ملامح ثقافية في الشعر الشعبي السعودي

د. إبراهيم بن سليمان العثيم

حملت الأممُ ثقافاتِها وتاريخَها ومعارفها في وجدانها، وعبرت عنه بأمثالها وأناشيدها الملحنة وأشعارها الموزونة وفنونها الأدائية ورسوماتها ومنحوتاتها وغيرها من وسائل التعبير، فعبر بعضُها الزمنَ والتاريخَ والجغرافيا. والعربُ من الأمم التي ازدهرت عندها الثقافة الشفوية، فتناقلت معارفها عبر مئات السنين بالحكايات والقصص والأشعار والأراجيز قبل عصر التدوين. والشعر الشعبي السعودي من النماذج الأدبية التي حملت ثقافةَ أهلِها عبر العصور، فتناقله الرواةُ جيلاً بعد جيل بدءاً من عصر قائل القصيدة ومنشئها حتى وصل إلى عصر التقنية الحديثة وتطبيقات الأجهزة الذكية وفضاء وسائل التواصل الاجتماعي. تستعرض المقالة بعض الملامح الثقافية التي حملها الشعر الشعبي السعودي وعبّر عنها في القرنين الماضيين.

تحدث كثير من الباحثين عن تاريخ الشعر الشعبي وكذلك تحرير المصطلح نفسه. وقد استعرض سعد الصويان أقوال أربعة أعلام سعوديين ممن بحثوا التسمية. فكان من أوائل من نشر تسمية "شعر نبطي" المؤرخ عبدالله بن بليهد -وهي التسمية التي يرجحها الصويان- بينما اقترح الأديب عبدالله بن خميس مصطلح "شعر شعبي" واقترح اللغوي أحمد الضبيب "شعر بدوي"، فيما رجّح الفقيه ابن عقيل الظاهري "شعر عامي". [1]

انقطعت أخبار تاريخ الجزيرة العربية منذ خرج منها المسلمون الأوائل في القرن الثامن الميلادي، وظلت ثقافة منسية إلا من بعض أخبار سياسية في مكة والمدينة، أو أخبار اقتصادية في بعض الحواضر في البحرين أو اليمن. لكن الناس عاشوا في هذه الجزيرة ونقلوا تاريخهم وثقافتهم وتقاليدهم ومعارفهم إلى من بعدهم، وكانت جل هذه المنقولات تروى شفاهاً. إذ قلّ أن نجد في الجزيرة نصوصاً مدونة من القرون الأولى، لأن أخبارها وأشعارها ظلت تروى مشافهة إلى عصور متأخرة. [2]

عبر الشعر الشعبي في الجزيرة العربية في القرنين الماضيين عن بيئته المحلية على تنوعها، فوصف الصحراء والجبال والبحار والواحات والمزارع والآبار والبيوت والخيام والماشية والنخيل والنجوم والشمس والقمر والليل والنهار. يمكن استعراض بعض الملامح الثقافية التي عبر عنها الشعر الشعبي، وإيراد بعض الأمثلة على كل ملمح ثقافي. يمكن تقسيم هذه الملامح الثقافية إلى أربعة محاور تمثل بعض ما يرد في الشعر الشعبي:

- المعتقدات الدينية
- العلوم والمعارف
- الضيافة والكرم
- الحرب وعدتها



عبّر الشاعر الشعبي عن معتقداته الدينية في مطالع قصائده أو خواتيمها، وربما خصص قصيدة كاملة في ذلك، ولعل أشهرها ما يعرف بتوبة الشاعر محمد العوني المتوفى سنة 1923:

يالله ياوالي على كل والي *** ياخير من يدعى لكشف الجليلة
ومثلها ما يعرف باستغاثة الشاعر محسن الهزاني المتوفى سنة 1824:
دع لذيذ الكرى وانتبه ثم صل *** واستقم بالدجى وابتهل ثم قل
يامجيب الدعاء ياعظيم الجلال *** يالطيف بنا دايم لم يزل

وغيرها الكثير من القصائد في نجد والشمال والجنوب. كذلك عبر الشعر الشعبي أو ما يسمى "الزهيري" عن المعتقدات الدينية في الأحساء والقطيف كمدائح آل البيت، ومن أبرز شعرائها الملا علي بن فايز الأحسائي المتوفى سنة 1904. وفي منطقة الحجاز أيضاً عبر بعض الشعراء الشعبيين عن معتقداتهم في المدائح النبوية والأناشيد الصوفية.

مما حفظه لنا الشعر الشعبي أيضاً بعض العلوم والمعارف على بساطتها في عصر ما قبل النهضة السعودية. من أمثلة ذلك علوم الفلك ومطالع النجوم ومواسم الزراعة والاتجاهات وبعض المعارف الطبية البسيطة. لعل من أبرز من كتب في ذلك الشاعر راشد الخلاوي وهو من شعراء القرن العاشر الهجري، وكتب بعد الخلاوي كثيرٌ من الشعراء، يقول الشاعر عبدالله بن سبيل المتوفى سنة 1932:

وهبّت ذعاذيع الوسوم المهاريف *** وسهيل يبدا ما بدا الصبح دونه

إذ يصف ظهور نجم سهيل وارتباطه ببداية الهواء اللطيف. ومن المعارف والعلوم التي نقلها الشعر الشعبي بعض الوصفات الطبية البسيطة لعلاج بعض الأمراض حسب إمكانات زمنهم، وكذلك وصف بعض الأدوات محلية الصنع وطرق صنعها. ومن أشعار الضيافة والكرم أورد الشعر الشعبي الكثير عن وصف المجلس وشبة النار ومجلس القهوة، بل وصف القهوة وصفاً دقيقاً كما فعل الشاعر محمد القاضي المتوفى سنة 1868 في قصيدته المشهورة:

