عودة

سوق الإنتاج في مهرجان البحر الأحمر: الحكايات التي تحدث قبل أن تُروى


عمر آل عبد الهادي

09/12/2025

منذ انطلاق الدورة الأولى لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في عام (2020)، وضعت إدارة المهرجان ركائز أساسية تهدف إلى تحريك عجلة صناعة السينما في المنطقة. وبينما تقوم المهرجانات عمومًا بهذا الدور، تظل هناك مساحة تتطلب مزيدًا من التقريب لسد الفجوة بين صُنَّاع الأفلام والمؤسسات المرتبطة بالصناعة. ومن هنا يُركّز المهرجان على تمكين الأفراد عبر خلق فرص تعزز قدرة صانع الفيلم على التواصل مع هذه المؤسسات، وانطلاقًا من هذا التوجه جاءت برامج المهرجان في هذه الدورة لتشجيع أفراد المجتمع السينمائي على الخروج من منطقة الراحة، والانغماس في مساحات جديدة، ومقابلة أشخاص جدد؛ إذ يُعد تجاوز هذه المنطقة خطوة ضرورية لأي صانع أفلام يسعى لتطوير إنتاجه وتعزيز جودة أعماله الفنية.

ففي الدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (2025)، التي حملت شعار «في حب السينما»، انطلق سوق الإنتاج في اليوم الثالث، على خلاف الدورة السابقة التي بدأ فيها من اليوم الثاني. ورغم ما قد يُنظر إليه من قبل بعض الحضور كتأخير، في اعتقادي أن هذا التوقيت أتاح للمشاركين فرصةً أكبر للتفرغ والاستمتاع بمشاهدة الأفلام وزيادة اهتمامهم ببرامج السوق. والاستفادة من توزيع فعاليات المهرجان على الأيام تكمن في الطريقة التي تمنح كل معمل وندوة وجناح، مساحةً زمنية مناسبة للتفاعل بشكل يسهم في خلق تدفّق متوازن للزوار، مما يعزّز حضور السوق وقدرته على أداء دوره بشكل أكثر وضوحًا وفاعلية.

وقد أقيم سوق الإنتاج في جدة البلد مثل الدورة السابقة لكن مع تغيير موقعه، مما مكَّن من توسيع مساحاته وتقديم خدمات إضافية للزوار، بما في ذلك زيادة أعداد الأجنحة الرسمية، وتسهيل الحركة بين المعارض وورش العمل. كما مثلت هذه الدورة، الأولى تحت إدارة الرئيس التنفيذي الجديد للمهرجان «فيصل بالطيور» فرصةً لتطبيق رؤيته التنظيمية، التي أسهمت في رفع مستوى السوق وربطه بشكل أكبر باحتياجات صناع الأفلام المحليين والدوليين.

الرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور مع ممثلي جناح الصين للأفلام في أول أيام سوق الإنتاج
منصة احترافية للتطوير والتواصل

يُعدُّ سوق الإنتاج أحد أهم محركات أي مهرجان سينمائي، فهو المساحة التي يلتقي فيها الكتّاب بالمخرجين، والمنتجون بالمستثمرين، لعقد الصفقات والاتفاقيات وبناء الشبكات المهنية التي تقوم عليها صناعة الفيلم السينمائي. ويوفّر سوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي فرصة فريدة من نوعها لعرض المشاريع على المشترين وإدارة المفاوضات المحتملة، وهو عنصر يعتمد عليه كثير من صُنَّاع الأفلام، إذ إن هذه الاتفاقيات والمفاوضات غالبًا لا تتحقق خارج سوق المشاريع، سواء في المعارض الأخرى أو عبر شبكة السوق الافتراضية للمهرجان. ومن هنا تبرز ضرورة النظر خارج الإطار التقليدي لاكتساب الخبرة من زوايا متعددة قد لا يغطيها العاملون داخل الدائرة نفسها، خصوصًا لأولئك الذين لم يحظوا بتجارب دولية، فالحضور الدولي الواسع سواء كان من خلال أجنحة العارضين أو الأفلام المشاركة يمكّن صنّاع الأفلام من فهم ديناميكيات السوق والمشاركة فيه بفاعلية أكبر، وبذلك يستطيعون تعزيز فرص نجاحهم محليًا ودوليًا، وقد تجلّى ذلك بوضوح في هذه الدورة، التي شهدت حضورًا يمثل أكثر من (45) دولة و(12) جناحًا رسميًا، مما أسهم في تحويل السوق إلى منصة اقتصادية واسعة تُحفّز حركة الأعمال والتعاون بين مختلف الأطراف.

