شارك
عُرض فيلم «صراط (2025)» للمخرج الإسباني-الفرنسي (أوليڤر لاشيه) في الخامس من ديسمبر ٢٠٢٥، وذلك في ثاني أيام مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بمدينة جدة. وهو فيلمٌ يكشف عن نفسه بشكلٍ بطيء، لا عبر الحبكة ومفاجآتها، بل عبر الكشف عن المعمار النفسي والروحاني الضخم القابع في بواطن الشخصيات والمتشكِّل من خلفياتها الدرامية (Backstories). يبدو الفيلم للوهلة الأولى كرحلة بحث يخوضها أبٌ برفقة ابنه عن ابنته التي فرَّت إلى الصحاري المغربية، حيث الأراضي الشاسعة المتضررة بفعل حربٍ ما، ووسط حفلة راقصة صاخبة من حفلات الـ (ravers) الذين يعيشون حياتهم وفق منطق الانغماس في الملذَّات والتحرُّر من المسؤوليات، وغالبًا ما يكون في هذه الحفلات تعاطي ورقص على موسيقى التكنو الصاخبة. ولكن تحت هذه القصة تقبع حكايةٌ أعمق وأكثر إثارة للقلق؛ حكاية لأسرة عالقة في هُوَّةٍ عاطفية، وتُحاول أن تنزع غشاوة الالتباس بين المفاهيم والمشاعر. إنها رحلة على مستويين؛ رحلة البحث عن الابنه، والرحلة الداخلية (Arc) للأب الذي يحتاج – دون أن يعي – إلى خلاصٍ روحيٍّ آخر.
تظهر براعة المخرج أوليڤر لاشيه في المشهد الأول وهو يرسم المتقابلات التي ستشكل الثيمات الرئيسة للعمل. نرى الأب (لويس) وابنه (إستبان) في فضاء لا ينتميان إليه؛ حفلة "ريڤ" مكتظة بالمنغمسين في هذا النمط من الحفلات، ويظهر الأب لويس وابنه بمظهر يختلف عن البقية، ملابس تقليدية ويمشيان بوقار في الوقت الذي يرتدي فيه البقية ملابس غريبة، وبعضهم من ذوي الإعاقة الجسدية. نستطيع أن نخمن العوالم التي أتت منها الشخصيات، فنعرف أن الأب جاء من عالم نظيف ومرتب، عالم منظم تحكمه القوانين والواجبات والتكليفات، نراه يقف في عالم نقيض، صاخب ونابض، وفوضوي لكنه متحرر وإن على نحو غريب.
ونرى ذلك كله في إطارات بصرية بديعة: جبال ضخمة ونتوءات صخرية تُشكِّل عالم الأب الصلب والراسخ والجامد، ونرى عليها أضواء النيون التي تحوِّلها إلى رسومات وأشكال بديعة؛ سلالم وسماعات ضخمة، تخترقها الأصوات الصاخبة وتهزُّ حتى ذرَّاتها المتماسكة.
لقطة من فيلم «صراط (2025)»
تلك الصور ليست بصرية فحسب، بل نفسيَّة، تمامًا كما هو كل شيء في الفيلم. عالم الأب الروحاني هو الآخر يتماشى مع قيمه، وهي قيم متوارثة شكَّلها التراث والتاريخ، والالتزام، والوضوح الأخلاقي في اتخاذ القرارات النابع من المسارات المحددة سلفًا. أمَّا القيم الروحانية للريڤرز فهي على النقيض؛ قيم لا تأتي من الماضي، بل قيم مكتشفة، فوضوية، غارقة في الذاتية، غالبًا خاطئة، لكنها أصيلة. ولذلك لا يستطيع الأب فهم هذا العالم المقود بالعاطفة على حساب القوانين، بل يُفسِّر ذلك على أنه فسادٌ وخطرٌ وسقوطٌ أخلاقيٌّ، بالرغم من أن الريڤرز أنفسهم يحملون تجربة مطابقة لتجربة الأب، وهي الألم، ولكنهم قرروا أن يتعاملوا معه بشكل مختلف تمامًا.
أما الابن (إستبان) فهو في المنطقة القابعة في المنتصف، هو «أبٌ» مُحتَمَل، صورة أولى للأب في طور التشكل، لا يتصرف كالأطفال الذين يعيشون حياة الاكتشاف، حيث اللعب واللهو دونما عواقب، بل تشعر أنه حمَّال للأذى ومُتحمِّل لمسؤوليات كُبرى في عمر مبكر، يبحث عن أخته في رحلة صعبة، يتحوَّل بشكلٍ تدريجيٍّ إلى والده، لا يتكلَّم كثيرًا، يُفكِّر بشكل براغماتي وواقعي، هو امتداد لوالده وليس مُستقلًا، يفعل كل ذلك ليكون وفيًّا ومخلصًا له، فتلك هي طريقته في النجاة في هذه العائلة. إلى جانب ذلك، في الفيلم تلميح واضح لحالة الشلل العاطفي الذي يعيشه والده. غير أننا في الوقت نفسه نرى نظراته الفضولية لهؤلاء المنغمسين بشكل غريب في الرقص، وكأنه يميل لهم بشكل عفوي وطبيعي.
