رجاء البوعلي
إن حالة التعولم أوالانفتاح على العالمية أصبحت سمة رئيسة في إنسان المجتمعات الحديثة، وبينما تنصب الذات أشرعتها في بحر الهويات السائلة وتبحر، يصير الإنسان متعددًا في واحد، وواحد في متعدد على نحو الولادة الجديدة. وفي هذا الأفق يعكس السرد الأدبي أزمة الإنسان الوجودية تجاه ما وُجد فيه وما يبقى وينمو به هذا التواجد. نتطرق في هذه المقالة الموجزة لواقع الصراع الهوياتي إزاء الحالة العولمية التي يعيشها الإنسان العربي عبر ثلاثة صور قُدمت في ثلاثة أعمال سردية سعودية:
الصورة الأولى: التجانس الهوياتي؛ الضرورة والتحديات. تحت هذا العنوان يمكننا إدراج الصراع الهوياتي الذي تقدمه أميمة الخميس متجسدًا في شخوص روايتها “عمة آل مشرق“ 2024 بين الجازي نموذج "الشرق" وماثيو نموذج " الغرب ". تكتب: "حين وصلوا البحرين ... ظهرت به سبع من إصابات وباء الإنفلونزا الإسبانية، وسعوا لعزلهم ومحاصرة المرض، وهاريسون لم يكتف ببلع غضبه وسخطه، بل شرع في صناعة مبررات ومسوغات للإرسالية، والتي جعلت من ماثيو يتزوج بمريضته العربية [1]
المتقابلة وتذوب في الحين نفسه. تدعم هذه السردية مقولة أمين معلوف " إن كلا منّا مؤتمن على أرثين: الأول عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعوبه وطائفته الدينية، والثاني أفقي يأتيه من عصره ومعاصريه. ويبدو لي أن الإرث الثاني هو أكثرهما حسما، ويكتسب المزيد من الأهمية يوما بعد يوم." [2]." فكلاً من الجازي وماثيو مُناط له التنازل عن جزء منه، ونزولًا عند الرغبة اعتنق ماثيو الدين الإسلامي، لتبدأ قصة الاستشراق كتجربة معاشة لا كرصد خارجي. وهنا تكمن براعة الروائية الخميس التي تدرك جيدًا المفارقة الجوهرية بين التأريخ كمشروع خارجي والتأريخ كتجربة وجودية معاشة. وبمقاربة سردية من الأدب العربي في " مذكرات أميرة عربية" [3] عن رواية لأميرة شرقية تتزوج من شاب ألماني، وتهاجر إلى برلين مُستبدلة أسمها العربي بالبرنسيس اميلي روث، غير أنها بعد عشرين عامًا من الغربة تحن للعودة للهوية الأولى والموطن الأصلي لكن المسالك تتقطع في وجهها. فتكتب مذكراتها بالألمانية كي تحفظ تاريخها ليُروى لأبنائها وأحفادها الذين لا يعرفون تاريخ والدتهم. وفي كلا الصورتين (الجازي وماثيو الأمريكي) و (الأميرة سالمة وهاينريش رويته الألماني) جاءت العلاقة الزوجية كوثيقة تجانس هوياتي، تجذرت بالحب والإنسانية وانفتحت على الغرب بكل حمولاته الثقافية والتاريخية والسياسية، فسلكت كل مسالكه الوعرة وظلت تنافح بصوت الهوية الأصلية لتكتب التاريخ على نحو تختاره وتؤمن به.
