عودة

ما تبقى من ساخن الرغيف: ترجمة اللهجات في الأفلام السعودية


عادل خميس الزهراني

09/12/2025

هل عشتم -وأنتم صغار- تجربة شراء الخبز من الفرن وإحضاره للمنزل؟ أعتقد أن كثيراً منكم فعل، وأننا جميعاً شهود على حال الرغيف الذي يصل مكسورَ الجناح، بحِمَىً مستباح. لا أعلم لماذا مرت عليَّ هذه الذكرى وأنا أشاهد فيلم (هوبال)، الذي ظهر في عام 2024 وأخرجه السعودي عبدالعزيز الشلاحي.

يتناول الفيلم مأزقَ عائلة اختار لها كبيرها (الجَد) أن تعيش في الصحراء وتهجر المدينة أبداً. هذا القرار يقود إلى أحداث معقدة ومأساوية تضطر العائلة أن تتعامل معها. وتشكل اللهجة في هذا الفيلم أساساً من أسس الخطاب، وترتبط رسالة الفيلم ارتباطاً مباشراً بما يدور فيه من حوار موغل في البداوة. هذا يعني أن اللهجة البدوية في الفيلم تخدم القيمة الجمالية للعمل الفني، بقدر ما تؤدي الدلالة الكاملة له.

على المستوى الشخصي، وجدت نفسي في لعبة علاماتية ظريفة، وأنا أشاهد (هوبال) على منصة شاهد؛ كان يصاحب الفيلمَ الحي سترجةٌ تظهر على الشاشة باللغة العربية الفصحى، وقد لاحظت منذ البداية التباين الواضح بين ترجمة (السترجة) [1] ولغة الفيلم. أكثر ما شدني في هذا التباين أن الترجمة كانت تُضيع كثيراً مما كانت لغة الفيلم تحمله من دلالات إيحائية، وتصريحية أحياناً. وإذا كانت الترجمة في جوهرها إيضاحاً لما هو خبيء أو معمى، فإن الترجمة هنا تقوم بدور معاكس، حين تخفي وتوهم وتُشْكِلُ على المشاهد.

ستعمل المقالة على تتبع بعض الأمثلة في الفيلم، ومناقشة التباين بين الحوار الأصلي ونظيره في الترجمة المصاحبة، لعلها تؤكد أكثر على ضرورة الحرص في ترجمة الأعمال السينمائية، لضمان تحقيق أكبر قدر من الأهداف المرجوة للمشروع الفني السعودي.

لقطة من فيلم "هوبال 2024" - عبدالعزيز الشلاحي

دعونا نتفق في البداية أن الوصول إلى ترجمة دقيقة ومثالية لأي نص أمر متعذر وشبه مستحيل (أنا أراه مستحيلاً، ولكني أخفف العبارة تحرياً للموضوعية)، ولعلي أذهب بعيداً مع فولتير وهو يعترف بحسم: "الترجمات تزيد من عيوب العمل، وتفسد جماله". [2] ". وعلى ذلك فإن أقصى ما يمكن أن نرجوه أن نصل إلى نتيجة مُرْضِية لنصٍّ مترجم نقرأه أو نشاهده؛ نصٍ يمكن أن يأخذنا إلى روح النص الأصلي قدر الإمكان، لنعيش سياقه، ونفهمه فهماً جيداً، ونتأثر برسالته التي يبثها تأثراً يسهم في تحقيق الهدف الذي كان خلف إنتاجه منذ البداية.

يحكي فيلم هوبال قصة عائلة سعودية إبان حرب الخليج في العام 1990، يقرر كبيرها أن يهجر عالم المدينة تماًماً، ويعود بعائلته إلى الصحراء، ويمنع تماسهم مع أهل المدينة بتاتاً. يعود قراره هذا لأنه لمس ما رآه علاماتٍ تشير إلى اقتراب قيام الساعة. هذه العزلة الصارمة لا تؤدي إلى السلام الذي كان يعتقد الجد أنه سيحصل عليه في الصحراء، حيث تؤدي إلى تعقيدات ومحاولات تلاعب وأحداث كارثية. يموت بعض أفراد العائلة، يضيع الجد، ويهدد المرض المعدي بعضهم، كما يكتشف الإخوة خيانة بعضهم لبعض. القصة التي تمثل العمود الفقري في الفيلم هي قصة الفتاة (ريفة) التي تحاول أمها عبثاً أن تجد طريقة لإرسالها إلى المستشفى أو المركز الصحي لتحصل على بعض الرعاية الطبية كي لا يقتلها المرض.

يناقش العمل كما نرى فكرة واضحة تتلخص في أن العودة إلى الوراء أمر مستحيل، وهو ما تكشف عنه قرارات العائلة نهاية الفيلم، الذي كتبه مفرج المجفل، وشارك فيه فنانون سعوديون أمثال إبراهيم الحساوي، ومشعل المطيري، وميلا الزهراني، وحمدي الفريدي. وقد شهد مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الرابع (عام 2024م) العرض الأول لـ (هوبال).