وجود سوق إنتاج داخل أي مهرجان سينمائي يعني أن الصناعة قد تجاوزت مرحلة «التمثيل الثقافي» ودخلت مرحلة «البنية التحتية» الفعلية. فالمهرجان، بوصفه حدثًا جماهيريًا دوليًا، قد يقدّم عروض السجادة الحمراء والأفلام، لكن السوق يختلف جذريًا لأنه يعمل وفق منظومة الصناعة العملية للأفلام: تطوير المشاريع، تنظيم اللقاءات المهنية، بناء شبكات الإنتاج والتوزيع، وربط المشاريع بجهات تمويل محلية ودولية. هذا التحوّل المستمر من عام لآخر يشير إلى أن البيئة السينمائية باتت قادرة على استقبال المشاريع في مراحلها الأولى، وتنميتها من خلال المتابعة المتواصلة، حتى تتحول إلى أعمال قابلة للتنفيذ، وتزداد جدّية السوق وضوحًا من خلال نمطه المتكرر سنويًا: الإعلان عن المشاريع والجوائز في نهاية البرنامج، بعيدًا عن أجنحة المعرض، ثم نشاهد هذه الأفلام تُعرض في السنوات اللاحقة، وهو ما يعكس مصداقية السوق وقدرته على أداء دوره الفاعل، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود خبرة كافية لدى إدارة المهرجان ودعم فعّال من الجهات المعنية، وتميز صناع الأفلام المشاركين. ولا يقتصر دور السوق على المحترفين فحسب، بل يشكّل أيضًا فرصة لكل من يسعى لفهم صناعة السينما عن قرب، فمجرد حضور الصانع داخل السوق يمكّنه من الاطلاع على آليات العمل بشكل عملي ومباشر، مما يجعل السوق منصة ناضجة تُسهم في إعداد جيل جديد من صُنَّاع الأفلام القادرين على التعامل مع متطلبات الصناعة باحترافية.

الرئيس التنفيذي للمهرجان أثناء زيارته للجناح الروسي خلال أول أيام سوق الإنتاج
بناء صناعة سينمائية مستدامة

يعمل سوق الإنتاج على نقل صناع الأفلام من مرحلة العمل الفردي إلى مرحلة التفكير المهني المبني على معايير الصناعة العالمية، خصوصًا مع دخول هذه الأسواق بقوة إلى المنطقة، فالمشاركة في الأسواق الدولية سواء عبر عرض الأفلام أو من خلال أجنحة المؤسسات السينمائية تخلق تباينًا واضحًا في مستوى المنافسة وتفرض على صانع الفيلم الارتقاء بمشروعه ليواكب هذه المعايير، وهنا يصبح لزامًا عليه صياغة مشروعه بشكل واضح: إعداد عرض تقديمي متقن، بناء استراتيجية تمويل دقيقة، تحديد مسارات متنوعة للتوزيع، وفهم احتياجات الإنتاج في مراحله المختلفة قبل التصوير وأثناءه وبعده. كما يواجه صانع الفيلم أسئلة مهنية أعمق وأكثر تحديدًا من جهات التمويل والمنتجين وشركات المبيعات، وهي أسئلة تتجاوز منطق «الرغبة الفنية»، وتُشعل بداخله عملية بحث عن إجابات لها، ومنها يعيد تشكيل نظرته لمشروعه من زاوية السوق، لا من زاوية الإبداع فقط، إذ غالبًا ما يعجز البعض عن تحقيق التوازن بين المعادلة الصعبة التي تصنع فيلمًا جيدًا فنيًّا وقابلًا للتسويق تجاريًا. لذلك تصبح ضرورة تكوين عقلية احترافية تنظر إلى الفيلم كمشروع متكامل شرطًا أساسيًا للنجاح في بيئة سوقية تتطلب وضوح وجاهزية من صُنَّاع يخططون باستراتيجية.
وفي الوقت ذاته، يُعدُّ السوق جزءًا معززًا لصناعة ثقافية مستدامة، تتجاوز كونه مساحة تجمع أطراف متباعدة، ليصبح أداة يعاد بها تشكيل المشهد الفني المحلي، فمن خلال توفير منصات لتطوير المشاريع، وتسهيل التواصل بين صناع الأفلام المحليين والدوليين، تخلق تلك البيئة العملية التوجه نحو الأعمال والعلاقات الاحترافية. غير أن الإشكال الذي يواجه بعض الصنّاع هو إغفالهم أن الاستفادة الحقيقية من المهرجان تبدأ قبل انطلاقه، عبر التقديم على برامج التطوير، وورش العمل المتقدمة، والمبادرات التي تتطلب استعدادًا مسبقًا، وفي المقابل تتيح الندوات الحوارية، وعروض المشاريع، وبعض الورش، والمحاضرات العامة فرصًا هامة بعد بدء الدورة، ما يمنح المشاركين أكثر من منفذ للتعلم والتطوير، وتسهم هذه البرامج في خلق بيئة داعمة للإبداع تتقاطع بشكل مباشر مع التحولات الاقتصادية والثقافية التي تشهدها المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من النجاح المتزايد للسوق، يظل أمامه عدد من التحديات، أبرزها محدودية حجم الإنتاج المحلي مقارنة بطموحات السوق.