هكذا تكشف المشاهد الأولى للفيلم عوالم ضخمة وخفيَّة لدواخل هذه الشخصيات، وهو ما سيساعدنا على فهم الأخت الهاربة. يُقدِّم لنا الفيلم كل ما نحتاجه لنعيد صياغة هذه الأسرة؛ أم غائبة طيلة الفيلم، وأب لا يفهم مشاعره ولا يُراجع قيمه، وابنة هاربة، وطفل تحوَّل إلى رجل بالغ يتحمل المسؤوليات، وفيٌّ لوالده. وكل ذلك وسط صمت مُطْبِق، وتواصل مُضطرب، وتشوش كبير على مستوى المشاعر. وعليه يكون العالم الصاخب، عالم المتهتكين والمتلذذين، لحظة أولى عظيمة في زعزعة عالم الأب، فالصخب هو ما تحتاجه هذه العائلة.
لقطة من فيلم «صراط (2025)»
تُشكِّل المشاهد الأولى لَبِنَات العمل التي تساعد على اقتحام دواخل الشخصيات، وخصوصًا الأب، الذي يُحوِّل الفيلم صراعه الخارجي إلى رحلة ذاتية داخلية، ويجعلنا نرتبط به على المستوى الوجداني، وكذلك بقية الشخصيات، وهو ضروري للانغماس في تجربة المُشاهدة.
إذا كان الابن قد اختار الوفاء والانصياع إخلاصًا للأب، فإن الابنة (ماريانا) قد اختارت الطريق المعاكس، فرفضت العيش في حزن مقموع، وألم لم تُشفَ منه، يتغذَّى كل يوم على الصمت، وعلى العملية والبراغماتية الجافة. لذلك لم يكن هروبها تمردًا، بل تنفُّسًا. والصخب هنا خيارٌ مُوفَّق معنًى ورمزًا، فهو يرسم هروب الابنة بشكل منطقي؛ هروب من عالم إلى عالم نقيض. والأجمل من كل ذلك أن الفيلم يرفض وضع كلا العالمين على حد المعيار الأخلاقي، وهو ما يجعل الفيلم ثقيلًا، فنحن لا نكره الأب بالرغم من كل هفواته، وأخطاؤه لا تنبع من الحقد ولا الكراهية ولا الاعتلال الأخلاقي، كما أن زلاته هي نتاج سوء تدبيره والتباس المفاهيم لديه، فهو يرى في الانضباط نجاةً، وفي الانصياع حُبًّا، وكذلك الطرف الآخر، فهم ليسوا مخلّصين ولا أنقياء، هم أناس يعيشون على طريقتهم في التخفيف من أعبائهم النفسية السابقة.
نرى الأب الذي عاش طيلة حياته بشكل عملي، يُحلِّل ويرصد ويقرر ولا مجال للمشاعر لديه، هو أسوأ الشخصيات تدبيرًا، فأفكاره وتنفيذه وقراراته جميعها تقود الآخرين إلى الهاوية، وهو ما قد يعكس سبب هروب الابنة. نواياه طيبة تمامًا ولكن قراراته رديئة، شاهدنا كيف قدّر أن السيارة ستكون أكثر أمانًا لابنه والكلب بعيدًا عن الجرف، متغافلًا عن أن لعبهما داخل السيارة قد يكون أكثر خطرًا، وكذلك قراره بالسير مشيًا إلى المكان الذي سقطت فيه السيارة وجرّ الجميع إلى حقل الألغام، وجميع قراراته سلطوية، ذات طابع قسري، تأتي مفروضة لفظًا أو فعلًا.
يُشكِّل الخوف كل عثرات لويس، فهو ليس الأب المؤذي على الطريقة الكلاسيكية في الأفلام الأمريكية -الأب السكير والمعنِّف لزوجته وأبنائه- بل هو الأب الخائف، وخوفه يخلط عليه الأمر فلا يفرِّق بين السيطرة والاهتمام. صحيح أن حُبَّه صادق، لكنه مشوب بالخوف من فقدان السلطة ومن العالم المتغير. يؤمن بأن توفير الأمان وإقامة الانضباط وسَنَّ القوانين كافٍ، في حين ما كانت تحتاج إليه الأسرة هو المرونة والخصوصية والاستقلالية.