نرى الآن أن الثيمات التي يدور الفيلم حولها هي البداوة، وحياة الصحراء ومشقات العيش فيها، وطرق تفكير أبناء الصحراء، وحلولهم في مواجهة ما يصادفونه في بيئتهم القاسية. ومن الطبيعي أن تعكس اللهجة المستخدمة في الحوارات هذه الطبيعة بإتقان، لكي تصل إلى المستوى الذي تعبر فيه عن هذه القضايا والأحداث. هذا يعني أن اللهجة البدوية مهمة في إيصال رسالة الفيلم، لا للتعبير عن طبيعة لغة العائلة وحسب، بل للتعبير عن أيضاً عن حالة الاغتراب التي تعيشها العائلة، والتي يحاول الجد تعزيزها عبر فرض العزلة التامة.

لا بد أن تحشد لغة الفيلم بالألفاظ الصعبة والمهجورة، والعبارات الغريبة، والأمثلة الخاصة بأهل المنطقة الذين أصبح وجودهم نادراً (لأن معظمهم انخرطوا في عالم الحياة المدنية المتشكل حديثاً في مدن المملكة). لكن هذا يضعنا -بطبيعة الحال- أمام مشكلة الترجمة، حين نريد إيصال الفيلم إلى مجتمعات أخرى. والحديث هنا يمس المجتمعات العربية (والمحلية أيضاً) بقدر ما يمس المجتمعات غير العربية. أتخيل الآن شاباً أو فتاة من السعودية، يشاهدان الفيلم (هوبال) فلا يفهمان من الحوار إلا القليل القليل، ويضطران للجوء إلى السترجة لمحاولة فهم السياق، والاستمتاع بالمشهد السينمائي.

أول مشاهد الفيلم يمكن ان يكون نموذجاً ممثلاً للقضية التي أتناولها هنا؛ يصور المشهد شخصاً ينظر من منظار يظهر من خلال عدستيه امرأتان: إحداهما جالسة تنوح وتندب على قبر ابنتها، بينما تحاول الأخرى مواساتها، ثم يدور بينهما هذا الحوار (وتظهر السترجة على الشاشة) كالتالي:

صيته: يا عين أمتس (أمك) يا غزيل

- يا عين أمتس

ستّه: ادعي الله تكون شفيعتِن لكِ يا صيته

صيته: ما شفعت لها بالدنيا عشان تشفع لي في الآخرة

My sweet girl, my darling Ghazil  -

My dear daughter  -

Pray she be your intercessor on
the day of Judgment, Sita  -

I didn’t stand by her in this world,
how can I hope she will intercede
for me in the Hereafter?  -


في الحوار عدة ظواهر لغوية متصلة اتصالاً مباشراً ببيئة الشخصيتين؛ التعبير عن التحسر والأسى بعبارة (يا عين أمك)، والكسكسة التي تتكرر مرتين (أمتس= أمكِ)، ومفهوم الشفاعة الديني البحت. وربما تكون الترجمة قد أوصلت شيئاً من الدلالة المقصودة للمشهد، لكن هذه التعابير تشير إلى ما هو أعمق كما نعلم. يشكل المشهد لحظة الدهشة الأولى، تلك التي تعطينا بعض الإشارات طُعماً، يجذبنا نحو مصيدة السرد: (المكان، الشخصيات، البيئة، الثقافة، واللحظة السردية)، لكن كثيراً من هذا يُختزل ويضيع في الترجمة.


لقطة من فيلم "هوبال 2024" - عبدالعزيز الشلاحي

الجد: تلح عليك تودي بنتها الديرة؟

شنار: سرّة! ما تْخَسِى إلّا هي! والله ما افْتَحَتْ فَمْها بكلمةْ يُبه.

?She's pushing you to take her daughter to the city   -

.Sarra! No way  -

.I swear she didn’t say a word, father  -



يكشف هذا المقطع عن المشكلة بصورة أكبر؛ فالهدف من التعبيرات العربية يتجاوز إيصال الدلالة الخطابية (اللفظية)، ليغطي بعداً ثقافياً مهماً، وآخر جمالياً؛ تكمن الجمالية في شعور الاستفزاز الذي نلمسه في ملامح الابن اعتراضاً على عبارة أبيه وفي عبارته التقريعية التحقيرية (ما تخسى إلا هي = وهي صيغة مبالغة للعبارة خسئتْ، تستخدمها بعض القبائل لتحصر الخسء فيها وحدها دون غيرها، فلا يخسأ أحد غيرها). أما الدلالة الثقافية المهمة جداً في سياق الفيلم فهي محاولة الحط من شأن الزوجة ونظرة الرجل الدونية إليها، وهي دلالة تضيع تماماً في العبارة (Sarra! No way)، ويكتمل المشهد بدخول الزوجة سرّة متحدية:

شنار: والله لو تفتَحْ فَمْها بكلمةْ. إني لادفنها حيّة.

