أدب الرحلة المعاصر في زمن الجغرافيا الرقمية

عبدالله أحمد حامد

كان الرحالة وما زالوا إحدى النوافذ الممتعة التي يرى القراء من خلالها المشاهد والحوادث الرحلية التي يسجلونها في رحلاتهم، وكان الاتفاق الضمني بين "المرتحل وقرائه" يقضي بأن المرتحل سيقدم لهم مشاهد الرحلة وأحداثها وشخصياتها من خلال "ذاته" التي تلتقط وتعبر؛ فأدب الرحلة -في يقيني الذي يتأكد باستمرار- ارتحال في ذات الأديب قبل أن يكون ارتحالا في المكان والزمان.

وبعد الفتوحات الجديدة - للرحلة التي تشكلت بعد مبتكرات البث "التلفزيوني" حين راحت فرق " الإعداد والتصوير والإضاءة والصوت"وغيرها ترافق الرحالة الذي كان يطوي الغابات والقفار والجبال مع فريقه المتنوع - قدمت "الرقمية" المذهلة المتسارعة للمرتحل أدوات تقنية جديدة أهتبلها مجموعة من الرحالة في العصر الحاضر، وأضحت جوالاتهم المحمولة الأليفة القريبة منهم وسيلتهم للنقل السريع لمجريات رحلاتهم الجديدة، مما أسهم بشكل فاعل في استمرار تنوعٍ جديدٍ يضاف للمكتوب "الثابت" عبر وسيط تقني سهل ومؤثر ومتحرك!

ويمكن أن نقول إن "الكتابية" التي ميزت أدب الرحلات على مدى تاريخه حين كان الرحالة وحيدا يرصد الرحلة من خلال مداده ولغته، قد تنوعت مع قيمة "التقنية" الجديدة التي رانت على هذا النقل. وباتت القدرة الأدبية التي ميزت الرحلات المكتوبة عبر التاريخ تتكامل مع التقنية الحديثة في إنتاج الرحلة؛ لاعتماد الرحالة التقنيين على الجهاز الذي يكفيهم فقط أن يفتحوا "كاميراه"؛ ليأخذوا المشاهد والحوادث مع تعليقات تطول أو تقصر للإضافة والشرح! وأن "المؤسسية" التي كانت تسهم في صناعة المادة الفلمية الوثائقية الرحلية بعد بدايات ظهور البث التلفزيوني قد تراجعت نحو "الفردية" التي يسرت واختصرت تلك الجهود لتكون في يد الرحالة منفردا، يستعملها كيف وحيثما أراد. بعيدا عن عملية المونتاج "المؤسسية" التي كانت تضبط الأفلام الوثائقية الرحلية، حيث يتدخل مع جهد ورأي الرحالة رؤيةُ "المصور" وزوايا لقطاته، واشتراطات الإضاءة، وحسابات "المنتج" الذي يضفي رؤيته، ويحدد طرائق عرضه... لقد ولدت التقنية الجديدة رحالة جددا، ونقلت الرحلة عموما أدبية أو غير أدبية من نخبوية الأدب وعلم "المسالك والممالك والجغرافيا" إلى منطقة جديدة لم تلغ، ولن تستطيع أن تلغي الرحلة الكتابية، ولكنها قطعا تضيف لمستها الجديدة على مساقات الرحلة والارتحال.

كانت الرحلة المكتوبة تعتمد على "القلم" وكانت ذات الرحالة حاضرة؛ لتقديم الحوادث والمشاهد الرحلية الوثائقية من خلال تماسها معها، وشعورها بها. وكان الحس الأدبي في الرحلات المتميزة إنتاجا كتابيا يمزج بين الواقع والتاريخ، بين الموضوعي والشخصي، بين الرحلي وفضاء الذات المتفاعل معها. غير أننا يجب أن نلتقط من حسنات الرحلة التقنية الحديثة أنها أسهمت بشكل فعال في الإجابة على شرط "الوثائقية" التي أكدت عليها تعريفات أدب الرحلة، وهي "الوثائقية" التي تغدو شرطا من شروط أدب الرحلة، بعيدا عن الرحلات التخييلية التي قرأناها في رواياتنا العربية الأولى حيث ارتحال البطل إلى الغرب كما في: "زينب" و"عصفور من الشرق" و"قنديل أم هاشم" و"موسم الهجرة إلى الشمال" فقد جاءت الرحلة الجديدة التي توظف التقنية؛ لتؤكد على صدقية الرحلة ووثائقيتها؛ إذ هي تقدم الدليل الأكيد من خلال تقديم الصور الواقعية، وهذه الوثائقية هي ما تؤكد عليه كثير من تعريفات "أدب الرحلة"في بعض المرجعيات النقدية، والتي ترى هذا الأدب مثلا :" مجموعة من الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف عن رحلاته في بلاد مختلفة ..." [1]..." أو هو:"ذلك الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور في أثناء رحلة قام بها..." [2] ويراه تعريف آخر بأنه:"وصف الرحلة الواقعية إذا اكتملت له بعض الصفات الأدبية التي لا غنى عنها فيما يعد أدباً من الكتابة بوجه عام..." [3]

