هل تتسع القصيدة العربية للكوميديا؟
إن نظرنا إلى تراثنا الشعري العربي لوجدنا الكثير من الشواهد والإشارات إلى انتشار الفكاهة في الأدب القديم وفي الشعر خاصة. منذ العصر الجاهلي والعرب يتحلّقون حول الشعراء في الطرقات وحول مواقد النار لسماع النوادر والقصائد المضحكة، أما جرير فكان يرسم صورًا كاريكاتورية للفرزدق للسخرية منه وهجائه.
يقول عباس محمود العقاد في كتابه دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية: "أما فكاهات الشعر والنثر العربيين فمدارها الأكبر «أولًا» على القصائد التي نُظِمت في النقد الاجتماعي الذي اصطلحنا على تسميته بالهجاء." إلا أن هذا الوجود الكثيف للكوميديا في النوادر والهجائيات والمجالس الأدبية العربية قد توقّف وانقطع عن القصيدة العربية اليوم.
ليس من السهل العثور على قصيدة مُعاصرة كُتبت في السنوات الماضية، ونجحت في جذب القارئ لها باستخدام أدوات الكوميديا والضحك. لذلك من المنطقي طرح السؤال: ما سبب اختفاء الكوميديا من القصيدة العربية التي نعرفها اليوم؟
لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال من الأنسب البدء بتعريف الكوميديا. بالنظر إلى إحدى النظريات الشهيرة لتفسير الكوميديا "نظرية التناقض"، نجد فيها تعريف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: "الكوميديا هي تحوّل مفاجئ لتوقعات متوترة تنتهي إلى لا شيء. نتوقع من العالم شيئًا، ثم يخيب أملنا ولا يحدث ما توقعناه."
يرى كانط الكوميديا على أنها "عنصر المفاجأة الذي يخلق التوتر بين المتوقع والموجود، ليؤدي التوتر بينهما إلى الراحة الممتعة أو إلى الضحك." ويتفق معه الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور بقوله: "تنتج الكوميديا عن الاعتراف المفاجئ بالتناقض بين تمثيل الشيء وطبيعته الفعلية."
للوصول إلى هذا التناقض الكوميدي وتوليده، على القصيدة العربية أولًا رسم صورة مألوفة للعالم تقترب من المتلقي وما يستطيع تخيله في تجربة مشتركة بينه وبين الشاعر، ثم عليها استخدام الثقافة المحلية وخلفيات المتلقين لشحذ التناقض وتوليد الكوميديا. تلي ذلك عملية استخدام الأدوات المساندة لها مثل المبالغة، الصوت المميز وشخصية الشاعر القوية، تناول المشاعر الإنسانية لملامسة المتلقي، وصولًا إلى سخرية الشاعر من ذاته وتنازله عن الجدية المفرطة.
كل هذه العناصر غائبة أو باهتة الحضور في القصيدة العربية اليوم، لأنها قصيدة مشغولة بالحفاظ على عناصر أخرى أكثر أهمية من وُجهة نظر كُتّابها، وهي بقايا الحركات الشعرية الرمزيّة والحداثية التي ظهرت في القرن العشرين وما زالت تخنق القصيدة العربية وتكبّلها، رغم تحرّر مثيلاتها في اللغات الأخرى منها وتجاوزها لها. من هذه العناصر:
-
الذاتيّة والرومانسية: يبالغ الشاعر في أخذ نفسه ومشاعره على محمل الجد، ولا يترك في قصيدته مساحات تتسرّب عبرها الفكاهة أو السخرية. إحدى النتائج المباشرة لهذه الذاتية المفرطة، هو ما نراه من استهزاء وسخرية يقودها بعض المتلقين على وسائل التواصل الاجتماعي ضد شعراء القصيدة المعاصرة. إن لم يبادر الشاعر بالعثور على الكوميديا، ستعثر عليه.
-
موقف الشاعر من العالم: القصيدة العربية اليوم هي رسالة من الشاعر إلى العالم الخارجي، وتأثير ما يحدث في العالم عليه أو على قصيدته محدود ومتأخر. إغلاق الباب أمام تلقي الشاعر للعالم المعاصر وفهمه والتفاعل مع متغيّراته يوصد أبواب الكوميديا ويجعل القصيدة مُفرطة في الجديّة.
-
عزلة القصيدة عن الملتقي: القصيدة لا تريد اللحاق بالعالم ولا تحاول الدخول معه في سباق، لذلك نجدها تضع لغتها وقوانينها الخاصة التي لا يمكن اختراقها بسهولة من قبل المتلقي. تبتعد القصيدة المعاصرة عن ملامسة اهتمامات أو يوميات المتلقي أو قضايا الحياة المهمة. وجود القارئ والمتلقي محدود في القصيدة. لا يُدعى لها إلا نادرًا، ودون رؤيته لما يشبهه فيها لن يجدها مضحكة ولن يستطيع الاتصال معها ليكتشف التناقض والمبالغات والإشارات الكوميدية فيها.
المدهش أن الشعر الشعبي -على خلاف الشعر الفصيح- قادر اليوم على تناول الفكاهة والكوميديا والتفاعل معها. لينجح في كسب اهتمام المتلقي العربي، ويشغل ثغرة كبيرة في تاريخ الشعر العربي في العقود القليلة الماضية.
إذن، لماذا تغيب الكوميديا عن القصيدة العربية اليوم؟
لأن القصيدة العربية عالقة في زمن آخر، ذاتيّة ورومانسية، تنطلق من ذات الشاعر، ولا تضع المتلقي وهمومه في مركزها، لها إيقاعها المعزول، ولا يجد فيها القارئ صوتًا يعبّر عنه. تجربة الشاعر الأمريكي بيلي كولينز هي مثال ناجح لشاعر استطاع توظيف البساطة والكوميديا لكتابة قصائد خالدة يتفق على روعتها نقاد الأدب وملايين القرّاء حول العالم. اللحظة التاريخية الآن مناسبة لفتح باب التجريب في القصيدة العربية، ومنحها أدوات الكوميديا، لمحاولة إخراجها من القبو الذي سُجنت فيه، لأننا بحاجة ماسة إليها في عالمنا اليوم.