أ. د. حسن النعمي
يشكّل التفاعل بين الرواية والسينما فضاءً غنيًّا لتجسيد الأبعاد الثقافية، حيث تتحوّل الرواية من نصّ لغويّ إلى خطاب بصريّ قادر على التعبير عن القيم والهويات والسياقات الاجتماعية التي أنتجتها. إنّ تحويل الرواية إلى فيلم لا يُعدّ مجرد نقلٍ للأحداث، بل هو إعادة تمثيل ثقافي يكشف عن رؤية المخرج للمجتمع، وعن مدى تفاعل الثقافة المحلية أو العالمية مع النصّ الأصلي، من هنا، تبرز أهمية دراسة كيفية تجسيد الأبعاد الثقافية في الأفلام (سعيد، 2012) المأخوذة عن روايات، سواء كانت عالمية أم عربية، لما تتيحه هذه العملية من قراءة مزدوجة للنصّ الثقافي في سياقين مختلفين: الروائي والسينمائي
وتُعدّ الرواية والسينما وسيطين ثقافيين متكاملين؛ فكلٌّ منهما ينقل رؤيته للعالم ويُعبّر عن قيم المجتمع وتصوراته. ويرى باختين "أنّ الرواية فضاءٌ للحوارية الثقافية، بينما يرى بودريار)"أنّ السينما تعيد إنتاج الواقع من خلال الرموز والدلالات البصرية". عند تحويل الرواية إلى فيلم، تتفاعل الرموز الثقافية بين النصّين؛ فالرواية تُقدّمها بالكلمة والوصف، بينما تجسّدها السينما بالصورة والحركة والصوت. هذا التحول لا يلغي البعد الثقافي، بل يضاعف حضوره من خلال وسائط جديدة أكثر تأثيرًا على المتلقي، (موراي، 2010).
وتعد رواية pride and Prejudice لجين أوستن من أبرز الأمثلة على تجسيد الأبعاد الثقافية في السينما العالمية. فقد أعاد الفيلم المأخوذ عن رواية إنتاج الطبقات الاجتماعية والعادات الإنجليزية في القرن التاسع عشر من خلال الصورة والملابس والموسيقى (Thompson, (2005 هنا، لم يكن الفيلم مجرّد ترجمة بصرية للرواية، بل أداة لتمثيل ثقافة كاملة من خلال الإيقاع اللغوي والجماليات البصرية.
كما يُعتبر فيلم العرّاب) (The Godfather) المقتبس من رواية ماريو بوزو مثالًا آخر على توظيف السينما في تجسيد الثقافة الإيطالية-الأمريكية، بما تحمله من قيم العائلة، والسلطة، والشرف، والعنف (Cawelti,. وقد استخدم المخرج فرانسيس فورد كوبولا لغة الضوء والظل والموسيقى الإيطالية لخلق هوية ثقافية موازية للنصّ الأدبي. وفي فيلم "The Kite Runner" (عدّاء الطائرة الورقية) المقتبس من رواية خالد الحسيني، نجد أن البعد الثقافي يتجسد في تصوير الثقافة الأفغانية قبل الحرب وما بعدها، من خلال اللغة والعادات والتناقضات الاجتماعية. وقد حافظ الفيلم على جوهر الرواية الثقافي عبر إبراز التحولات السياسية والرمزية في المجتمع الأفغاني.
أما تجسيد الأبعاد الثقافية في السينما العربية في ظهر في روائع عديدها منها روايات نجيب محفوظ في السينما. في السينما العربية، يبرز الاقتباس من الروايات بوصفه وسيلة لإعادة صياغة الواقع الثقافي والاجتماعي في قالب بصري. ومن النماذج البارزة فيلم "اللص والكلاب" المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، الذي قدّم رؤية فلسفية لواقع ما بعد ثورة يوليو، مجسّدًا الثقافة المصرية المأزومة بين المثالية والفساد (النجار. (2010. كما يظهر في فيلم "عمارة يعقوبيان" المقتبس من رواية علاء الأسواني حضور واضح للأبعاد الثقافية والسياسية، إذ يعرض صورة بانورامية للمجتمع المصري في بداية القرن الحادي والعشرين، بما فيها من طبقية وديناميات ثقافية متضاربة (عبد الغني 2012). وقد استطاع المخرج أن يحافظ على الخطاب النقدي للرواية مع إضافة طبقة بصرية تعمّق الفجوة بين النصّ والواقع.
