الرمز الصوفي في الشعر السعودي

د. مستورة العرابي

يمكن اعتبار الرمز بحسب نظرية بورس ( Charles sanders peirce) السيميائية علاقة ثقافية أو عرفية أو سياقية بين الدال والمدلول. وهذا ماذهب إليه كذلك أمبرتو إيكو( (umberto Eco. حيث يعتبر الرمز نسقُا ثقافيًّا إيحائيًّا،يحيل على أنساق القيم الاجتماعية والثقافية.[1] هذا يعني أن الرمز علامة ثلاثية البناء من خلال إحالته على علامة ثانية دلالية، فتتناسل لدى المتلقي علامة جديدة ثالثة هي:(المؤولة Interpretant)) التي تسهم في إغناء الفكر وتوليد الدلالة. من ثم، ينسجم هذا التصور مع اجتهادات كل من أمبرتو إيكو (umberto Eco) وجماعة مو Mu، وأوريكيوني. حيث يتحول الرمز إلى نسق إيحائي يتضمن قيمًا دلالية مضافة. من هنا، تعدُّ الرمزية الصوفية في الشعرية السعودية تجربة معرفية وجمالية تلائم رؤيا الشاعر للعالم والكون. وبذلك نقترح الفرضيات الآتية:
- يشتغل الرمز الصوفي بوصفه علامة سيميائية على تنشيط مختلف القيم التي يحلم بها الشاعر من قبيل: رمزية النور، رمزية العشق، رمزية الحبيب وغيرها.
- تقودنا الفرضية الأولى إلى اختبار الوظيفة السيميائية الدلالية في شعرية عبد العزيز خوجة. حيث نقارب البنية الرمزية الدلالية في علاقتها بحقول العشق والحيرة والمكابدة قصد استخلاص مقصدية الشاعر في بناء منظومة الخلاص بناء على المشهد العرفاني الداخلي الذي يوحي بأنساق القيم الحضارية الإنسانية.

تتحول المعرفة الصوفية في الأعمال الكاملة للشاعر عبدالعزيز خوجة إلى أنساق رمزية يؤطرها التحول الاستعاري بالمعنى الذي تقدمه جماعة مو Mu في مفهوم الميتابولات Metaboles))، [2] حيث تنتقل البنية الاستعارية من نسق المشابهة إلى نسق الرمز مما يؤشر على أن المعرفة الصوفية تشكّل جسرًا لغويًّا وجماليًّا لرؤيا الشاعر للعالم: "فالنور" عندما يرد نسقيًّا في علاقته بالذات عن طريق المشابهة يتحول إلى رمزية؛ للكشف عن الحقيقة. وهذا ما يؤشر على قضية الوجود والمصير بوصفها "قضية بؤرة" في أعمال الشاعر:
سُبْحَانَ مَنْ خَلقَ القُلُوبَ
لكيْ تُواسِينَا بآهْ
وتذُوبُ مِنْ وَجْدٍ، على ألِفٍ ولامٍ،
ثمّ لامٍ ثم آهْ
سُبْحَانَ ربِّي في عُلاهُ وفي سَناهُ
أسْرى بقلبي من ثراهُ إلى مَدَاهُ إلى رُؤاهْ
وأذابه وجْدًا، فهذا مُنتهاه لمنتهاهُ..
سُبحانه نورٌ تسرْبَلَ بالحِجابِ فلا تراهُ
وهُدىً تُرجِّعُ وحْـيَهُ كلُّ الشِفاهْ
لكنّني شوقٌ يَظلُّ مُسافرًا
لا ينتهي أبدًا سُراهْ! [3]

ذلك أن النسيج البصري يحيلنا على شجرة التصوف التي تتناسق فروعها تدريجيًّا لنصل إلى التسبيح بسمات عرضية هي:[+مواساة]،[+ذوبان]،[+ آهات]. إنه تشاكل المكابدة التي تؤشر عليها الوحدات المعجمية: حيث يقول:

" أسْرَى بقلْبي مِنْ ثَراهُ إلى مَداهُ إلى رُؤاه وأذابه وجْدًا فهذا مُنتهاهُ لمنتهاهْ"

إن تتبع بناء مؤولات المعرفة الصوفية يقودنا إلى كون الذات تعيش حالة سفر معرفي للوصول إلى المنتهى، وهو النور الإلهي بوصفه انكشافًا للحقيقة. وهذا ما تؤشر عليه رمزية البنيات التصورية الآتية: "سبحانه نورٌ تسربل بالحجاب فلا تراه". بيدأن الذات تلحُّ في الوصول إلى مقصدية الانكشاف،يقول:

لكنّني شوقٌ يظلُّ مسافرًا
لا ينتهي أبدًا سُراه!

