عودة

غبار الزمن الذي يتداعى


دايس محمد

19/11/2025

سمعه البعض في تجواله

يتحدث إلى نفسه

عن مرايا تكسَّرت منذ سنين

عن وجوهٍ تكسَّرت بدورها في المرايا

التي استعصت على كل ترميم

وآخرون سمعوه يتحدث عن النوم

وعن رؤىً مهولةٍ عند عتبات النوم

عن وجوهٍ من فرط رقتها لا تُحتمل. [1]

يُعدُّ فيلم "غبار الزمن (2008)" الجزءَ الثاني من ثلاثية اليوناني ثيو أنغيلوبولوس (1935 – 2012) المُعَنْوَنة بـ "ثُلاثية اليونان الحديث"، الثلاثية التي لم تكتمل إثرَ رحيله في حادثِ سيرٍ أثناء تصوير الجزء الثالث منها، والمسمى بـ"البحر الآخر".

يبدأ الجزء الأول من الثلاثية "المرج الباكي (2004)" بِسِيْرَة عائلة عائدة إلى اليونان من الشَّتَاتِ في نهايات القرن التاسع عشر، ليصوغ تاريخ اليونان بدءًا بتأسيس اليونان الحديث، ومرورًا بالحروب والتقلبات السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال صورة عائلة تنهار وتتفتَّت داخليًا قبل أن يخرج هذا التفتت إلى العلن. والجزء الثاني "غبار الزمن" ينطلق من الفكرة نفسها: الشتات في الصقيع الروسي؛ إذ يَحْمِل ثيو أبطاله اليونانيين الضائعين هناك، فيعبر القارة الأوروبية بأكملها، ويعمد إلى استخدام وقائع التاريخ في محاكمة سينمائية، لأنه يُحب أن يُصدِّق أن السينما ستنقذ العالم. [2] فبحسب قوله: "العالم يحتاج إلى السينما الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، وقد يكون الفيلم الشكلَ الهامَّ الأخير من أشكال مقاومة العالم المعطوب، المتدهور، الذي نعيش فيه" [3] . وهو يشترك في هذه الرؤية مع (جان أبستين): "إن الصورة المتحركة تُقدِّم عناصر تمثيلٍ عامٍ للكون، وتنحو إلى إحداث تغيير قليل أو كثير في الفكر كله" [4] . فالصورة عند ثيو، مع كونها عملًا فنيًّا ذا بُعد جمالي، تُعد أحد أشكال تفسير العالم. يتحوَّل الزمنُ إلى غبارٍ حين لا يعود بالإمكان الإمساك به واستعادة ما مضى؛ هكذا تُحْكَى القصةُ على ألسنة شخصيات الفيلم، فثيو يرسم في هذا العمل سيرةً لأوروبا أقربَ إلى الهجاء؛ إذ تتنقَّل مصائرُ شخصياته بين الأحداث الهامة التي وَسَمت أوروبا في تلك الفترة بشقَّيها الشرقي والغربي، وتتوزَّع عبر هاتين الجهتين مُحمَّلةً بذاكرةٍ مريرةٍ وتَصَوّرٍ مُظلمٍ عن المستقبل.

هو المهووس بتاريخ اليونان خاصةً، ثم بتاريخ البلقان في أعماله السابقة، يتعدَّى في هذا العمل حدود الجغرافيا إلى القارة الأوروبية بأكملها، متجاوزًا ما أنتجه من أعمال سابقة، لكنه يُبقي على السمات المميزة لأعماله: تكرارُ أسماءِ الشخصيات الرئيسة، والقطارات، والحشود، واللقطات البعيدة والطويلة، وشعريةُ المشاهد عبر حركة الزمن.

