصباه ثم انقطع وتوقف لأكثر من عشرين عاماً، ثم عاد وكتب الجزء الثالث بمسمى مذكرات في أول الأمر، إلا أنه منفصل عن الجزأين السابقين. وكذلك سيرة العقاد "أنا" فقد كانت أول الأمر مقالة بعنوان: "بعد الأربعين" عن حياته النفسية والفكرية، ثم تحول هذا المقال إلى سلسلة من المقالات تحت عنوان: "وحي الخمسين" ثم أراد أن ينجز مشروعه السير ذاتي باتفاقه مع الباحث "طاهر الطناحي"، ولكن لم تمهله الحياة فجمع وأكمل "الطناحي" بقية فصولها. وكذلك "لويس عوض" رحل ولم يكمل سيرته "أوراق العمر - سنوات التكوين". وكان ينوي المضي في الكتابة، ولكنه لم ينجز إلا القسم الخاص بسنوات التكوين، غير أنه كان صريحاً في الحديث عن والده، ثم عن أخيه وأسرته. ورغم أنه كان يعرف أن ما كتبه لن يرضي الأسرة، فإنه مضى في الكتابة غير عابئ برضا الراضين أو سخط الساخطين. ومع الأسف كذلك لم يسعفه العمر بكتابة بقية أوراقه، فرحل دون أن يكملها [3]
ومن صور السير الذاتية التي جاءت غير مكتملة أيضاً، ليس الموت أو الغياب سببها، بل تركيزها على جانب من جوانب الحياة، ومنها: سيرة فدوى طوقان "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" تناولت فيها طفولتها المبكرة والتحديات والظروف التي نشأت فيها في مجتمعها. وكذلك سيرة "غازي القصيبي" المعنونة بـ "حياة في الإدارة" فقد تناولت ذاته الإدارية في عمله؛ فهي سيرة اعتنت بالجانب العملي، الذي قضى فيه جل سنواته، من إدارة إلى وزارة، وسفارة. كما أن سيرته المعنونة بـ: "سيرة شعرية" عنيت بإعادة تشكيل تاريخه الشخصي شاعراً، من خلال إحياء مختلف مراحل سيرته الشعرية، وما تخللها من تحولات ووقائع واختيارات. ومن ذلك أيضاً، سيرة حسن عبد الله القرشي "تجربتي الشعرية" وسيرة حمد المانع "لكم وللتاريخ" وهي سيرة وزارية صريحة تعنى بسيرة الكاتب وزيراً للصحة، وغيرها من النماذج الأخرى.
والسيرة الذاتية غير المكتملة مرتبطة بدوافع الكتابة ومقاصدها لدى الكتّاب في مقدمات وتصديرات كتبهم التي من خلالها يمكنه التعبير عن حالات الذات في شتى مظاهرها، كما أنها تسهم في تشكيل وعي الكتابة عن الذات ومعرفتها، ولهذا "يحرص كاتب السيرة الذاتية في فاتحة نصه عادة على بيان ظروف الكتابة ومبرّراتها [4]هذا البيان يكشف للقارئ والمتلقي مسوغ الكاتب حين يحدد مرحلة من مراحل حياته، أو حين يكون شاهداً على حادثة من الحوادث ويريد كشف ملابساتها، أو تسجيلها للتاريخ، أو كشف الحقائق وتوثيقها وتعزيز الكتّاب حولها، وحفظ ما أبقته الذاكرة، وغيرها من الدوافع والمقاصد.
كل ذلك جعل كاتب السيرة الذاتية يسعى إلى استدعاء اللحظات التي يعتقدأنها أسهمت في تكوينه وبنائه الشخصي؛ ليكشف عن تلك الروافد والغايات التي اكتسبها في مراحل حياته المختلفة، وتشاركها مع القارئ الذي يرى من خلالها نفسه في تواصل بين التجارب الإنسانية، فهو يفتش في مخازن الذاكرة ليخرج للقارئ ما يمكن أن يحقق له من وثيقة تاريخية، وقيمة معرفية وفنية تستجيب لموضوعها ومقاصدها.
المصادر و المراجع
[1] عبدالعزيز شرف, أدب السيرة الذاتية, مكتبة لبنان, الشركة المصرية العالمية للنشر, القاهرة, 1992م: 42.[2] مجدي وهبة وكامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، ط2, 1984م:205
[3] من مقال جابر عصفور، انتقائية السيرة الذاتية، مجلة العربي، العدد 659.
[4] نور الدين بنخود، السرد والتاريخ والتخييل، مركز دراسات اللغة العربية وآدابها، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط1, 2016م، :107.