سارة سليم
إن تأويل الشعر ليس أمرا سهلا ، ذلك أنك تحتاج في بعض الأحيان إلى إعادة قراءته مرات عديدة لفهمه، ولعل هذا ما يميزه عن بقية الفنون الأدبية، فهو يقيم ما بين الحقيقة المنفلتة والصمت، كما عبر عنه الشاعر والناقد الإيطالي (ماورو دجيرماني) حين قال "إنَّ الشعر ليس تعزية، وليس إشباعا، إنه يقيم في منطقة ما بين الحقيقة المنفلتة والصمت."، و عبارة (ماورو) تحمل الكثير من الدلالات فيما يتعلق بالشعر كحالة إبداعيّة تعبر بالدرجة الأولى عن ذات الشاعر، تلك الذات التي تفسر الواقع شعريا، ولكنَّ الشعر يأتي مكثفا، فهو ليس رواية أو قصة تخبرنا عن الأشياء بشكل صريح. الشعر ينتمي إلى الغموض، إلى عدم الإفصاح، إلى ترك زاوية مبهمة كعلامة مسجلة تخص الشاعر وحده، هذا الكائن الحساس الذي تعبر عنه الكاتبة و الشاعرة الإيطالية (ألدا ميريني) بقولها: "الشاعر لا يتخلص أبداً من ظلاله"، و الذي يقرأ ديوان "يد في بطن الموجة" أول إصدار للشاعرة اللبنانية المقيمة بلندن نجلاء أبو مرعي، يشعر بتلك الظلال، ظلال تعيدنا إلى الوطن، وفيه تقيم، ففي كتاباتها شيءٌ ما يحاول ألا يفقد الصلة بالوطن، وطنٍ تعيد تشكيله شعريا في كل قصيدة تكتبها. فالعالم كما تعبر عنه ضمنيا ينطلق من المكان الذي ولدنا فيه، من جذورنا، أهلنا، و إنْ فقد الإنسان كلَّ هذا، يفقد العالم الذي ينتمي إليه، ويصبح جزءا من العالم الأكبر، لهذا كتبت الشعر؛ لتكون بالقرب من عالمها ذاك، ما يذكرني بعبارة أخرى للشاعر الإيطالي (ماورو دجيرماني) يرى فيها أنَّ "الشعر لا ينشأ مما نمتلك، الشعر ينشأ مما ينقصنا".. ويبدو أن الشعر كما تكتبه نجلاء أبو مرعي ينشأ من الفقد، الاغتراب، الموت، من خلال نصوص شعرية يطغى فيها التلميح على التصريح، فلا شيء واضح تماما خاصة فيما يتعلق بالذاكرة، فالمثقل بذاكرته لا يمكن أن يُشفى منها؛ لذا تستعيد شعريا ذاكرةَ مكانٍ لم تعد فيه لتتناول حاضره انطلاقا من غربتها، وبهذا فإنها تعتبر أن المسافات وهمية حين يتعلق الأمر بالذاكرة، إذ ذكرتْ في إحدى قصائدها ما معناه أنها تبدو نحيلة من كل شيء إلاّ من الذاكرة؛ لأن الذاكرة المرتبطة بمكان لم نعد فيه تجعلنا نعيش دائماً في حالة اغتراب، اغترابٍ اتخذته الشاعرة وسيلة لفهمه أو كما عبرت عنه في إحدى قصائدها لرسم المعنى. لذا فإن كل قصيدة من قصائدها هي إعادة استحضار ما كان، كل قصيدة بالنسبة لها مبنية على الفقد، الفقد بمفهومه الأوسع، وكأنه امتداد للاغتراب بكل أشكاله.
كما أنها في الوقت ذاته منشغلة بالراهن، راهن صار فيه الأمان رفاهية، رفاهية نسعى لتحصيلها بكل الطرق، في ظل القلق و الألم والضوضاء المحيطة بنا، قلق أصبح جزءا من وجودنا. و قلق يعيش معنا في كل ما نقوم و نفكر فيه، و القلق الذي تقصده في نصوصها هو القلق بمعناه الوجودي، قلق لا ينتج عن حدث شخصي بعينه، كما أن الضوضاء التي تعبر عنها ضوضاء روحية، ضوضاء ترافقنا في أشد لحظات حياتنا صفاء، ذلك أنها قادمة من الخارج البعيد، ضوضاء الحروب، وكل ما يؤدي إلى تجاوز قدرة البشر على الاحتمال.
لذا نلحظ أنها تنشغل بالموت الذي ما تفتأ تعود لتستذكره بين قصيدة وأخرى، وكأنها تريد أن تقول إنَّ الموت طبع أيامنا هذه، وصرنا نراه بكل الأشكال والألوان، وكأنه في هذا الديوان علامة تميز قصائدها شأنه شأن الفقد والاغتراب.
تُشير لهذا في قصيدة "موت يلتفت إلينا" التي تقول فيها:
"وقف الموت محدقا بنا
أطال النظر في وجهك ووجهي
حارَ بأمرنا
هو خوف أو ذهول؟
أم شوق قديم رُبِّيَ بيننا
عيوننا ترنو إلى المجهول
تتبادل الدهشة بعد قراءة كفينا
هذا خط الحياة
وهذه الحيرة
هذا برود وتنصل،
إنه الموت يدنو هادئا وصاخبا
تُسرِعُ اليد لبثِّ الدفء والسكينة
يطمئن الجلد وبالمداعبات يرقص تحته الدم
اجتيازٌ عمره قصير
يعود الموت خطوتين إلى الوراء
يلتفت إلينا
نلهث ونستنشق
رائحة تراب بللته شفاهنا"
في قصائد نجلاء أبو مرعي خفة الشعر، وعمق اللغة بعيدا عن تلك النبرة المتكلفة، خفة تستشعرها حين تقرأ، وعمق تستشفه حين تُنهي ما قرأته.
تجيد أبو مرعي قول ما يُفهم بسرعة لكنه يحتاج وقتا طويلا كي يُنسى؛ فهي تكتب بلغة خالية من الابتذال وتحاول إبهار المتلقي، لكنها، أبداً، لا تصنع القصيدة، أعتقد أن قوة القصيدة الجيدة في قول الشعر حين تأتي ساعته، لا أن نقول الشعرَ؛ لأنه علينا أن نقوله.