لقطة من فيلم "غبار الزمن (2008)" - ثيو أنغيلوبولوس

غير أنه، من أجل اكتمال قصيدته الهجائية في " غبار الزمن"، يدخل عوالمَ لم يطرقها من قبل؛ إذ يبدأ بالحالة الملحمية والمشاهد ذات البهجة الفولكلورية -كما اعتاد في أعماله السابقة- ثم يُعبِّر عن بؤسٍ شخصيٍّ يعكس بؤسًا عامًا. لا يهجو من خلاله الماضي فقط، بل الحاضر أيضًا، ويقدِّم حالة اليأس عبر اللقطة القريبة قبل تفصيل سِيَرِ شخصياته؛ فالكاميرا لا تزال هي الحكّاء الرئيس في عمله الفني. إنه يحكي مُجملَ تاريخ أوروبا من خلال الصورة في هذا العمل؛ يُقدِّم شخصياتِه وهي تتنقَّل بين الملحمي والشخصي، عابرةً تاريخ أوروبا منذ الخمسينيات بتحولاتها الاجتماعية والسياسية، ثم الهجرة إلى خارجها والعودة إليها آخر القرن كفاتحين لزمنٍ قادمٍ، رغم ضيق المكان وفقدانه لهويته.

يحكي الفيلم مصير أوروبا في تشظيها، من خلال عائلةٍ تجتمع وتتفكك في المعتقلات والمنافي والمدن التي تفقد ذاتها على امتداد الخارطة، فهو يبني شخصياته من خلال الأحداث الرئيسة التي عصفت بالقارة بناءً على معاناة سكانها؛ إذ تبدأ ملامح العمل وتنتهي من خلال شخصية هيلين (إيرين جاكوب)، التي يقدمها كتأريخٍ لكل محن العائلة، فمن يوم وفاة ستالين وحتى اليوم الأخير من القرن الماضي تتحرك الأحداث بخليطٍ من المعاناة والبهجة والتشظي، وكلما اجتمعت العائلة أُعيد رسم مصيرها، حيث تنتقل المعاناة بين أجيال هذه العائلة بوصفها انتقالًا بين أجيال القارة كلها؛ فثيو يُقدِّم في البداية شخصياته عاريةً من أي تفصيل، ثم تنشأ هوياتها تبعًا للمعاناة التي تطالها، غير أن هذه الهوية لا تكتمل في فردٍ بعينه، بل تبقى مُتشظِّية يقتسمها الجميع، باستثناء ياكوبي؛ اليهودي الذي تكتمل هويَّته بمعاناته الخاصِّة، لا بالمعاناة العامَّة وحدها.

يبدأ الفيلم بالتوازي بين الذاكرة والواقع، والانقسام بين هذين الزمنين. يبدأ منذ المشاهد الأولى، فالحاضر يُعطي انطباعًا بالبحث في الماضي، سواء أكان الحدث وقع قبل ساعات قليلة أم قبل نصف قرن. البداية كانت مع سيرةٍ مُتَخَيَّلةٍ عن هيلين وسبيرو: فتاةٌ تقف على الجسر آخر الليل تراقب شابًا يرقص؛ هكذا تحكي هيلين لحظة تعرفها على سبيرو طوال الفيلم. وبينما نراها تلتقيه للمرة الأولى أمام الكاميرا، بكامل هويتها على خشبة المسرح، نحتار في شخصية سبيرو: رجلٌ بلا ملامح ولا هويَّة، يدير لنا ظهره منذ المشهد الأول على قطارٍ يتحرَّك شرقًا صوب الاتحاد السوفييتي، وكل ما نراه منه بعض ملامحه المعكوسة على النوافذ، يُخاطب رجلًا قدَّم له هويةً مصطنعةً وسرية، يتحرَّك القطار فيحمل معه الزمن؛ فحركة القطارات عند ثيو تعبيرٌ عن زمنٍ يمتد بالدقائق وحتى السنوات.