الصورة الثانية: حرية الجسد وهجرة الهويات. يكتب عبدالله الوصالي روايته " نورس هامبورغ " عن مركز الأدب العربي 2023، مُحاكيًا الهوية المأزومة بداخل "يزيد" الشاب الذي يستعير هوية " النورس" بطبيعته المهاجرة، فأي هجرة يُحيل إليها الوصالي؟ هجرة المكان والعائلة المبعثرة بين السعودية وبيروت وفرنسا، هجرة الحياة وغياب الأحبة، هجرة الجسد من الجسد، هجرة الروح من الجسد، هجرة المعنى من الحياة.. في ظل هذا الفراغ الضخم يسرد الوصالي حكاية يزيد، الذي يعيش حياة بلا أبواب ولا أسقف بعد أن فقد والده إبان الحرب الأهلية في لبنان وغادرت والدته اللبنانية إلى فرنسا. ليرى نفسه غريبًا وسط عالمٍ بلا حدود ولا قيود، مدفوعًا بغرائزه مأخوذًا بعبثية التجريب، فالتجربة في هذا العمل مؤقتة جدًا، تُعاش لتُطوى، لا لتنغرس سريعًا في الوعي الإنساني، بل تُمهد لتراكم نفسي ومعنوي، يُنتج مع الزمن نسخة روحية وانسانية وفكرية ليست هي الأفضل على الإطلاق. يقول سيجموند باومان: "هل التحرر نعمة أم نقمة؟ هل هو نقمة متخفية في صورة نعمة؟ أم نعمة نخشى أن تكون نقمة؟ " . [4]
الصورة الثالثة: المواجهة بين الهويات السائلة. " كل الذين يستهويهم العالم العربي أو يغريهم أو يقلقهم أو يرعبهم أو يشغلهم لايسعهم إلا أن يطرحوا على أنفسهم من وقت لآخر عدداً من الأسئلة. لماذا كل هذه الحجب، وهذه الملاءات؟ ألا يتوافق الإسلام مع الحرية، ومع الديمقراطية، ومع حقوق الرجل والمرأة، ومع الحداثة؟ " بهذه العبارة التي يُطلقها باومان، تُقدم رجاء البوعلي في مجموعتها القصصية "عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي" [5]سردية المواجهة بين الهويات السائلة، فعندما تصف اللقاء بين الشخصيات في العمل من العرب وغير العرب، باختلاف المرجعيات الثقافية لهم، وتفاصيل اجتماعهم على طاولة للحوار، فهي تضع الهويات في مستوى واحد من المواجهة للآخر، مؤمنة بانسانية التجربة وجوهرية الانفتاح على الآخر من أجل التعايش والمحبة والسلام، مُطلقة لذاتها المبدعة الحق في السرد الذاتي ومزجه بشعر التجربة. وهي بهذا العمل تجزل دورها الإبداعي بالتنوير الفكري والحس الإنساني واللمسة الفنية، لتثبت بأن الهويات الجامعة والفرعية قادرة على اللقاء وعبور النهر معًا. في الحين نفسه تكشف عن صعوبة تحقيق هذا التناغم والانسجام الظاهري عبر صراع ذهني شرس يقض مضجعها ويؤرقها قائلة: " لا أحد يسمع الأصوات الداخلية وهي تفترس رأسي منذ أن وطأت قدمي أرض هذا المكان، لقد احترقت كل أسفاري السابقة، وتلاشت مواقفي في الدراسة والعمل والسفر، كأني أول مرة أسافر وأرى أُناسًا مختلفين " وفي هذه السياق يكتب وائل أحمد كردي أستاذ الفلسفة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا مقاله النقدي بمجلة اليمامة [6] بأن البوعلي استطاعت في هذه القصة أن تقدم الإنسان باعتباره مشروعًا دائم التحقق عبر التفاعلات المتعددة والمتغيرة، والنابعة من أصل وهوية وجودية واحدة للفرد، تنهض وتتشكل وتُدرك في سياق الوعي الجمعي الذي توجد فيه.
أصبحت مجاراة الإنسان لتحولات العولمة من روح العصر، والتدقيق في تفاصيل الحياة اليومية يثبت ذلك على مستويات عدة. وفي سطورنا هذه، جاء السرد الأدبي السعودي المعاصر باعتباره مرآة لملامح العصر، مُستكملًا رحلة البحث عن الذات والهوية، التي بدأت ولازالت تزدهر وتتنامى على أيدي الأدباء المعاصرين بما يزيد عن الماضي ويتناسب مع اللحظة الراهنة، فمحدودية الحاجة للآخر، وإمكانية السيطرة على الحدود الثقافية تتضاءل كلما تعمقت الحالة العالمية وتقاربت الفجوة بين الأنا والآخر. وهنا يبقى التحدي حاضرًا بين الانفتاح على الهويات المغايرة والاحتفاظ بروح الهوية الأصلية. الأمر ليس سهلًا ولا هو محال أيضًا، لكنها معادلة العصر. يقول أمين معلوف " تضمنت الحداثة على الدوام التخلي عن جزء من الذات ". [7]
المصادر و المراجع
[1] عمة آل مشرق، رواية أميمة الخميس، دار الساقي 2024، صفحة 210.[2] أمين معلوف، الهويات القاتلة، دار الفارابي، الطبعة الثالثة 2015.
[3] مذكرات اميرة عربية، سالمة بنت سعيد بن سلطان، التراجم و السير، دار الحكمة 2014.
[4] الحداثة السائلة، سيجموند باومان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2016، ص 216.
[5] عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي، رجاء البوعلي، منشورات جدل 2024.
[6] مجلة اليمامة، شرفة النقد، فينومينولوجيا الذات والمجتمع عندما تصبح الكاتبة نفسها هي البطل، وائل أحمد كردي.
[7] الهويات القاتلة، أمين معلوف، دار الفارابي، الطبعة الثالثة 2015. ص 32.