شارك
أحد الأهداف المنتظرة من أي مهرجان هو دعم صناعة السينما المحلية، فكما لا يمكن لمجتمع أن يُنظِّم بطولة رياضية فيما يفتقد إلى محترفين في اللعبة ذاتها، ينطبق الأمر أيضًا على صناعة هي الأهم في قطاع الترفيه العالمي. فالمهرجانات لا تُقام فقط من أجل استعراض الأناقة على السجادة الحمراء، ولا للوقوف على جديد المدارس السينمائية العالمية، ولكن في دولة تتطلَّع إلى دخول السوق العالمي في أقصر وقت ممكن، مثل المملكة العربية السعودية، يُصبح منوطًا بمهرجانٍ وليدٍ أن يدعم الصناعة المحلية من جهةٍ، ويُلبِّي أذواق الجمهور المتباينة من جهةٍ أُخرى.
في دورته الخامسة بدا واضحًا أن مهرجان البحر الأحمر السينمائي نضج سريعًا ولم يعد ناشئًا، وقطع شوطًا طويلًا في تحقيق المهمة خلال زمن قياسي؛ خمس دورات فقط. وإذا نظرنا إلى المنطقة من حولنا، سنجد أن هناك مهرجانات بدأت وخبت دون أن تترك الأثر المتوقع في صناعة السينما المحلية لديها.
في الدورتين الأولى والثانية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي كان من الطبيعي أن يكون الحضور السعودي على شاشات المهرجان خجولًا؛ فالتجربة كانت لا تزال تتشكَّل، حيث الأفلام معظمها تجارية أو مُوجَّهة إلى إحدى منصات البث التدفقي، وكل ذلك كان متوقعًا لأن شاشات السينما نفسها لم تعد إلا في (2018). انطلقت الدورة الأولى للمهرجان في ديسمبر (2021)، وقتها كان من الطبيعي أن يقول المراقبون: «الأمر لا يزال مبكرًا»، فالسينما فن يحتاج إلى التراكم والخبرات، غير أن أسبابًا عِدَّة أسهمت في أن تأتي الثمار أسرع من المتوقَّع؛ أولها امتلاك المجتمع السعودي للَّبِنَة الأولى للفيلم السينمائي، وهي القصة، فهناك كثيرٌ من الحكايات التي لم تُرْوَ بعد في السعودية، اجتماعيًا وجغرافيًا وإنسانيًا. لهذا جمعت التجارب الأولى أفلامًا تروي قصصًا عن حقب سابقة وأفلامًا عالجت حكايات معاصرة، يُضاف إلى ذلك وجود جيل كامل شغوف بالسينما ومعظمه تعلَّم في الخارج، حيث استقبلت استودبوهات هوليوود وبوليوود الكثير من المواهب، خصوصًا على مستوى الإخراج والتصوير، بجانب الذين تعلموا مباشرة من إرث السينما العربية. كل هؤلاء عادوا ليجدوا دعمًا وفيرًا من وزارة الثقافة، مُمَثَّلة في هيئة الأفلام ومسابقة ضوء وغيرها من المبادرات، وهنا يكمن السبب الثالث: تعدد مسارات إنتاج الفيلم السعودي وعدم الاكتفاء فقط بالدعم الحكومي. هذا التعدد ساهم في اتِّساع السوق وزيادة الطلب على الأفلام المعبرة عن المجتمع المحلي، وفي دخول شركات إنتاج خاصة لتمويل بعض الأفلام بالشراكة مع منتجين سعوديين، واهتمام منصات البث التدفقي بأن يكون لديها أفلام سعودية تُلبِّي احتياجات جمهورها العربي - عمومًا - والسعودي بشكل أخص.