يأخذ إخفاء هوية سبيرو الشكل العام للمعاناة،فغياب الهوية يخفي كثيرًا من جوانبها، وبذا فإنه يحد من الشعور بحجمها والتعاطف معها فعدم اكتمال القصة يجعل للمعاناة شعورًا عرضيًا سرعان ما يزول، إنه يوفر التعاطف مع سبيرو إلى لحظةٍ أخرى فملامحه تظهر والخوف يغمرها لحظة اعتقاله في سيارة الشرطة السرية، فثيو وإن كان يُظهر سبيرو في البداية كشخصٍ منزوع الحيوية، فلا هوية له ولا وجه ولا قصة؛ رغم كونه الشخصية المحركة للأحداث ، فهو يجيء ويختفي في المنافي وكل ما يبقى منه تلك الصورة الشعرية في مخيلة الفتاة وذاكرتها، إلا أنه يصوّر شناعة الاعتقال السياسي في تلك الفترة، حيث تظهر المأساة في المشاهد التالية في المعتقلات السيبرية، في المقابل هناك هيلين وياكوبي (برونو غانز) واللذان تحضر معاناتهما كاملةً، فهما يمثلان المعتقلات السياسية كونها الجانب الأقسى والأبشع في التاريخ الأوروبي، فحين يتم اعتقال هيلين صحبة سبيرو عشية موت ستالين وهما يمارسان الحب في مركبة ترام، ويختفي في المشاهد التالية من العمل بعد ترحيله خارج الاتحاد في مقابل هيلين التي ترمى في المعتقل، ينقل ثيو سبيرو من الشعر إلى الواقع، ثم إلى المخيلة حيث يفتت وجوده تمامًا أمام معاناة هيلين المعتقلة والحبلى ثم الأم في معتقلٍ سيبيري، فتتلاقى مأساتها مع ياكوبي:

5 آذار 1953: (موت ستالين).
27 نيسان 1953 سيبريا : (إدخال هيلين إلى المعتقل).
كانون الثاني 1956: (اعتقال ياكوبي).
كانون الثاني 1956: (إخراج الطفل من المعتقل على قطارٍ صوب موسكو).

لقطة من فيلم "غبار الزمن (2008)" - ثيو أنغيلوبولوس

تتجلى هوية هيلين وياكوبي في المعتقل بأوضح صورها، فالرسائل التي تكتبها هيلين وترسلها مع القطارات غربًا تُحافظ على وجودها، فيما تُروى قصة ياكوبي الذي يعيش ظلًا لها بدافع الحب، وهو يهودي ألماني هرب من النازيين عام 1938 صوب الاتحاد وانتهى به الأمر عاشقًا ومُعتَقلًا. إنهما هوية أوروبا وشكل معاناتها الفجة، بما فيها من تشظٍّ وانقسام ومعاناة خلال الخمسين سنة الأخيرة من تاريخ أوروبا، فالمعتقل السيبيري الذي يُرمَيان فيه يُصوَّر ملاذًا لأشباح العالم، إنه قاع القاع حيث لا يبقى في الإنسان أي أثرٍ إنساني حسب (شالاموف)، [5] فالسجناء في حركتهم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة؛ جموعٌ تسير بآليةٍ دون إحساسٍ بالحياة، وتشكِّل الصورة في المعتقل هجاءً حادًا من خلال انتزاع الحياة من الكائن البشري في حركته اليومية عبر الأدراج. في هذه الأثناء، تحديدًا في كانون الثاني عام 1956، تُرسِل هيلين طفلها الوحيد المولود في المعتقل عبر القطار إلى عائلة ياكوبي، وتتخفَّف من عبء تاريخها وهويتها، فتختفي رسائلها إلى سبيرو وتعيش مع ياكوبي، حتى ينتهي الميراث الستاليني وتفرغ المعتقلات. يصور ثيو لحظة خروج الحشود عبر الحدود، ثم يصورهم من بعيدٍ كبقايا أشباح، ثم يعيد رسم ملامحهم من خلال اللقطات القريبة، فهو يعيد إليهم الحياة في مقابل مشاهد المعتقل؛ رؤوسهم محنية، والصمت والموت يحكم تفاصيل المكان، يسيرون في دربٍ طويلٍ مُظلم، فتفقد اللقطة فاعليتها ودورها الفولكلوري المعتاد في أعماله. يكتمل بؤس الحشود، أو تتحقَّق راحتهم، بالهجرة القادمة. كأن هذه الهجرة هي الهوية الوحيدة التي يمتلكونها، وعليهم أن يختاروا بين الهجرة عبر الأطلسي أو إلى إسرائيل. غير أن هذه الهجرة لبدايتها شكلٌ تمارسه هذه الأشباح المعادة للحياة، فإسرائيل دربٌ سريعٌ لأرضٍ موعودةٍ دون ملامح أو قدرةٍ على التعبير عن الفرح، فتسير الحشود آلياً وسريعاً صوب اليمين، ينتقلون هرباً دون قدرةٍ على التعبير عن الخلاص فهذه الهجرة تمثل ذروة المعاناة عند ثيو، لأنها تعني ما هو أبعد من تفريغ المعتقلات؛ فهناك اختصارٌ للزمن يتضح بالتخلي عما تركوه وراءهم للأبد. ويُقابل هذا المسار عابرون إلى الأطلسي يشاركون في حفلة رقص، حتى غبار الزمن، إذ يتداعى في تلك الحفلة، يُعيد تشكيل الزمن من جديد. وحده ياكوبي من يشارك في الرقص رغم اختلاف الدروب بينه وبين هيلين؛ يرقص بدافع الحب لا الخلاص،