إن الرحلة التلفزيونية والتقنية منذ ظهورها لم تعد بحاجة إلى ما أكدتْه التعريفاتُ السابقة من ضرورة وجود الوثائقية؛ فالمرتحل التقني أصبح يحمل بين يديه دليل "الوثائقية" عبر "الكاميرا" وهي التي تتجه مؤكدة وقائعية الرحلة إلى حد بعيد، بيد أننا لا يمكننا أن نبرأها فيما تنقل وفيما تحجب؛ كما لا يمكن القطع مستقبلا بأمانة هذه "الوثائقية" في ظل تقدم هذه التقنية، وقدرتها على الدبلجة والتمويه، وتلك مداخل أخرى للدرس النقدي يمكن أن تجيب عن الأسئلة النقدية المتجددة.

كما أن الرحلة التقنية كانت قادرة لو تقدم زمنها على منح إجابات مقنعة للأسئلة النقدية التي أثيرت أحيانا عن دقة بعض الرحالة في النقل والوصف، وهي الأسئلة التي واجهت النقد منذ بدايات الرحلات العربية تحديدا، وما زالت إلى اليوم! فالرحلة التقنية ستكشف صدق هؤلاء الرحالة، أو وهمهم وانسياقهم نحو محاولة التشويق أو النقل عن غيرهم، أو رغبتهم في منح رحلاتهم نوعا من الأحداث النوعية التي ترصد ذواتهم في دور بطولي أو مظلومي مؤثر! ويمكن الإشارة هنا على سبيل المثال فقط إلى نص من نصوص "أنيس منصور" في رحلته حين يقول: "وأكلت الضفادع والثعابين البرية في هونج كونج،وأكلت البيض وهو مليء بالكتاكيت،وحتى لا أصاب بقليل من القرف فإنهم في الفلبين يضيفون إليه بعض الفلفل والملح " [4]لقد كانت التقنية الحديثة قادرة -لو تهيأت حينذاك- على الإجابة عن أسئلة التشكيك التي أشار لها أحد الباحثين، والتي رأى في هذا النص تخليَ الرحالةِ عن دوره الواقعي المعهود في "أدب الرحلة" إلى محل الشاعر العربي في نَفَسَه الفخري؛ ليقدم شخصية بطولية نسقية واضحة، تتجه نحو المبالغة ! [5]

على أن الأمر لا يعني أن التقنية ستكون دليلَ تأكيدٍ واطمئنانٍ على سلامة الرحلات الآنية والقادمة من المبالغات، في ظل تسارع التقنية، وقدرتها على دبلجة رحلات لم تحصل، وإظهارها في صورة واقعية خادعة ومضللة، وربما كان "الذكاء الصناعي" وسيلة سهلة في قادم الأيام؛ للاستجابة للتحايل والخداع في صناعة رحلات غير حقيقية، بيد أن كل ذلك سيكون مرصودا بآليات النقد التقنية الحقيقية التي تكشفه إذا أرادت. وهو ما يعني أن على الناقد أن يتسلح بأدوات تقنية جديدة، وأن يطلع على التقنيات الكاشفة لمثل هذه التويهمات التقنية، وليس ذلك فحسب، بل إن على الناقد الحديث أن يكون مطلعا على آليات صناعة المشاهد الحديثة، وآليات منتجتها، وإمكاناتها التقنية المتجددة باستمرار؛ لينطلق من أرضية واعية ليس بجمالية الكلمة فحسب كما كان مع الرحلة المكتوبة، بل من أرضية واعية أيضا بآليات الرحلة التقنية الفنية التي تقدم وتحجب، وتظهر وتضمر، وتضيف وتمنع...




    المصادر و المراجع
    [1] مجدي وهبة وكامل المهندس ، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، 16.
    [2] الموسوعة العربية العالمية 11/136
    [3] د.أحمد علي حنطور ، الرحلة إلى بلاد الحجاز في الأدب المصري الحديث – دراسة ونقد وموازنة
    [4] حول العالم في 200يوم ، 9
    [5] ينظر:إشكالية التجنيس في أدب الرحلة- رؤية للنسق الذكوري،عبدالله حامد،مجلة جامعة الباحة للعلوم الإنسانية،107-108
    - الرحلة إلى بلاد الحجاز في الأدب المصري الحديث-دراسة ونقد وموازنة،د.أحمد محمد حنطور ، الأولى ، القاهرة ، مكتبة الآداب ، 1437هـ-2016م .
    - مجلة جامعة الباحة للعلوم الإنسانية،العدد السابع عشر،ربيع الآخر1440ه،يناير2019م
    - معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب،مجدي وهبة وكامل المهندس، الثانية، مكتبة لبنان بيروت، 1984م.
    - مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع ، الموسوعة العربية العالمية ، الطبعة الأولى الرياض مؤسسة أعمال الموسوعةللنشر والتوزيع،1416هـ .
    - نقدالذات ونقد الآخر في أدب الرحلة العربي الحديث،د.عبدالله حامد،الأولى،الأحساء نادي الأحساء الأدبي، 1437هـ-2015 م.