د. هند المطيري
تعد الإخوانيات في الأدب العربي فنًّا بارزا، له خصائصه الفارقة التي تميزه عن ألوان أدبية أخرى تشترك معه في اعتمادها على التواصل والتبادل. وتهدف الإخوانيات إلى مدّ أواصر الصداقة وتوطيدها بين أديب وآخر، إلى جانب كشفها للطاقات الإبداعية التي يحشدها الأدباء لإثبات إتقانهم للمحاورات والمناظرات أمام أصدقائهم.
والإخوانيات استعمال دارج لما يتبادله الأدباء من الرسائل النثرية والشعرية، وهي مشتقة من مادة (أخا) التي تدل في المعاجم على "الأَصْدِقاء والإِخْوة في الوِلادة"[1]. ويعرّف ناظم رشيد الإخوانيات الشعرية خاصة بأنها: "شعر المودة والصداقة، الذي يُديم التواصل بين الأحباب والأصحاب، وكثيرا ما يقوم مقام الرسائل النثرية التي تكتب في مناسبات كثيرة"[2].
وتعد الإخوانيات نمطا من الشعر الاجتماعي، إذ "تصور الصلات والروابط التي تربط بين الأصدقاء من الشعراء، ويتحدث هذا الشعر بين سطوره عن الصداقة والأخوة والمودة"[3]. وهذا جانب يميز الإخوانيات عن غيرها؛ فموضوعاتها عامة تدور حول علاقات الشاعر الاجتماعية وهمومه الخاصة، فتكثر فيها موضوعات المناجاة، والشوق، والتهنئة، والعتاب، والاعتذار، وطلب قضاء الحاجات، واستعارة الكتب، ونحو ذلك مما يدور في حياة الأصدقاء والخلان[4].
وكان أوج ازدهار الإخوانيات الشعرية في العصر العباسي، وذلك لارتباطها بطبيعة حياة المجتمع المتمدن، وما آل إليه من الاستقرار الاجتماعي والحضاري، فهي فنٌّ "يتصل بحياة الناس أوثق اتصال، فهي تنبثق من العلاقات الاجتماعية وتنهض بتصويرها وتدور حولها، وقد جاء الكثير منها ثمرة لظاهرة الصداقة التي اتسع مجالها في هذا العصر على نحو لم يسبق له مثيل، في ظل المجتمع المدني المتحضر، الذي تفيأ الشعراء العباسيون ظلاله وعاشوا في كنفه خلال حقبه الطويلة"[5]. ومن نماذج الإخوانيات الشعرية في العصر العباسي تلك القصائد التي كان يتبادلها الشريف الرضي مع أبي إسحاقَ الصابئ، وإخوانيات أبي فراس الحمداني مع شعراء عصره؛ لا سيما الشاعر المترسل أبي محمد علي بن أفلح، ومراسلات جلالِ الدين الرومي مع معلمه شمس الدين التبريزي.
ولأن الإخوانيات أدب الاستقرار والمدنية فقد ازدهر، وعُرف كغرض مستقل في القرن السابع الهجري وبداية العصر الوسيط، وكان معظم شعرائه من النخب الأدبية التي حافظت على أصالة القصيدة الفصحى، بعد أن سيطرت العاميات على الشعر والأدب عامة. ولعل من أشهر شعرائها في تلك الفترة محمد بن خليل السمرجي، ودرويش بن محمد الطالوي، وابن معصوم وغيرهم[6].
وقد عادت الإخوانيات للظهور في العصر الحديث، حيث ربطت الشعراء العرب أواصر قوية، وهموم مشتركة، فراحوا يتبادلون القصائد على امتداد الوطن العربي، فها هو الشاعر المصري عبد الله شرف يرسل القصائد لأصدقائه الشعراء في الوطن العربي الفسيح، يبثهم همومه ومخاوفه من الاستعمار الغربي، في قصائد متفرقة، قبل أن يجمعهم في قصيدته القافلة، التي جعلها قافلة شعرية إخوانية ضمت في جنباتها قرابة ستة وعشرين شاعرا من الوطن العربي، منهم نزار قباني، علي الشرقاوي، ودرويش، وغيرهم[7].
وتحتفظ الصحافة العربية ودواوين الشعراء العرب بنماذج من إخوانياتهم، مثل تلك التي كانت بين معروف الرصافي وعبد الله البستاني، وبين الشيخ ناصيف اليازجي والسيد مصباح البربير، وبين محمود غنيم وصديقيه محمود الخفيف ومحمد الأسمر، وبين جميل صدقي الزهاوي وغيره من الشعراء. وتوالت الإخوانيات بين أصحاب التوجه الواحد، كما هي الحال في إخوانيات شوقي وحافظ، وإخوانيات محمود سامي البارودي مع رفاقه الإحيائين. كما جرت بين مدارس الأدب الحديث منازعات نشرت في صورة قصائد متبادلة، فيها أخذ وردّ[8].
