ما هو النقد؟

يمثّل النقد في حقيقته تعبيرا عن موقف كليٍّ ونظرةٍ شاملةٍ للآداب والفنون بصورةٍ عامة. ويدخل في هذا الباب النقد الأدبي بما تضمّنهُ من شعرٍ وغيره، بالإضافة للنقد السرديِّ الروائيِّ، وكافّة أشكال وصور الأدب. ويمتدُّ النقد ليُغطيَ مجالاتٍ عديدة منها النقد الفني ويشمل النقد المسرحي والموسيقي والسينمائي وغيره. ويمكن أن يُعرَّف النقد في إطلاقه الأعمِّ بأنّه: تأمل مبني على منهجيات تحلل النصوصَ والظواهر والأعمال الأدبية والفنية بصورة رصينة، وتكشف عن آليات عملها، وتصنيفِها، والحكمِ عليها، واستنباط مبادئها العامة.

مجالات النقد

النقد الأدبي:

ترتكز فكرة النقد الأدبي وتُبنى على النصِّ الأدبيِّ نفسِهِ، أيا كان شكله. شعرا كان أم نثرا أم سردا إلى غير ذلك من صنوف الآداب. يُظهر النقد الأدبيُّ العناصر الجمالية في النصوص الأدبية، وله تنويعات وتقسيمات كثيرة لاعتبارات مختلفة. ويشمل النقد الأدبي فروعا عديدة يُمثّل كل واحد منها اختصاصا كاملا له سماته وملامحه الفريدة. ومن أبرزها النقد الشعري بكلِّ تبدّيات وتمظهرات الشعر، وكذا نقد القصص والروايات وغير ذلك.

النقد الفني:

تحليلٌ وتقويمٌ للأعمال والإبداعات الفنية، ينظر الناقد فيه لأيِّ عملٍ فنّيٍّ بقدر معقولٍ من الموضوعية واضعا يده على رمزيات هذا العمل ومنطلقاته وأبرز ما تضمّنه من رؤى وأفكار. وهو حقلٌ معرفيٌّ واسعٌ يشمل النقد السينمائي القائم على تحليل وتقييم الأعمال السينمائية من كافة نواحيها القصصية والإخراجية والتمثيلية. ومن أبرز فروع النقد الفني أيضا النقد المسرحي الذي يتصدى بالبيان لمواطن القوة والضعف.
يشمل ذلك نصَّ المسرحية وقيمه وخلفياته، وصولا لباقي عناصر العمل المسرحي من موسيقى وديكور وإضاءة وأزياء وغيرها. ولا يقف النقد الفني عند هذه الحدود بل يتخطاها وصولا للنّقد الموسيقي، ونقد الفنون الأدائية، ونقد اللوحات والرسوم والفنون التشكيلية وغيرها من صور وفروع النقد الفني.

تاريخ النقد

ارتبط النقد منذ بداياته بالفلسفة؛ فأوائل الفلاسفة، الذين وصلتنا أعمالهم كانوا نقاداً أيضاً، طرحوا رؤاهم حول الفنون الأدبية المختلفة. ويعد أرسطو أشهرهم، حيث مثّل كتابه (فن الشعر أو الشعرية) مرجعية نقدية لا يزال تأثيرها حتى اليوم. يشكّل الكتاب أيضاً نموذجَ النقد الكلاسيكي المنضبط، في تقديمه العقل على العاطفة، وفي تحديده معاييرَ صارمة للفنون الأدبية مثل قانون الوحدات الثلاث في المأساة، وغيرها. وقد تلقّف الرومان الفكر الإغريقي وطوروا النظرية الكلاسيكية، لكن القرون الوسطى شهدت بروز الفكر العربي الإسلامي الذي ترك بصمته في تاريخ النقد -من جهة أخرى-؛ بدءاً بالنقاد اللغويين ،مروراً بالبلاغيين الكبار، وانتهاء بالنقاد الفلاسفة.

وفي القرن السادس عشر، استهل عصر النهضة بالاعتماد على إحياء الأفكار والمعايير التي وضعتها الكلاسيكية فيما أطلق عليه (الكلاسيكية الجديدة)، لكن هذه الحركة جوبهت -منذ نهايات القرن الثامن عشر- بتيار الرومانتيكية الذي ظهر نتيجة للتطور الصناعي، وبروز الحياة المدنية الحديثة، وصعود ثقافة الفرد. كانت الرومانتيكية ثورة فكرية شاملة، تركت أثرها على كل شيء تقريباً، ومن ذلك الأدب والنقد، وكان أبرز منطلقاتها النقدية أن الشعر، والفنون عموماً، تعبير متدفق عن المشاعر الإنسانية الدفينة.

طغيان الروح العلمية في أوروبا كان خلف الخطوة التالية في تطور الفكر النقدي حين بدأت محاولات النقاد اعتمادَ مناهج علمية خلال معالجة النتاج الأدبي. هذا التحول أنتج ما يطلق عليه المناهج السياقية، التي تنظر للأدب من خلال سياقات خارجية عن النص كبيئة النص وحياة مؤلفه ومكنوناته النفسية ودور المجتمع في العملية الأدبية. وأبرز هذه المناهج هو المنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج الاجتماعي/الماركسي. وفيما يشبه ردة الفعل على هذه المناهج ظهرت حركة نقدية تسعى لقراءة النص قراءة محايثة، ويطلق عليها المناهج النسقية، لأنها تركز على نسق النص وبنيته الداخلية. هذا المنعطف تأثر كثيراً بتطور علم اللسانيات.

رأى هذا التوجه أن سرّ النص الأدبي يكمن في ’الأدبية‘، وأن عمل الناقد يقتصر على الكشف عن الخصائص الشكلية التي تجعل من النص عملاً أدبياً، وهكذا برزت الشكلانية الروسية وحركة النقد الجديد اللتين ركزتا على اللغة الشعرية في الأعمال الأدبية شعراً كانت أو سرداً. أطروحات النقاد في هذه المرحلة كانت عاملاً مهماً في المنعطف النقدي الأبرز في العصر الحديث نحو البنيوية.

كانت البنيوية حركة فكرية شاملة تنظر إلى النص، وإلى العالم، بوصفه مجموعة من البنى المتماسكة، وتسعى إلى تحليل آلية عمل هذه البنى من خلال النظر إلى العلاقات بين عناصرها، بحثاً عن (نظام النص). فالنص هو البنية، وهو النتيجة النهائية، لكنه لا يتشكّل من عناصره الداخلية، أو بناه الصغرى، بل من العلاقات بين هذه البنى، وهذه واحدة من أهم الإضافات التي قدمتها البنيوية للفكر النقدي. ولعل فرنسا قادت العالم في هذا التحول عبر نقادها ومفكريها. بالإضافة إلى البنيوية والتفكيك، أسهمت عوامل أخرى، كالتحولات الاقتصادية والسياسية عالمياً، والتطور التكنولوجي المتسارع، وصعود الجماهير والثقافة الشعبوية معادلاً لثقافة النخبِ والمؤسساتِ المكرسة، أسهمت هذه العوامل في رسم خارطة النقد اليوم، وهي خارطة معقدة تضم داخلها عدداً من الاتجاهات والحركات النقدية المتقاطعة مثل ما بعد الاستعمار، والنسوية، ونظريات القراءة والتلقي، والـتأويلية، والنقد الثقافي، وما بعد الإنسانوية.