الكتابة على تخوم الصمت

أمينة الجبرين

تحضر المقالة بوصفها جنساً سردياً مؤثراً؛ ويعود ذلك للحظيّتها، وعلاقتها بالقضايا اللصيقة بالمكوّن المجتمعي. ولمّا كانتْ المقالة الاجتماعية فعلاً تواصلياً بين المبدع والمجتمع، ومقياساً لاستعدادية المجتمع لتقبّل ذاته، فضلاً عن اكتنازها بموضوعاتٍ تهم الواقع الاجتماعي، اهتم كُتّابها بدقة الطرح، وخصوصية التناول، ومتابعة مستجدات قضايا المجتمع كافّة؛ فكتبوا في عددٍ من الموضوعات ذات العلاقة بالوعي المجتمعي، ثل: التقاليد، والسلطة، والدين، والتفاوت الطبقي، وقضايا المرأة...، وغيرها من الموضوعات التي من شأنها أنْ تخلق فضاءً حوارياً بين المبدع والمتلقي.

وتختلف أشكال المتلقين للمقالة الاجتماعية؛ فمنهم من يتلقاها بوصفها خطاباً جدلياً قابلاً للنقاشات النقدية، والحوارات الفكرية؛ فيكون المتلقي هنا جزءاً من العملية الإبداعية للنص يطرح الأسئلة، ويشارك في صياغة المعنى وتوليده، ويسهم في الوقت نفسه في الرقي بالوعي المجتمعي. ومنهم من يتلقى المقالة الاجتماعية بوصفها نصّاً يُشكل تهديداً لبنية الوعي المجتمعي، وفي هذه الحالة يمثل تلقيها فعلاً اجتماعياً وثقافياً، حيث يأخذ تحليلها شكلاً من أشكال الرقابة والرصد؛ لأنه يخضع للسائد المجتمعي الذي يسكن وعي المتلقي. من هنا، يستحيل التلقي إلى مرآةٍ للمجتمع، تكشف عن المشهد الاجتماعي المسكوت عنه. ويحيل مصطلح "المسكوت عنه" إلى عددٍ من القضايا التي غالباً ما يطلق عليها "التابوهات" وهي المحظورات، والمحرّمات التي يرفض المجتمع تناولها، ولا يقبل الخوض فيها، بصرف النظر إن كان هذا "التابو" مبرراً، أو متناسقاً مع قوانين السلطة، ومبادئ الشرائع. وفي المقالة الاجتماعية لجأ عدد من الكتّاب إلى كسر هذه "التابوهات" جميعها أو بعضها، بحجة أنّها بُنيَتْ على وهمٍ مجتمعي، شرّعتْ له بعض السلطات المجتمعية المستبدّة، حتى غدا الحديث فيه، وسبر أغواره من الممارسات التي تفضي إلى الخروج عن السائد.

وغالباً "ما تكون رحلة البحث عن المسكوت عنه بمثابة اختراق لذاكرة المعنى الشائكة" [1] من هنا كانت المقالة الاجتماعية، بوصفها فضاءً خصباً لكتابة المسكوت عنه، تدخل في عملية تفكيك واختراق لمعاني متشابكة ومعقّدة، عَقَدَتْها وأوثقتْ عُراها الذاكرة المجتمعية التي تراكمتْ عبر الزمن تأويلاتها ودلالاتها ورموزها وتناقضاتها كافّة، فاستحال الاقتراب من المسكوت عنه بمثابة هدم وتفكيك للبنية الرمزية للثقافة، وتعرية في الوقت نفسه، للسائد المجتمعي بتفاصيله كافّة.

وتُمثّل المقالة النسائية السعودية فضاءً دلالياً وثقافياً لكشف "المسكوت عنه"؛ حيث طرقت الكاتبات السعوديات موضوعات مختلفة؛ اجتماعية وسياسية وفكرية، مع يقينهنّ "‏أن سقف الحرية المتاح للمرأة لا يختلف عن سقف الحرية المتاح للرجل، من حيث مناقشة بعض القضايا الحسّاسة، وبخاصة القضايا الاجتماعية والسياسية" . [2]

