محمد عرب صالح
منذ الصغر وأثناء متابعة مباريات كرة القدم كان يلفت نظري دائما أننا نتابع المباراة من زاوية رأسية ربما لكونها الأكثر وضوحا وكشفًا للتفاصيل التي تحدث داخل ملعب كرة القدم، وهذا الوضوح والكشف تفتقده كثيرا زاوية الرؤية من المستوى الأفقي، وكنت أتساءل لماذا لا يفكر المدير الفني في متابعة المباراة من زاوية رأسية ليضع يده على مواطن الخلل مثلا في طريقة اللعب ويدير المباراة على نحو جيد ودقيق؟ حتى رأينا ذلك مؤخرا بمتابعة المديرين الفنيين المباريات عبر شاشة الهاتف.
هكذا كانت بداية الأرق بالاستكشاف والاستجلاء من خلال الرؤية التي تهدف إلى رصد التفاصيل، وإلى معايشة الواقع والانتماء إليه مهما ارتفع أو ابتعد الكاتب عن مجريات الأمور، فالرابطة الأولى بين الفرد والمجتمع عائدة لارتباط كلٍّ منهما بالآخر، بل واتكائه عليه فكيف بالكاتب إذا آثر الانعزال وهو الصوت الذي ينطق عن الجميع والقلم الذي يخلِّد أفراح وأتراح مجتمعه، والعين التي يرى بها الكل مستقبلهم وحاضرهم وماضيهم على حد سواء.
أما (البرج العاجي) بلفظه كما جاء في عنوان المقالة؛ فقد ذُكر للمرة الأولى في الإصحاح السابع من سفر نشيد الإنشاد كما يُقال على لسان النبي سليمان عليه السلام: "عنقك كبرج من العاج" ولكن هذا التعبير خرج من الوصف المجرد إلى معنى نقدي أعمق من هذا التشبيه، عندما ذكره الناقد الأدبي الفرنسي سانت بيف في قصيدة نشرت عام 1837، في إشارة إلى انعزال الفنان بعيداً عن العالم.
ومن هنا أخذ هذا المصطلح في الانتشار والشيوع، في الوسط الأدبي والنقدي تعبيرًا عن حالة الكاتب الانعزالية تجاه قضايا مجتمعه، حيث اتخذ لنفسه مكانا عاليا منعزلا عن واقع الحياة، وبدأ يتحدث إلى الناس من ذاته المرتفعة وبفوقية لا يستوعبها الماشي على الأرض، وربما لا يمكن لأحد أن يسمعه من هذا المكان الشاهق الذي جعله منبرا مبتعدا عن حياة الناس.