الرئيس التنفيذي للمهرجان يفتتح جناح الهند للأفلام خلال أول أيام سوق الإنتاج
الأرقام تتحدث: توسّع سوق الإنتاج في الدورة الخامسة

تعكس الأرقام بين الدورتين الرابعة والخامسة تحوّل سوق الإنتاج من جناح للعرض إلى توسّع استراتيجي واضح، فالزيادة في عدد الجهات العارضة والمشاريع المدعومة تكشف مستوى جديدًا من الثقة؛ إذ إن استقبال (142) جهة من (32) دولة في (2024) كان يشير إلى اهتمام أولي بالسوق، لكن القفزة إلى أكثر من (160) شركة من (45) دولة في (2025) تكشف مسارًا مختلفًا تمامًا، يؤكد أن السوق بات يُقرأ عالميًا كمنصة قادرة على صناعة حركة تمويل وإنتاج فعلية، لا مجرد نقطة التقاء عابرة. ويرتبط النمو الكمي بتحوّل نوعي لا يقل أهمية، فارتفاع عدد المشاريع المختارة أيضًا يعكس تنوعًا جغرافيًا أوسع، خصوصًا مع ارتفاع نسبة المشاركة الآسيوية من (28%) إلى (35%)، في إشارة إلى إعادة تموضع السوق ضمن المشهد الآسيوي والإقليمي الأوسع، ويؤكد أن المهرجان لم يعد محصورًا في نطاقه المحلي، بل يتقدّم ليصبح جزءًا من حركة إنتاج عابرة للقارات.

كما أن توسيع برنامج المسلسلات «معمل المسلسلات» وإضافة ثمانية مشاريع جديدة يُعبّر عن قراءة دقيقة للتحولات العالمية؛ فالأعمال التلفزيونية ومنصات البث باتت جزءًا لا يتجزأ من اقتصاد السوق، ويجعل هذا التوسّع خطوة تظهر مرونة وتكيف مع المشهد الإنتاجي. أما البرامج المهنية المصاحبة، من «ندوات السوق» و«شبكة السوق» إلى «مواهب السوق»، فلم تعد مجرد فعاليات جانبية كما يظن البعض؛ بل أصبحت أدوات لصناعة رأس مال معرفي ومهني تحتاجه أي بيئة إنتاج ناشئة للوصول إلى مستوى النضج، فمن خلال جمع الخبراء العالميين وتقديم جلسات الإرشاد وتنظيم ورش للمواهب الجديدة، يتحوّل السوق من نموذج تقليدي قائم على العرض والطلب إلى نموذج «حاضنة صناعة» يستثمر في الأشخاص بقدر ما يستثمر في المشاريع.

وتجميع هذه الأنشطة ضمن فضاء موحّد يعزز فكرة المجتمع السينمائي، حيث يصبح الاحتكاك المهني جزءًا أصيلًا من صميم التجربة، ويؤكد أن الأسواق السينمائية الناجحة لا تكتفي بربط المشاريع بالتمويل، بل تعمل على خلق تدفّق بشري ومعرفي مستمر يرفع جودة الإنتاج على المدى الطويل.