غير أن الذات تشارك اللغة في هذه الرحلة الصوفية المضنية عبر توليف النسق التصوري للشعر بالنسق التصوري للمكابدة والمجاهدة،يقول:

لوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادِي
يَاقلمِي نفِدَ البَحْرُ ولمْ أكملْ..
تسْبيحَةُ شوقٍ من أورادِي
لمْ أكتبْ مَعْنى الآهَة..
أحْرقها تُحْرقُني
أرسِلُهَا لحْنًا في تسْهَادِي
...
فالحُبُّ عَلى سَفْحَكِ مرتجفٌ..
لا يَرقى للمَعْنى
لا يقدِرُ أنْ يرقى إلا أنْ يَرفَعني في رقةِ هُدْبٍ.! [4]

إن المقومات الدلالية للكتابة مثل:[+مداد] يسقطها الشاعر تصوريًّا على الأطر المعرفية ( [Frames) التصوفية من قبيل:" معنى الآه"، "أحرقها تحرقني"، "لوعة"، "جهر وسر"،" حيث يشكّل الدمج التصوري للكتابة الشعرية بالرحلة الصوفية وعذابها تجربة نحو المطلق، وهي: سدرة العشق الصوفي الذي يقود الأنا إلى انكشاف الحقيقة:

كيْ أقربَ مِنْ سِدْرةِ عِشقٍ
أرقى مِنْ أرقى الغَايَات!!

إذن، يعني ذلك أن النسق الرمزي يستند إلى الأطر المعرفية "للنور والحجاب"التي تتحول عبر المشابهات التصورية إلى تسبيح روحي ،ورغبة للكشف عن الحقيقة من خلال التسبيح الذي يشكل جسرًا لعبور رحلة الشاعر من المستوى الحسي إلى المستوى الفلسفي وبينهما تشاكل الكشف والمكابدة، فكيف نشكل مؤولة "الانكشاف والخلاص" في علاقتها بالأنساق الثقافية للتسامح والتعايش؟. إن المعرفة الصوفية هي دعوة للتسامح. حيث يقول في قصيدة "توّحد":

وتغلْغَلتْنِي كلهَا
أنفاسها في داخِلي
سُكْرٌ يُعَرْبِدُ في الجَسَد [5]

فإذا كانت الفضاءات الذهنية Mental spaces) ) [6] تمزج بين منطلقات وأهداف، فإن الأعمال الشعرية للشاعر عبد العزيز خوجة تشيّد من خلال العشق، ومسارات المكابدة أنساقًا لمقصديات الكشف. حيث نعتبر-على سبيل المثال- فضاء"التغلغل"، و" السُكْر" بمثابة جسر نحو الوحدة الوجودية، يقول:

وتمدّدت
عطرًا يمازجُنِي توحّدَ في وجُودِي واتَّحَدّ!!
إنه الانكشاف حيث تنسجم جزئيات الكون مع كلياته، يقول:
وتسرّبتْ بمَسَاِم كوني كُلِّهِ، وتملَّكتْ أقصَى مَداهْ..

إن الخلاص هنا ليس حدثًا نفسيًّا شعريًّا أحاديًّا، بل توليد مستمر لعوالم ذهنية تنشد الانسجام والتسامح، لكونها أنساقًا ثقافية تمثلها الشاعر في المعرفة الصوفية، وهي جسرٌ موثوقٌ نحو المحبة الإنسانية.

خاتمة

قدمنا في هذا البحث الموجز دراسة سيميائية معرفية للنسق الرمزي الصوفي في شعرية عبد العزيز خوجة، وذلك انطلاقًا من استراتيجية منهجية حددت فرضيات لعلاقة التصوف الشعري بالخلاص الوجودي الذاتي، والأنساق الثقافية بما يفضي إلى معنى إنساني رحب يحمل قيم المحبة والتسامح والسلام.




    المصادر و المراجع
    [1] بنكراد، سعيد ( 2019م)، تجليات الصورة – سيميائية الأنساق البصرية، المركز الثقافي للكتاب، المغرب ص: 43، وكذلك راجع: مفتاح، محمد، ( 1996م)، التشابه والاختلاف، المركز الثقافي العربي، المغرب، الدار البيضاء: ص 13.
    [2] مفتاح، محمد،( 1990م)، دينامية النص، تنظير وإنجاز، المركز الثقافي العربي، المغرب: ص33
    [3] خوجة، عبد العزيز محيي الدين، ( 1435هـ- 2014م)، الأعمال الشعرية، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى: ص 9
    [4] الأعمال الشعرية: ص 434
    [5] الأعمال الشعرية: ص 54
    [6] سامي عبد الله، (2017م)، نظرية الفضاءات الذهنية، المفهوم والإجراءات، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة سطيف، العدد 4: ص 23
    - خوجة، عبد العزيز محيي الدين، الأعمال الشعرية ، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى ( 1435هـ - 2014م).
    • بنكراد، سعيد، ( 2019م)، تجليات الصورة-سيميائية الأنساق البصرية، المركز الثقافي للكتاب، المغرب.
    • عبد الله، سامي، (2017م)، نظرية الفضاءات الذهنية، المفهوم والإجراءات، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة سطيف، العدد 4.
    • مفتاح، محمد، ( 1996م)، التشابه والاختلاف، المركز الثقافي، المغرب، الدار البيضاء.
    • مفتاح، محمد،( 1990م)، دينامية النص، تنظير وإنجاز، المركز الثقافي، المغرب.