وهذا ما يصوره ثيو على أنه نقيض الهجرة إلى إسرائيل. غير أن هذا النقيض المتمثل في الخروج اليهودي من الكتلة الشرقية إلى النمسا تُكمله وجهةُ ثالثة؛ تتمثَّل في عجوزٍ يرفض الهجرة لأن بلده التي يعرفها هي تلك التي غادرها للتو؛ فالعودة إليها تعني العودة إلى ذاته من خلال الوفاء لموتاه، فقبور أهله التي تركها خلفه هي الهوية الوحيدة التي يعرفها بعد عبور الحدود.

تنتقل الصورة بهيلين عجلى عبر المنافي والبلدان، فهيلين أمام نافذة بيت سبيرو في أميركا، وهيلين تعبر الحدود بين أميركا وكندا لتقابل ابنها، وبين هاتين الصورتين يمتد الزمن مُختَصَرًا، ويعيد ثيو ترتيب الأدوار بين الواقع والذاكرة؛ فالمروي ليس المُعَايَن أمام الكاميرا فقط، بل المحكي على لسان الشخصيات. إن شخصيات ثيو الرئيسة الثلاث (هيلين، وسبيرو، وياكوبي) كلها تُرمِّم من ذاكرتها المشاهدَ التي تجتمع فيها، فالشخصية لا تكتمل دون ماضٍ نعرفه، فالماضي في زمن ثيو السينمائي يأخذ شكلين، أحدهما المعاين من خلال مشهد ممتد وواقعي و/أو من خلال لقطةٍ ممتدةٍ تعبيراً عن أزمنة متعددةٍ داخل المشهد ، والثاني هو الذاكرة التي تتناثر على ألسنة الشخصيات. هكذا يتداعى الزمن على كل شيء في الفيلم، لا فرق جوهري وواضح بين الماضي والواقع، بين الواقع والذاكرة، فكلاهما يأتي مُختلِطًا بالآخر.

لقطة من فيلم "غبار الزمن (2008)" - ثيو أنغيلوبولوس

وحيث: "تتم الحركة هنا بالنزر اليسير من الأشياء والإيماءات عند حدود اللايقين، حيث تتقلص الأجساد إلى ما لا نهاية". [6] تُمثِّل هذه الحركة الحال الأمثل لياكوبي بعد خروجه من المعتقل، فارتحالاته من المعتقل إلى المدن الأوروبية مرورًا بإسرائيل وأميركا، هي الرحلة الأبدية لليهودي الذي لا يجد مصيرًا غير الترحال، فليست رحلة اليهودي تسلية، بل مصيره، حيث تدفعه الريح على الأرصفة فيسير عليها مترنحًا. وبذلك يُقدِّم ثيو الصورة المُثلى لليهودي؛ فهو مرتحلٌ أبديٌ وعابرٌ للثقافات، لا هوية له في المكان ولا هوية للمكان أيضًا. فثيو في هذا العمل يفرغ المدن من هويتها، حيث تختفي عنده اللقطات الطويلة في المدن الحديثة، وبذا يفقد المكان وصفه، ونتيجةً لهذا لا هوية للمدينة، إنه يمزج بين ترنح اليهودي على الأرصفة وبين انعدام هوية المدينة، كما هو الحال في مشاهد المخرج -ابن سبيرو وهيلين- فلا هوية للمكان بوجوده، كلاهما يمثلان الترحال الأبدي، فهو ينتزع الهوية من أماكن وشخصيات ويعطيها أخرى، لكن دون قدرة على الانتماء، إنه التنقل بين سبيرو دون هويته، إلى ابنه وياكوبي في هويتهما المعروفة دون قدرةٍ على الانتماء.