لقطة من فيلم «صراط (2025)»
عندما يبدأ الأب بالتخلص من نكرانه واستكشاف العالم الجديد يبدأ في الغوص في نفسه، وهو شيء لا يريده، إلا أن خلاصه يكمن هناك، في داخله. فبعد هروب ابنته لا يؤلمه فقدانها وحسب، بل هو ألم ممزوج بالفشل والعار، وعليه تكون استعادتها إنقاذًا لذاته وقيمه. ولكن قد تكون استعادة ابنته مرهونة بتغيير يأتي من الداخل، ولكي ينتصر في هذه الرحلة/المعركة يحتاج إلى أن ينمو عاطفيًا ويتواصل مع ابنه، مع الريڤرز، ومع الجميع.
يمكن أن نفهم غياب الأم التام عن الفيلم بأكثر من طريقة؛ قد يُبرِّر ذلك غياب الاتزان بين العملي والعاطفي في العائلة، باعتبار أنها متوفاة أو بعيدة، مما يجعل دور الأم على عاتق لويس أيضًا فتتضاعف المهام والمسؤوليات فوق ما يطيق. ونستطيع أن نُخمِّن ما جرى لماريانا إذا ما نظرنا إلى إستبان، فمن الوارد أن لويس حاول أن يجعل من ماريانا أُمًّا مُبكِّرًا، وهو ما قابلته بالرفض وأدَّى في النهاية إلى هروبها وتحررها.
في مشهد الألغام الأخير، والذي بدأ بشكلٍ فِعليٍّ في اللحظة التي استطاع لويس أن يتواصل فيها مع الريڤرز، وألا يعاملهم بوصفهم أدوات وُجدت في طريقه ستُساعده عمليًّا في مسعاه، وبعد أن تحدثوا معه عن ماضيهم وآلامهم، ومن ثمَّ بدأ بالرقص معهم، تتبدَّى أزمة الألغام لا بوصفها مُعبِّرًا وحيدًا عن الصراط الذي يحكي عنه الفيلم، بل صورة رمزية له، فالصراط هو ما كان يمضي فيه لويس طيلة الفيلم وليس ذلك المسار الذي اختاره لينجو من الألغام. صحيح أن المسار الذي اختاره لويس في المشي يُمثِّل صراطًا، فهو دقيق كالشعرة، وهذا يُبرِّر انفجار اللغم في أحد الريڤرز عندما مشى على خُطى لويس، لعله حاد عنه بملليمتر واحد، لكنه سقط عن الصراط.
وعلى صعيد آخر، نستطيع أن ننظر إلى مشهد الألغام الآن بوصفه ذروة الفيلم، لا لأنها لحظة حاسمة في نجاة لويس، بل لحظة حاسمة في التخلي عن قراراته المدروسة، وخططه العملية، والقوانين النظامية، وأن يسير بلا معنى ويمنح الفوضوية والعشوائية فرصة لتدخل حياته. ولا نرى خلاصًا بعد أن ينجو لويس ومن معه من حقل الألغام، بل نرى صراطًا ممتدًّا على سكة القطار، مؤكدًا أن الصراط ممتدٌّ بامتداد الحياة، وليس مرحلةً انتقاليةً، وأن لويس لا يزال أمامه رحلة طويلة من التعافي ومراجعة قيمه، والبحث عن ابنته، وعن أشياء أخرى
فيلم «صراط» عبارة عن تجربة نفسية ثقيلة، مُربكة ومُنهكة، تحاول أن تتماس مع المعنوي والماورائي؛ المشاعر والقيم والتوقعات والآمال في عوالم يسودها الصمت، ويُوصل الفيلم ذلك دون كلام كثير، بل يستخدم الصمت والصخب كثنائية تعكس الغضب والثقل والعار والندم واليأس القابع في نفوس الشخصيات، فنرى كيف تحاول أن تلتف وتراوغ مشاعرها الصعبة، وتصور لنا أن تجاوز الآلام المعنوية رحلة، لكنها ليست رحلة تكتمل بإتمامها، بل بعبورها.
لقد كانت فرصة حضور فيلم «صراط» في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بدورته الخامسة تجربة فريدة وخاصة، لأن الفيلم ما زال في مرحلة العرض في المهرجانات السينمائية، والملاحَظ أن الفيلم بهذا العرض المحلي قد اكتسب جمهورًا جديدًا مُتحمِّسًا لفرصةٍ كهذه، فمشاهدة الأفلام من خلال المهرجانات السينمائية تُعد فرصة عظيمة يتمناها كل متابع ومحب للفن السابع، فرصة أصبحت قريبة جدًا من الجمهور السعودي المتعطش للفن ولمدِّ الجسور نحو التجارب السينمائية العالمية.