وبنظرةٍ فاحصة في المقالة النسائية السعودية المهتمّة بالشأن المجتمعي، نلحظ حضوراً للذات الكاتبة في مواجهةٍ مع "المسكوت عنه"، مع أنّ الكاتبة السعودية تعلم يقيناً أنّها "تخطو نحو فضاءٍ مضطرب، إذْ عليها أنْ تواجه نسقاً ثقافياً كاملاً، وليس مجتمعياً فحسب" ، [3] ولعلّ أبرز جانبٍ اهتمتْ الكاتبة السعودية بالكتابة عنه، هو حقّها في الحضور المجتمعي بالصورة التي تليق بها، بوصفها نصف هذا المجتمع، والمشاركة في بنائه وتشييده؛ ومثل هذا الموضوع، لم تكن الثقافة تسمح بالخوض فيه، ولا حتى الإشارة إليه ولو ترميزا، فكيف بتناوله وطرحه للنقاش في صحيفةٍ يوميّة؟ من ذلك مقالة الكاتبة عزيزة المانع حول موقف الإعلام من المرأة؛ إذ تقول: "لماذا يعادي الإعلام المرأة؟ لماذا تُجعل المرأة في معظم الأحوال موضعاً للتندر؟ لو قلّبنا صفحات الجرائد والمجلات، لوجدنا معظم الكاريكتير عن النساء، ولو رصدنا عدداً كبيراً من التمثيليات والبرامج التلفزيونية أو الإذاعية؛ لوجدنا معظم الجوانب السيئة في السلوك البشري تستند إلى الشخصيات النسائية، ولو أحصينا الفكاهات التي تلقى لوجدنا الجزء الأكبر منها يهزأ من النساء، ولو عددنا ما قيل في المرأة، لوجدنا أنه لم تبق صفحة سيئة على وجه الأرض لم تنسب إلى المرأة وتلصق بها، كعلامة فارقة عن الرجل". [4]

تطرح المقالة في ظاهرها احتجاجًا مباشرًا على التحيّز الإعلامي ضد المرأة؛ لكنها في عمقها تكشف عن مسكوتٍ أعمق، يتجاوز الإعلام ليطال المنظومة الثقافية والفكرية التي ترسم صورة المرأة في الوعي الجمعي. فالمقالة لا تتناول الصور السلبية للمرأة في الصحف أو الدراما أو الفكاهة فحسب؛ بل تلمّح إلى نظام قيمي أبوي، يتحكم في آليات تمثيل المرأة ويعيد إنتاج دونيّتها عبر أدوات الإعلام.

ويتمثّل "المسكوت عنه" هنا في السلطة الخفية التي تصنع الخطاب الإعلامي وتوجّهه، تلك السلطة التي تُملي على الكتّاب والمخرجين والمنتجين صورة "المرأة الناقصة"، أو "المرأة الخاطئة"، وتقدّمها على أنها الحقيقة الطبيعية. فالمقالة لا تصرّح صراحة أنّ الإعلام أداة في يد البنية الذكورية، لكنها تُلمّح إلى ذلك بطرح السؤال المتكرر: "لماذا يعادي الإعلام المرأة؟"، فيستحيل السؤال إلى صيغة مقاومة ناعمة، تُدين النظام دون أن تصطدم به مباشرة، وهذه الوظيفة الجمالية التي اعتمدتها مجموعة من الكاتبات السعوديات في حديثهنّ عن "المسكوت عنه"، تقوم على تحويل الصمت إلى شكلٍ من أشكال القول عبر التلميح والرمز. وإلى جانب الوظيفة الجمالية، تأتي الوظيفة الفكرية التي تعتمد على تفكيك الثوابت التي تحكم العلاقة بين الجنسين من جهة، والسلطة والمعرفة من جهة أخرى. ثمّ الوظيفة الوجودية التي تمكّن الكاتبة من إعادة تقديم نفسها بعيداً عن الصورة النمطية، وأخيراً وظيفة المواجهة التي تلجأ المرأة الكاتبة فيها إلى استعمال اللغة بوصفها وسيلة للتحايل على الرقابة المجتمعية والثقافية.

ويبقى "المسكوت عنه" في المقالة الاجتماعية مساحةً خصبة للتساؤل والاختراق المعرفي؛ لأنه يكشف ما يتوارى خلف الخطاب العلني من قضايا تمسّ الإنسان والمجتمع. فالمقالة الاجتماعية حين تجرؤ على مقاربة ما يُخشى قوله أو ما يُهمَّش حضوره، فإنها تؤدي دورًا نقديًا وتنويريًا في آنٍ واحد؛ إذ تضع القارئ أمام مرآة واقعه وتدعوه لإعادة التفكير في المسلَّمات الثقافية والاجتماعية. ومن هنا تتجلى أهميتها بوصفها صوت الوعي الذي يسعى إلى تفكيك الصمت، وإعادة إنتاج المعنى، لتغدو الكتابة عن "المسكوت عنه" فعلًا من أفعال التحرر الفكري، والسعي نحو مجتمعٍ أكثر وعيًا وعدالةً وإنسانية.




    المصادر و المراجع
    [1] روابح نور الهدى، سعدلي سليم، المسكوت عنه في الخطاب النسوي رواية "مورفين أحمر" لمجدولين الجرماني أنموذجاً، مجلة دفاتر مخبر الشعرية الجزائرية، جامعة محمد بوضياف، المسيلة، الجزائر، مجلد (9)، عدد (1)، 2024م، ص238 -250.
    [2] نورة الشملان، "المرأة السعودية والكتابة"، الفيصل، ع344، مارس/أبريل 2005م، ص75
    [3] أمينة الجبرين، المقالة النسائية السعودية، كتاب العربية، الرياض، 2011م.
    [4] عزيزة المانع، "الإعلام والمرأة"، عكاظ، ع 1246، ديسمبر2001م.