وبينما يلعب ثيو لعبة الهوية هذه بين الشخصيات، يُمارسها تجاه المدن أيضًا، فالمدن الواقعة في الذاكرة لها هويتها وشكلها المكتمل، واللقطة الطويلة في المشاهد التي تمثل تاريخًا تُغطِّي المكان كاملًا؛ ما يُسهم في معرفة تفاصيل المكان. بينما في الأحداث التي تدور في الواقع يُمارس عنفًا تجاه المدينة؛ يُعرِّيها من ذاتها ويدمِّر هويتها باختصار هوية المكان على ساكنيه. هذا الأمر ينطبق على مشاهد ياكوبي وابن سبيرو بالذات؛ لذا كلاهما موجودٌ في مكانٍ هويته الوحيدة اسمه فقط، إذ يُحوّل المدينة رغم حركيتها إلى مكانٍ أشبه بالسجن أو المعتقل الواسع؛ لا دلائل على الحياة فيها سوى ترنح ياكوبي.

لكن في أحيانٍ أخرى يعيد للمدينة روحها وحيويتها باجتماع الشخصيات معًا في مكانٍ واحد، فيصوِّر المدينة عبر الخلل الذي تحياه: برلين العاصمة خليطٌ من المهاجرين واليهود والأعمال الإرهابية، وشبابٌ مُنهمك في القتال والقتل، والمشردين، ومدمني الكحول، والمخدرات في المباني المهجور؛ إنها الصورة البشعة عما آلت إليه المصائر. والصورة التي تُغطِّي ضياع الطفلة هيلين تمر على كل هذه الأشياء، وتُقدِّم ما لا يراد له أن يُرى. تمر الطفلة عبر هذه الأحداث، ثم يُرصَد الإرهابيون فتضيع الطفلة أكثر، يقع القتال بين الفتية فتختفي الطفلة أكثر، تصل حافة الانهيار في المباني المهجورة حيث يرصد أقصى وأقسى انهيارات المجتمع هناك. وبينما يرسم العنف شكل المدينة وهويتها، ينسحب على شخصياته أيضًا، ليكتمل شكل المدينة، وتكتمل قصص شخصياته في ثنايا برلين، فالذاكرة تتحرك في المقاهي والحانات ومحطات المترو، تشحذ هذه الأماكن الذاكرة والمُخيِّلة أيضًا فتكتمل القصة. الحانة تذكر سبيرو بمشهد الزواج، لذا تأتي هيلين في آخر المشهد في شبابها وهو في شيخوخته، حيث تتبدد حدود الزمن ويصير مختلطًا بين الحاضر والذاكرة، والبيت يذكر ياكوبي بمشهد رحيل هيلين بعد المعتقل، فتستعيد مشهد رحيلها الأبدي عنه لإغلاق قصة الحب بينهما. والفندق حيث الجناح الثالث المكسور يمثل انكسار اليوتوبيا وضياع المستقبل

