إيمان العزوزي
استعرت عنوان هذه المقالة من قصيدة أحبها للشاعر الفرنسي (لويس أرغون) "لا يوجد حب سعيد!"، كتبها وقد لعج الحزن صدره، وتمزق قلبه شكًّا أمام غموض الحب، (أرغون) الذي تيمته عيون (إلزا) أسعفته الكلمة ليصور هذا التمزق، لا شيء يفسر حقيقة نظمه لهذه القصيدة لأن الزوجين عاشا غراما خُلِّد أسطورةً يُقتدى بها، ولم أجد تفسيرًا لهذا التواطؤ بين الشاعر والحزن سوى ما انتهت به القصيدة؛ حيث جزم (أرغون) في آخر أبياتها أن قوة الحب وجوهره تكمن في الألم، وقد ينعم العاشقان في ظله بقبس من سعادة ما داما يتشاركان مشاعر وتجارب تميزهما عن غيرهما، فكل حب يفرض فرادته. هكذا يكون (أرغون) ممثلًا لكل الشعراء تأسره هذه الحاجة المستمرة للمعاناة التي يستمد منها إلهامه وحجته، وهذا يدفعني للتساؤل لماذا نحب الشعر والنثر متى كان حزينًا، ولماذا تستمد معظم الأعمال الأدبية مجدها من مأساويتها؟
إن المغامرة الإنسانية التي نشهد فصولها الآنية ونعيش مآسيها، ليست سوى مناحة طويلة ومستمرة تتخذ صورها في القطيعة والألم، لسنا سوى لوحات ممزقة بنصل حاد تتعدد أقنعته، فيأتي الحزن تعبيرًا عن هذه التمزقات، نحزن لفقدان شخص ما، أو فقدان شيء عام معنوي أو مادي، نحزن أمام صروف الحياة التي تضرب حياتنا أو حياة سوانا ما دمنا نبحر على نفس السفينة، بمقدار ما يواجهنا من ألم؛ يشعر المرء بضعف ذاته ويغشاه شعور اللاجدوى والخيبة والخذلان.
ولو نظرنا إلى العالم سنرى الحزن يغلب لحظات السعادة التي لا ندرك ملامحها إلا وهي مغادرة، كما يؤكد المسرحي الفرنسي (لويس جوفي)، فهذا الوعي المرافق للحزن الذي يتجاهل السعادة على اعتبار أنها فقط محاولات مستمرة للتخلص من الألم، يوحد الشعور المأساوي بالحياة بين البشر، يجد الألم حيويته في كونه طريقًا قاسيًا نحو وعي الفرد بذاته وبوجوده، ويشرح الكاتب الإسباني (ميغيل دي أونامونو) هذه المأساة بقوله "وأنى للمرء أن يعلم أنه موجود إذا لم يتألم قليلًا أو كثيرًا؟ وكيف يعود إلى نفسه ويكتسب وعيًا ذاتيًا إذا لم يكن به ألم؟ إذا سُرَّ المرء نسي نفسه ونسي أنه موجود، وصار آخر، غريبًا، ولا ينكفئ على نفسه ويعود إلى ذاته ويكون هو هو إلا بالألم".
إن ما يفسر غياب إحساسنا بالسعادة يكمن ربما في جوهر فلسفة (شوبنهاور) التي ترى الحياة نواسًا (بَنْدُولًا) يتأرجح بين المعاناة والملل؛ فالملل بالنسبة له هو احتضار السعادة في نفس المكان واللحظة التي خُلقت فيها، وفقًا لهذا الفيلسوف الألماني؛ فالإنسان ليس سوى آلة لتفريغ الرغبة، ومتى تحققت توالدت أخرى أشد شراسة ويبقى الإنسان ممزقا بين تحقيقها أو كبتها، وأمام هذا التهديد المزدوج يعاني الفرد ولا يجد سوى الفن -حسب شوبنهاور- لتحريره أو على الأقل التخفيف من معاناته.
لا غرابة إذن أن الاستجابة لمؤثرات الحزن في الأدب تجد ذروتها في لحظات الشك والبحث عن المعنى، وفي لحظات التعارض بين المقدرة والأمل فيشقى الفرد بهذا التعارض كما ألمح (محمد مندور) في معرض وصفه للحزن ضرورةً يلجأ إليها الأديب لبث شكواه وهمومه، والتي تتقاطع مع شكوى القارئ وهمومه، وهكذا يظل الحزن يبحث عن أشباهه في هذا العالم، ونظل نبحث عن الشيء المفقود الذي يمنحنا الإجابة عن سؤالٍ قلقٍ.