أما فيلم "رجال في الشمس" المقتبس من رواية غسان كنفاني، فيُعدّ مثالًا على توظيف السينما في تجسيد الثقافة الفلسطينية المقهورة والمنفى. إذ تحوّل السرد الرمزي في الرواية إلى صور سينمائية تعبّر عن مأساة اللجوء وضياع الهوية (العلي، 2015). ومع ذلك فإن تحويل الأبعاد الثقافية من رواية إلى فيلم يواجه عدة تحديات؛ أبرزها أن اللغة الأدبية الرمزية يصعب ترجمتها إلى صور بصرية دون فقدان جزء من عمقها الدلالي، (Hutcheon, 2013). كما أنّ الرقابة، والسياقات الإنتاجية، والتوجهات التجارية قد تؤثر في درجة تمثيل الثقافة المحلية بصدق، ورغم ذلك، تُظهر الدراسات أن المخرجين الذين ينطلقون من وعي ثقافي نقدي قادرون على تقديم رؤية متوازنة بين النص الأصلي والتمثيل السينمائي، كما في تجارب يوسف شاهين في الناس والنيل، أو مجيد مجيدي في أطفال الجنة (كاظم، 2016).
إنّ الأفلام المأخوذة عن روايات تتيح للجمهور العالمي فرصة للتعرّف على ثقافات مختلفة من خلال الفن. فالفيلم المقتبس من رواية محلية يصبح وسيلة لتدويل الثقافة القومية عبر اللغة البصرية التي يتقاسمها البشر جميعًا وبذلك، يُسهم هذا النوع من الأعمال في تعزيز الحوار بين الثقافات، إذ يتيح للمتلقي غير المنتمي إلى بيئة النص الأصلية فهم أنماط الحياة والعادات والمعتقدات، ليس من خلال القراءة فحسب، بل عبر التفاعل مع الصورة والصوت والعاطفة.
كما أنّ العلاقة بين الرواية والسينما تمثل نموذجًا فريدًا للحوار بين الخيال والواقع، وبين الثقافة والنص. فحين تنتقل الرواية إلى الشاشة، لا تفقد أصالتها، بل تعيد اكتشاف ذاتها في ضوء جديد؛ إذ تتحول من تجربة لغوية إلى تجربة حسّية تمسّ الوجدان الجمعي. إنّ تجسيد الأبعاد الثقافية عبر الفيلم هو فعل إعادة قراءة للهوية، ومحاولة لاستعادة الذاكرة الثقافية في مواجهة هيمنة الصورة المعولمة. فنجاح التكييف السينمائي لا يُقاس بمدى وفائه للنص، بل بقدرته على نقل روحه الثقافية وجوهره الإنساني إلى المتلقي، ليصبح الأدب والسينما معًا وسيلتين متكاملتين لفهم الإنسان وتاريخه وتنوعه الحضاري وعليه، تُظهر دراسة تجسيد الأبعاد الثقافية في الأفلام المأخوذة عن الروايات أنّ العلاقة بين الأدب والسينما ليست تنافسية، بل تكاملية. فالرواية تقدّم البنية الرمزية والعمق الثقافي، بينما تمنحها السينما تجسيدًا مرئيًّا وحياة متحركة، سواء في الأدب العالمي أو العربي، تبقى هذه التحويلات الفنية وسيلة لفهم الذات والآخر، ولحفظ الذاكرة الثقافية المشتركة في مواجهة العولمة البصرية. إنّ نجاح الفيلم المقتبس لا يُقاس بمدى التزامه الحرفي بالنصّ، بل بقدرته على نقل روحه الثقافية في سياق جديد ومؤثر.
المصادر و المراجع
الأسواني، علاء. 2002. عمارة يعقوبيان. القاهرة: دار الشروق .العلي، أحمد. 2015). "تحولات السرد الفلسطيني في السينما العربية". مجلة دراسات ثقافية عربية، 82 ( 55–70) .
النجار، محمد. 2010). السينما والرواية في مصر: دراسة في الأشكال البصرية للسرد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب .
عبد الغني، سامي. 2012). "قراءة ثقافية في فيلم عمارة يعقوبيان". مجلة الفنون والسينما، 4(1، )112–128) .
باختين، ميخائيل. 1981). الخطاب الروائي. ترجمة يوسف حلاق. بيروت: دار الحوار .
بودريار، جان. (1994). محاكاة ومحاكيات. ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. الدار البيضاء: دار توبقال.
Cawelti, J. G. (2004). Mystery, Violence, and Popular Culture. Bowling Green State University Press.
Elliott, K. (2014). Rethinking the Novel/Film Debate. Cambridge University Press.
Hutcheon, L. (2013). A Theory of Adaptation (2nd ed.). Routledge.
Murray, S. (2010). The Adaptation Industry: The Cultural Economy of Contemporary Literary Adaptation. Routledge.
Naremore, J. (2000). Film Adaptation. Rutgers University Press.
سعيد، عبد الله. (2012). الخطاب الثقافي في السينما العربية المعاصرة. بيروت: المركز الثقافي العربي.
Thompson, K. (2005). Storytelling in the New Hollywood: Understanding Classical Narrative Technique. Harvard University Press.
كاظم، فؤاد. (2016). "تجليات الهوية الثقافية في السينما الإيرانية". مجلة السينما والنقد، 5(1)، 73–90 .