يُقدِّم ثيو شخصية الابن بعمله كمخرج دون اسم طوال العمل، وارتباطه بالأشياء مرتبكٌ تمامًا؛ فلا يكتمل شعوره في أي لحظة، يتأرجح بين الألم والخوف، بطيءٌ في التعبير عن مشاعره حتى في لقائه مع أمه بعد سنوات المعتقل والمنفى، يرى العالم بعدسة ثيو نفسه -وهي اللحظة الوحيدة التي يدخل فيها ثيو بذاته إلى فيلمه- فوقوفه أمام ملاك الجناح الثالث بنبوءته عن المستقبل يقدم الانطباع عن رؤيته القادمة؛ إذ يختفي في اللحظات الهامة للعائلة ويحضر في اللحظات الهامة من تاريخ المدينة وهويتها، وهو الشاهد الوحيد على عملية القتل، والشاهد الوحيد على المشردين. إنه بلا اسمٍ، فهو ملحقٌ بوالديه، نعرفه كابنٍ لهما وأبٍ ومُخرج فقط، وهو الصلة بين هيلين أمه وهيلين ابنته، والشاهد الوحيد على المدينة والشاهد على هويتها، تكتمل هذه الشهادة من خلال حضور الجميع في مشاهد التجول في المدينة، فيتجلى المكان بكل أبعاده وتتداخل التفاصيل الصغيرة مع التفاصيل الكبيرة في المشهد، وتلك هي اللحظة الوحيدة التي تصبح فيها المدينة جزءًا من هويتهم، فنحن لا نراها مكتملةً دونهم. إنها اللحظة التي يقول عنها (باشلار) [7] بأن الكبير مُحتوًى داخل الصغير، بيد أن هذه التفاصيل تختفي في حال حضور المخرج وحده أو ياكوبي؛ فهما يمثلان حالة اختفائها عندما يجوبان المدينة حسب بيرس: [8] شيءٌ عظيمٌ أصمٌ
يجوب العالم بنشوةٍ غامرةٍ
مُتقصيًا فوق الرمالِ
آثار روحي الهائمة.