سرّة: ادفنّي. ادفنّي يا شنار قبل لا تدفن بنتك.

شنار: أنا ولد أبوي اوْلِدهْ. أنتِ ما تستحين؟! أنتِ وش جايبتس (جايبك)

.I swear if she even speaks of it I’ll bury her alive   -

.Then bury me, bury me before your daughter, Shanar  -

.I’m my father's son, his true heir  -

?Don’t you have any shame? What are you doing here  -



يُكمل هذا الحوار ما يحاول المشهد تصويره من حالة الرفض النزِقِ التي يبديها الزوج بعدم احترامه لزوجته التي تدخل إلى المجلس متحديةً زوجها وأعراف القبيلة. التهديد بدفنها حية يكشف عن هذا، كما يكشفه عبارة (أنت ما تستحين). غير أن العبارة التي تسبقها (أنا ولد أبوي اوْلِدهْ) وهي عبارة يستخدمها البدو تنبيهاً، وتفاخراً، وتهديداً أحياناً (وتستخدم في الحوار للتعبير عن غضب الزوج من تصرف زوجته الذي يمس رجولته)، لكن الترجمة لا تقول أي شيء من هذا (I’m my father's son, his true heir) لتبدو عبارةً عادية باردة لا تتصل بتوتر المشهد ولا تصور حالة الصراع التي يعبر عنها.

لقطة من فيلم "هوبال 2024" - عبدالعزيز الشلاحي

هذا بالإضافة إلى تناقضات الخطاب التي يصورها المشهد بإتقان، وهي تناقضات تعزز الجوهر الجمالي للتجربة الفنية بقدر ما توصل دلالات مهمة. فمن غطرسة الزوج إلى عصيان الزوجة وتحديها له، ما أثار ردة فعله الغاضبة التي تقوده إلى الحلفان: (علي الطلاق!)، لكن الجد يتدخل حاسماً الموقف بإسكات ابنه شنار: (على شحم!). تؤدي العبارتان (علي الطلاق – وعلى شحم) وظيفتين وصفيتين في المشهد، لكن الوظيفيتين تُفقدان في الترجمة (I swear to God. Enough!). وهنا سنجد أن المشكلة تتجاوز الهامش، لتمس متن التجربة الفنية، حين نجد أن الترجمة لا تضيع فقط بعض المعاني والدلالات الثقافية التي يرمي إليها ملفوظ الخطاب، بل إنها تُسقط بعض الوظائف السردية المهمة التي تقود في حال تكررها إلى فجوات خطيرة قد تسهم في فقدان العمل الفني لقيمته، وتعطيله عن أداء وظيفته الجمالية والثقافية، كما عطّلت الترجمةُ الوظيفتين الجمالية والدلالية للحكمة البدوية التي ترد في أحد المشاهد:

- ما يسرّ وصف العمى للطريق؟

- ما يفيد وصف البصير للطريق؟

Blind leading the blind isn’t much of a guide.  -

It's pointless for the seeing to describe the world to the blind  -



يتكرر الحديث في الفنون حول أهمية الانطلاق من المحلية نحو العالمية، ويعني هذا القول -في جانب من جوانبه- أن يتحدث الفن بلسان البيئة التي ينطلق منها في رسالته الإنسانية العالمية، لكن هذا قد يصطدم بتحديات الفجوة التي يحدثها عدم الفهم، وبالتالي ضعف التفاعل مع التجارب التي تغرق في المحلية، ولذلك كثيراً ما أميل إلى أن تكون القضايا، ووجهات النظر، محلية الطابع، لكن اللغة المستخدمة يمكن أن تميل أكثر نحو اللغة البيضاء الواضحة، لتتحقق أهداف الفيلم، وحتى تحقق صناعة الأفلام السعودية الانتشار العالمي المنشود. وحين تصبح السينما السعودية منافسِةً تجذب جماهير العالم يمكن حينها أن تتعمق أكثر في التجريب اللغوي وغير اللغوي. أصدقكم القول؛ إني كنتُ أشعر بالعبارات العربية تخرج من أفواه الشخصيات طازجة مثل رغيف ساخن يقذف به نحوي الخبازُ من الفرن، لكن رغيفَ الترجمة يظهر لي كحال الرغيف الذي كان يصل إلى منزلنا؛ باردَ القلب.. منهوشَ الجوارح.






المراجع
[1] السترجة: هو المصطلح المعتمد مقابلاً للترجمة التي تظهر على الشاشات، وهو مأخوذ من المصطلح الفرنسي (sous-titrage)، ويقابله في الإنجليزية مصطلح (subtitling).
[2] العبارة مثبتة في كتاب متعب الشمري: ذاكرة الترجمة: أقوال ملهمة في فن الترجمة وصناعتها، (الرياض: كلمات، 2024)، ص288.