ورغم أهمية الإخوانيات في تمثيل ثقافة المجتمع ووصف أحواله إلا أنها ما زالت ضعيفة الحضور في الدراسات النقدية، ولعل مرد ذلك إلى سبب أو أكثر، ومن هذه الأسباب:
- خصوصية العلاقة بين الأصدقاء التي قد لا تسمح بالكشف عن النصوص للعامة، فالإخوانيات شعر عفوي، وشخصي، وآني، ينحو غالبا نحو المهامسة بين شخصين؛ لا يقصد منه النشر أو التدوين أو التخليد[9].
- طبيعة الموضوعات التي يتبادلها الأصدقاء الأدباء، وما فيها من المصارحة والجهر بمكنونات النفس التي لا يحسن فضحها والتصريح بها أحيانا، فـ"الإخوانيات فن من الفنون الشعرية الشديدة الخصوصية؛ لأنها تدور بين بعض الشعراء وبعضهم بتلقائية وحميمية وحريّة، وبشكل يكشف عن الوضع الشخصي للشاعر ومزاجه وطبيعةِ علاقاته بالناس والبيئة، وعن دواخله التي يُسِرُّ بها إلى أصدقائه والتي غالبًا ما تكون محجوبة عن القراء لأسباب شخصية من ناحية، ولكونها تهامسًا بين الصديق وصديقه من ناحية أخرى، وهي تكتسب حريتها من هذه الخصوصية؛ لأنها حينما تكتب لا يقدر الشاعر أنها ستنتشر يومًا ما"[10].
- ضعف المستوى الفني لنصوص الإخوانيات، مقارنة بغيرها من نصوص الشعراء أنفسهم. فشعر الإخوانيات في مجمله حرّ إلى درجة كبيرة جدا من قيود الشكليات والمتطلبات اللغوية والفنية؛ اختلطت فيه العامية بالفصحى، والبذاءة بالبراءة، والركاكة بالجزالة، والمكسور بالموزون، والزاحف بالسليم[11].
- النظرة الدونية للإخوانيات، كونها تُصنف ضمن ما يُعرف بشعر المناسبات، الذي لا يحظى باهتمام الدراسين وعنايتهم.
وعامة فقد ظلت الإخوانيات دائرة بين الشعراء، وكان لشعراء الجزيرة العربية نصيب وافر منها، وكانت للوزراء والدبلوماسيين السعوديين الشعراء مشاركة كبيرة في هذا الفن الاجتماعي الطريف في عصرنا الحاضر، وقد وردت معظم نصوصهم متفرقة في حوارات ولقاءات صحفية وإذاعية، بالإضافة إلى السيرة الشعرية والنثرية المطعمة بالشعر، وبعض الدواوين.
وتكمن مزية تلك الإخوانيات في كونها تمثل تجربة إنسانية عميقة، تكشف وجها آخر للسياسيين لا يمكن اكتشافه في سائر دواوينهم، فعلى الرغم مما للحياة السياسية من خصوصية وما في مشاغلها من إلزام، إلا أن الوزراء والدبلوماسيين الشعراء كانوا أكثر تبسطا وأريحية في تصوير يومياتهم وحياتهم الخاصة في إخوانياتهم الشعرية، فكانوا يتبادلون القصائد التي لا تخلو من الفكاهة والظرف.
- [1] جمال الدين محمد بن مكرم بن منظر، لسان العرب، ط/3، بيروت دار صادر، 1994م، مادة (أخا).
- [2] ناظم رشيد، الأدب العربي الحديث في العصر الوسيط: من زوال الدولة العباسية حتى بدء النهضة الحديثة، ط/1، الموصل دار الكتب للطباعة والنشر، 1992م، ص91.
- [3] علي الغريب محمد الشناوي، الإخوانيات في الشعر الأندلسي، ط/1، القاهرة: مكتبة الآداب، 2006م، ص1.
- [4] عائض الردادي، الشعر الحجازي في القرن الحادي عشر. ط/1، جدة: مكتبة المدني، ص371.
- [5] محمد عثمان الملا، الإخوانيات في العصر العباسي، ط/1، الدمام: نادي المنطقة الشرقية الأدبي، 1412هـ، ص5.
- [6] ناظم رشيد، الأدب العربي الحديث في العصر الوسيط: من زوال الدولة العباسية حتى بدء النهضة الحديثة، ص91.
- [7] انظر القصيدة في ديوانه القافلة، ط/1، سلسلة أصوات معاصرة، الزقازيق، 1984م، ص5.
- [8] انظر النماذج عند: خالد القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ط/1، جدة: الكتاب رقم12 لاثنينية عبد المقصود محمد سعيد خوجه، 1998م، ص11، وما بعدها.
- [9] القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ص9.
- [10] عزة محمود عبد الرحيم الشاعر، الإخوانيات في سقط الزند. مجلّة كلية دار العلوم جامعة القاهرة، (أغسطس، العدد (94)، 2016م)، ص441.
- [11] القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ص9.