غسان علي عثمان
الأدب فاعلية اجتماعية، أو تعبير "ما" عن علاقات القوة، مثله مثل أي "خطاب" يعمل على بناء سلطته وأطراف أخرى، وطموح كل خطاب أن يمارس شكلا من أشكال السلطة (هي هنا السلطة الأدبية)، أي أنه جملة في السياق، لحظة في التراكم، جدل صاعد يتجلى في تضاعيف الظاهرة، ولذا فإن أي نشاط للفعل الأدبي لا يمكن أن يحدث خارج الأطر الثقافية، والفعل الأدبي يمارس دوراً وظيفياً في المجتمعات، ومن غير الممكن عزله عن سياق الفاعلية والتفاعل، وهو في حاجة ماسة دوما للتسليم بضرورة الاحتكام لبنية معرفية هي مصدر كل بلاغته الممكنة، ولذلك فإننا لا نعتد بالتعريفات التي ترى في الأدب جُملة اجتماعية مستقلة، وتحاول فصله عن عناصر المجتمع.
و"الأدب هو فن اللغة" كما يقول سارتر، واللغة وسيلة اتصال بين الكاتب والقارئ، وبينهما تنشأ هذه العلاقة الديالكتيكية، وتقوم هذه العلاقة عبر النصوص، فالنصوص الأدبية صورة من صور الوعي الجمعي مرت بمراحل (استيلاد - تكوين - نشأة...إلخ) حتى تناضجت "Discourse"، وهي إذ تنتظم في حاضنة دلالية (شعر-قصة-رواية- لوحة تشكيلية- كلام بالصورة) تطمح لتكون مصدراً للمعنى، فالأديب "عراّب" المخيم البشري، وما شُغلُه الجمالي إلا جهرٌ بما يهمس به الآخرون.
ولذا فإن الإجابة عن سؤال (كيف يُصنع الجمهور الأدبي؟) وهو سؤال العلاقة التي تربط الجمهور بالأدب، يقترح علينا القيام ببعض التدابير لفهم الجوهر الثاوي داخل هذه الثنائية (أدب/جمهور) وهي تدابير تقوم على عمليات تحليلية لبيان الصلة التي يقيمها النص مع المجتمع.
ما الجمهور؟
إن وضع (الجمهور) في مقابل (الأدب) قد يبدو معقولاً ناحية قلنا بالأدب "مُنتَج" والجمهور "مُستهَلِك"، لكن ينبغي علينا الفصل في ماهية الجمهور قبل الحديث عن تجليات الأدب عليه، لأن مُنتج الأدب لا تنطبق عليه شروط الاستهلاك المادي، والجمهور شيء آخر غير (الحشد)، فالأخير هو نموذج لوحدة اجتماعية خاضعة للتمييز، ولذا فالحشد يتشيّء، أما الأول فإنه يمتاز باستقلالية روُضَتّها إرادة الانتظام، والجمهور ليس بشيء، ومن حيث معناه العام فإنه لم يعد تلك الجموع المعززة بالتمثيل (المواكب، الاحتفالات، أصوات الهتاف) فهذه ميزة الحشد لا الجمهور، وهو متباين طالما لم يعد فكرة مسبقة في الذاكرة أو المكان، والجمهور أقرب إلى (الجماعة) لا (الجَمع) ومن الخطأ الخلط بينهما، فالفرق بين الجماعة والجَمع أن الجمع تنقصه القوة الاجتماعية المؤدية إلى التماسك أو الترابط وتنظيم التفاعل في ظل علاقات اجتماعية يحركها الوعي الذاتي، ولذا فالجمع بطبيعته غير اتفاقي، غير مستقر ومؤقت، فالأفراد لا يكتسبون عضوية (الجمع) كما هو الشأن بالنسبة للـ(الجماعة). وفي لسان العرب نقع على ما يفيد إرادة الانتظام، فالجمهور: ما تعقّد وانقاد، وجمهور كل شيء: معظمه، وقد جمهره. وجمهور الناس: جُلّهم .