(21) فيلما سعوديا قصيرًا في الدورة الخامسة
نتائج كل تلك الجهود يمكن ملاحظتها بوضوح في برنامج الدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، فلم يعد الفيلم السعودي استثناءً، بل حاضرًا في كل الأقسام، وبات مألوفًا أن تجد المشاركين من حاملي البطاقات المعتمدة يسألون عن بطاقة فائضة لدخول أفلام سعودية، مثل «هجرة» لشهد أمين، حيث الشغف لمتابعة الفيلم الذي سيُمثِّل السينما السعودية في مسابقة أوسكار أفضل فيلم أجنبي (2026). وعندما تنظر إلى جدول المهرجان يوم الأحد (رابع أيام المهرجان) تجد العرض الثاني فيلم «هجرة» يسبق فيلم «المجهولة» لهيفاء المنصور في عرضه الأول بقاعة العروض الرئيسة لميدان الثقافة، فهيفاء المنصور المخرجة السعودية الرائدة تعود إلى المشاركة في البحر الأحمر لكن وسط حضور لأسماء نسائية بارزة لمخرجات سعوديات عرفن الطريق نحو مقعد المخرج في السنوات الخمس الأخيرة وباتت أفلامهن «sold out».
الملصق الترويجي لفيلم «المجهولة» لهيفاء المنصور
هناك مشهد آخر موازٍ وكاشفٌ لحجم التغيير الذي حققته السينما السعودية، والذي يمكن قياسه من خلال مهرجان البحر الأحمر السينمائي المدعوم من وزارة الثقافة السعودية، ألا وهو ظهور مجموعة من السيدات يبدو عليهن التواجد لأول مرة في ميدان الثقافة بجدة التاريخية حيث قاعات العرض، وقد جئن فقط من أجل مشاهدة فيلم «رهين» لمحمد الدوخي، بلا خبرات سابقة في التعاطي مع المكان. هؤلاء السيدات أردن معايشة تجربة الشاشة في مهرجان سينمائي، رغم أن الفيلم نفسه سيُتاح عبر منصة بث تدفقي في نهاية الأسبوع. وكصحفيٍّ غطَّى العديد من المهرجانات العربية والدولية يُعدُّ هذا المشهد الأكثر تأثيرًا؛ الجمهور غير الخبير بأجواء المهرجانات لكنه موجود لفيلم بعينه وفَّره المهرجان، وهو ما تزامن مع أداء مُغاير لأبطال الفيلم على السجادة الحمراء؛ حيث حملوا معهم إكسسوارات أساسية من حبكة الفيلم: حقيبة بنية قديمة، وقناع طائر. ومعرفة دورهم تتطلب بالطبع مشاهدة الفيلم الذي لا نُفضِّل أن نحرق أحداثه هنا.
محمد الدوخي بطل «رهين» على السجادة الحمراء
أُسنِدَت البطولة النسائية في فيلم «رهين» لأبرار فيصل، التي تشارك في المهرجان للعام الثاني على التوالي، بعد مشاركتها الأولى في العام الماضي بفيلم «ليل نهار» للمخرج عبد العزيز المزيني، وهذا يعني أن المهرجان بات أساسيًّا في ملف السيرة الذاتية للفنانين السعوديين ولم تعد المشاركة استثناءً. الأمر نفسه ينطبق على بطل «رهين» محمد الدوخي الذي جذب الانتباه قبل عامين في المهرجان نفسه بفيلم «مندوب الليل»، وهي التجربة السينمائية الطويلة الأولى للمخرج البارز علي الكلثمي، الذي كانت له في هذه الدورة من المهرجان جلسة حوارية للحديث عن تجربته كمخرج ومنتج عاصر نهضة السينما السعودية في السنوات العشر الأخيرة.
التراكم إذن مُستمر، وجيل المخرجين السعوديين الصاعدين باتت له نافذة من خلال جلسات المهرجان الحوارية، وباتت لديه خبرة يمكنه مشاركتها مع الجيل المعاصر من السينمائيين السعوديين الذي نلمح وجوده في كل أنحاء المهرجان، بحثًا عن الجديد وانتظارًا لتوقيع الفيلم الأول قصيرًا كان أم طويلًا. في جلسة «الكلثمي» الحوارية أكد على امتنانه للجمهور الذي واكب انطلاقة أبناء جيله على اليوتيوب قبل عودة الروح لصالات السينما، وكيف تعلَّم هذا الجيل مباشرةً من الجمهور ومن ردة الفعل عبر التعليقات والانتقادات، قبل أن تنظِّم السينما السعودية نفسها، ويصبح الوجود في الصالات أمرًا اعتياديًا، مُشيرًا إلى أهمية التوازن في الاستراتيجية الإنتاجية بين الأفلام التجارية مثل «سطار» وغيرها وبين الأفلام التي تسير في سياق مغاير لفيلمه الأول «مندوب الليل».