إنهما يمثلان الجناح الثالث للملاك، حيث لا دلالة واضحةً على الأمل، فالمُخرج هو كل اللحظات القلقة والمفترقات التي تمر بها العائلة وأوروبا، وهو الهَجَّاء الوحيد بحركته الدائمة بين أزقة المدينة ومبانيها المنهارة، وهو المعاناة الملحمية المستمرة في العمل، إنه ما يعطي هذه المعاناة قيمة الخلود حسب (بوتور) [9] وهو الامتداد الطبيعي لكل ما مرَّت به العائلة ومَمَرَّها نحو اليوتوبيا المتمثلة في هيلين الصغيرة، كما أنه مع موت أمه ينتقل إلى المعاناة بشكلها الشخصي عندما تنتقل بقية الشخصيات من الواقع إلى المخيلة والذاكرة، ويشترك بعد موت هيلين مع ياكوبي بحالة الضلال في العالم؛ إنهما شكل اليوم الأخير عند (سيفريس) شاعر ثيو المفضل: اليوم ملبدٌ بالغيوم، لا أحد قادرٌ على اتخاذ قرار
كانت النسمات خفيفةً، وسمع من يقول: هذه ليست من الجنوب، بل من الشمال تهب
أشجار سروٍ نحيلةٌ على السفح، خلفها البحر رمادي اللون
هذه ليست من الجنوب بل من الشمال تهب
كان هذا القرار الوحيد الذي سمع، ومع ذلك كنا نعرفُ
أنه لن يبقى لنا شيءٌ فجر اليوم التالي
لا المرأة التي ترشف النوم بالقرب منا
ولا حتى من سيذكر أننا كنا يومًا رجالًا
ما من شيءٍ سيبقى في فجر اليوم التالي. [10] لذا ينتحر ياكوبي في النهر، ويتحول المُخرج إلى راوٍ يربط بين الموت والحياة، بين المخيلة التي تواجه المستقبل والذاكرة، وتلك هي اللحظة التي يركض فيها الجد سبيرو مُمسكًا بكف هيلين الصغيرة عشية القرن القادم. يتحول الزمن عند ثيو إلى كائن مدرك ومحاصر داخل المشهد؛ يتحرك عبر تراكم الشخصية من خلال حضورها في الزمن الممتد. يبدأ الزمن عنده من الآن لينتقل إلى الماضي، ثم يعود ويتحرك بشكله الطبيعي صوب المستقبل. وحركة الزمن المحسوسة هذه أساس شعرية سينما ثيو؛ فهي تُلغي أي عائقٍ بين الشعور والتعبير حسب (سولير)، لذا ينتحر ياكوبي في النهر، ويتحول المُخرج إلى راوٍ يربط بين الموت والحياة، بين المخيلة التي تواجه المستقبل والذاكرة، وتلك هي اللحظة التي يركض فيها الجد سبيرو مُمسكًا بكف هيلين الصغيرة عشية القرن القادم. يتحول الزمن عند ثيو إلى كائن مدرك ومحاصر داخل المشهد؛ يتحرك عبر تراكم الشخصية من خلال حضورها في الزمن الممتد. يبدأ الزمن عنده من الآن لينتقل إلى الماضي، ثم يعود ويتحرك بشكله الطبيعي صوب المستقبل. وحركة الزمن المحسوسة هذه أساس شعرية سينما ثيو؛ فهي تُلغي أي عائقٍ بين الشعور والتعبير حسب (سولير)، [11] فما تفعله كاميرا ثيو هو تكثيف زمن اللحظة وكذلك تكثيف شخصياته، وكلاهما محملٌ بالذاكرة وتأمل الواقع. إن لحظته السينمائية تشبه لحظة الإنسان التي يعيشها أمام ذاته خارج الكاميرا، فالكاميرا حاضرةٌ في المشاهد الطويلة، [12] لكن في المقابل تنحسر هذه الشعرية في مشاهد المُخرج وحيدًا، فيبدو الزمن سريعًا والصورة عَجْلى؛ لتعبِّر عن واقعٍ يلهث ناحية المستقبل. والجانب التوثيقي يظهر ليُقدِّم المكان بكل أشكال الحياة فيه. وباستثناء مشاهده مع عائلته، يتكشف الشعر من خلال التأمل أحيانًا والذاكرة أحيانًا أخرى، حيث تقوم الكاميرا بسعيها للوصول إلى الشعرية عبر استغلال العالم المحيط؛ لبناء ما يمكن تسميته بالقصيدة. تقتصر هذه الكثافة على اللقطات الطويلة، وكذلك مشاهد البورتوريه التي يصورها لشخصياته المحملة بالعودة إلى الماضي عبر الذاكرة. فمثلًا: سبيرو في الحانة يعيد ترتيب مشهد زفافه غير المُصَوَّر من خلال لحظات القلق التي تؤرجحه بين الذاكرة الحقيقية والمتخيلة، فما يحدث خارج الكاميرا هو في خانة الاحتمال والتأويل أيضًا، فـثيو يترك أعماله كلها مفتوحة على التأويل والاحتمالات من خلال ما لا يحدث أمام الكاميرا، وهذا محوريٌّ في أعماله. وربما هذه هي مهمة السينما عنده؛ أن تُبقي باب التأويلات مفتوحًا.




المراجع

[1] جورج سيفريس: قصيدة حكاية، الأعمال الكاملة، عن المركز القومي للترجمة.
[2] عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي: ترجمة وإعداد أمين صالح
[3]
نفس المصدر
[4] قاموس فكر السينما: إشراف أنطوان دي بيك وفيليب شاليه. هيئة البحرين للثقافة والآثار. ط1 2022ز ت: إبراهيم العريس
[5] فارلام شالاموف 1907 -1982 شاعر وقاص سوفييتي اعتقل لسنوات طويلة في جزيرة كوليما، أشهر أعماله قصص كوليما توفي في مشفى للأمراض العقلية.
[6] رشيد بو جدرة: خمس شذرات من الصحراء، كتابات معاصرة العدد 87
[7] جماليات المكان: غاستون باشلار، ت: غالب هلسا.
[8] سان جون بيرس 1887 – 1975 : شاعر فرنسي حائز على جائزة نوبل، من قصيدته منفى.
[9] ميشيل بوتور الأفراد والجماعات في الرواية 1964
[10] جورج سيفريس: قصيدة اليوم الأخير، الأعمال الكاملة، عن المركز القومي للترجمة.
[11] شانتال لابر وبياتريس سولير: قاموس الشعرية. دار الرافدين ط1 2021
[12] ستيورات لايبمان: التفكير من خلال السينما أفلام جان أبستين.