وزله على وضحى بها خمسة أرناق *** هيلٍ ومسمار بالأسباب مسحوق
مع زعفران والشمطري إلى انساق *** والعنبر الغالي على الطاق مطبوق

ومن حسن ضيافتهم ألا يسألوا ضيفهم بل يتركون الكلام له، يقول الشاعر فرج بن خربوش الأسلمي:

الضيف ما نوذيه بكثر التناشيد *** ما ننشده ياكود ينشد حدينا
شيمة عرب ما نردد الهرج ترديد *** حنا نعرف الهرج لو ما حكينا

ومن أقصى كرمهم إغاثة الملهوف حتى إنهم قد يتحملون حروباً وعداوات بسبب نصرة "الدخيل". تقول الشاعرة دوسة الشبرمي -عاشت في القرن التاسع عشر- تنخا إخوتها أن لا يسلموا دخيلهم:

بعذر السحاب إليا ترزى ولاهل *** وبعذر والي العرش لو ماسقانا
أخذ الدخيل وزابن البيت ماحل *** لولا يامن جــــالنا ما نصــانا
المرة الأخرى يجـــنّـــــب إلى ذل *** يلقى الدروب مفتحات بلانا
تقلدوا بسيـــوفكم زينــــــــــة الدل *** لو مرشدٍ حيٍ بســــــيفه حمانا [3]
ومن أشعار الحرب وعدتها يبرز فن شعري شعبي كامل في هذا الباب، وهو ما يعرف بشعر العرضة. وشعر العرضة يقال لاستنفار المحاربين والمقاتلين وشحذ هممهم للقتال، وكان لهذا اللون الشعري دور بارز في حفظ الأحداث التاريخية وتناقلها عبر الأجيال. ومن أبرز شعراء العرضة الذين كانوا مع الملك عبد العزيز الشاعر فهد بن دحيم النفيسة المتوفى سنة 1954 وقصيدته المشهورة:

نجد شامت لأبوتركي وأخذها شيخنا *** واخمرت عشاقها عقب لطم خشومها [4]

ومن الملامح الثقافية في الشعر الشعبي وصف السلاح أو عدة الحرب، ومن ذلك القصيدة التي تنسب للإمام تركي بن عبدالله آل سعود مفتخراً بسيفه "الأجرب":

طار الكرى عن موق عيني وفرا *** فزيت من نومي طرا لي طواري
يوم إن كلٍ مـــن خــــويّه تبــرا *** حطيت "الأجرب" لي خويٍ مباري
نعم الرفيــق إليا ســطا ثم جـــرّا *** يودع منــاعير النشـــــامى حـــباري

هذه المقالة ليست إلا إطلالة مختصرة على بعض الملامح الثقافية التي حملها لنا الشعر الشعبي السعودي. وقد قيلت أشعار شعبية كثيرة في مواضيع أخرى لم يتسع المجال لذكرها، مثل قيم الأسرة والحياة الاجتماعية، والمناسبات، والأفراح، والأحزان. كذلك قيلت قصائد في الغزل وفي الحنين للوطن وفي الوفاء والاعتذار وفي الفخر والمدح والهجاء والرثاء، وغيرها من أغراض الشعر العربي. والحديث كان عن الشعر فقط، ولكن ثمة أعمال أدبية شعبية حفظت لنا ذاكرة ثقافية متنوعة. لعل أبرز تلك الأعمال الحداء أو الإنشاد الذي يردده المزارعون في قراهم من تبوك إلى القصيم ومن الأحساء إلى بيشة، ويردده الصيادون في مراكبهم من الدمام إلى ينبع ومن جازان إلى ضبا، ويردده أهل المواشي من حفر الباطن إلى الباحة ومن نجران إلى الجوف. لكن الفكرة الجامعة لكل هذه الآثار الأدبية أنها ذاكرة ثقافية غنية حملت لنا بلهجاتها المحلية مجتمعاتٍ بأكملها، فعشنا معهم وتصورنا حياتهم وتمثلنا بعض قيمهم ونقدنا بعض أخطائهم. ويبقى الأمل قائما بمزيد من الدراسات والأبحاث التي ينبغي أن تغطي الشعر الشعبي السعودي تاريخياً وجغرافياً. إذ لاتزال بعض

القصائد محفوظة في صدور الرواة في شمال المملكة وجنوبها وشرقها وغربها ووسطها لم تدوّن بعد، وربما لا يسعف الوقت لتدوين كل المحفوظ وتحليله ودراسته، لكنه كنزٌ يخشى فواته.


    المصادر و المراجع
    [1] الصويان، سعد. الشعر النبطي ذائقة الشعب وسلطة النص. بيروت: دار الساقي، ط 2001.
    [2] الجاسر، حمد. لمحات عن الحياة في نجد قبل القرن الثالث عشر. مجلة العرب العدد 2، 1966.
    [3] المرشدي، عبدالرحمن. "من تاريخ وقصص الآباء والاجداد". يوتيوب 26 أكتوبر 2025.
    [4] العتيبي، مريم. الشعر الشعبي مصدراً لتاريخ المملكة العربية السعودية. وقائع تاريخية العدد 1، 2021