علي الكلثمي خلال الجلسة الحوارية
مغامر بارز ولاعب كرة شهير، كلاهما وجد نفسه على السجادة الحمراء لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. فالأفلام الوثائقية لم تعد تُطلُّ على الجمهور بخجل، والمفارقة أنها في هذه الدورة عن نجوم حقيقيين، وكان من أبرزها فيلم «نور» الذي يُعالج قصة (محمد نور) أحد أساطير الكرة السعودية ونجم نادي الاتحاد السابق. وكذلك فيلم «7 قمم» الذي يحكي قصة المغامر السعودي (بدر الشيباني) وكيف نجح في تحدي قمم الجبال السبعة. واللافت هو أن الحديث لم يقتصر على الرجل نفسه وقصته، لأننا لسنا في برنامج تلفزيوني أو بودكاست، بل في مهرجان سينمائي فتح المجال للكلام حول تقنية إخراج هذا النوع من الأفلام الذي نشاهده فقط على قنوات مثل «ناشيونال جيوجرافيك» وكيف تم تصوير مشاهد صعبة أعلى قمة جبل إيفرست، وكيف حوَّل المخرج أمير الشناوي كل هذه المواد إلى شريط وثائقي متماسك. الحديث في تفاصيل الصناعة يفرض نفسه إذن على القاعات، فلم يعد المهم هو النجوم وإطلالاتهم، بل «حب السينما» وهو الشعار الذي تحمله دورة (2025) من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
الملصق الترويجي لفيلم «7 قمم»
في هذه الدورة من المهرجان، يُمثِّل السينما السعودية (42) فيلمًا، منها 9 أفلام طويلة، بينها أربعة أفلام روائية والباقي من فئة الفيلم الوثائقي، و21 فيلمًا قصيرًا، و12 فيلمًا في قسم الأفلام الصاعدة، حيث يبلغ عمر أكبر مخرج 16 عامًا، وهو القسم الذي سيُمثِّل لاحقًا «معمل إنتاج» لجيلٍ تالٍ من السينمائيين سيقدمون أفلامهم الطويلة في العقد المقبل. إنه التخطيط للمستقبل الذي تحتاجه أي صناعة، وعدم الاكتفاء بالموجودين. في البدايات كان المتاح مطلوبًا لأنه لا خيارات أخرى، أمَّا الآن فيمكن القول إن تنفيذ تلك الاستراتيجية لمدة 10 سنوات مقبلة يعني زخمًا سينمائيًا سعوديًا غير قابل للحصر، سيوفِّر عددًا كافيًا من الأفلام المحلية لتفعيل شباك التذاكر؛ وعندئذٍ يصبح الفيلم السعودي منافسًا شرسًا في الشباك للفيلم الأمريكي والآسيوي والعربي، وهو أقصى ما يمكن أن تطمح إليه أي صناعة تريد الإعلان بقوة عن نفسها، بجانب ما يتبع ذلك من حضور سيكون معتادًا في المهرجانات العربية.
إذا كان هذا التحليل بدأ بسؤال: ما الذي وصلت إليه السينما السعودية من خلال مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في دورته الخامسة؟ فلعل من المناسب أن ينتهي بسؤالٍ موازٍ: كيف سيكون حال السينما السعودية في الدورة العاشرة للمهرجان نفسه؟ والإجابة سيرسمها الصنَّاع وإدارة مؤسسة البحر الأحمر السينمائي الدولي، المنظمة للحدث السينمائي الأكبر والأضخم على مستوى المنطقة.
