شارك
يتناول هذا النص إمكانات الأرشيف السمعي البصري الرقمي بوصفه فضاءً قادرًا على ردم الفجوات المعرفية بين الأجيال في المجتمع السعودي، خاصةً عبر المنصات الرقمية. ليس من خلال جمع التسجيلات والصور والأفلام فحسب، بل عبر إعادة صياغة العلاقة بين الماضي والحاضر، واستثمار قدرة الأرشيفات السمعية البصرية الرقمية على إتاحة الوصول إلى المعرفة وتداولها من خلال وسائط تُرى وتُسمع وتتفاعل معها في آنٍ واحد.
يُطرح في هذا السياق سؤالٌ جوهريٌّ من خلال مبادراتٍ فردية ومؤسسية تتناول الأرشيف السمعي البصري، يكشف خلالها الأرشيف ككائنٍ حيٍّ يتحرّك ويتحوّل، ويُسهم في إنتاج سردياتٍ جديدة حول مفهوم الغياب كجزءٍ من الذاكرة: كيف يمكن للفراغ أو الصمت أن يتحوّل إلى مادة تكشف عمّا لم يُقل أو لم يُوثّق من خلال الصورة والصوت معًا؟ وكيف تُمكّن هذه الفجوات المجهودَ الجماعيّ من التحوّل عبر الذاكرة والتفاعل معها؟
تحديد المفهوم والسياق
قبل التعمّق في التجارب التطبيقية، من الضروري تحديد المقصود بمفهوم «الأرشيف». يستند هذا التصوّر إلى أطروحة جاك دريدا في كتابه حمّى الأرشيف، الذي يقدّم الأرشيف بوصفه فضاءً تحكمه الرغبة والسلطة والحنين، لا مجرد نظامٍ للحفظ. وقد أثّرت هذه الرؤية في المقاربة النظرية للأرشفة، خصوصًا عند التعامل مع المواد السمعية والبصرية الرقمية في سياق المجتمع السعودي.
تشكل قيمُ «الرغبة والسلطة والحنين» كثيرًا من الدوافع الثقافية في هذه المرحلة من التحوّل في الذاكرة السعودية، حيث تعمل بشكلٍ مباشر وعلى نحوٍ هيكلي على ملء الفجوات المعرفية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وكيف تتجسّد هذه القيم عبر الصوت والصورة.
نرى مثالًا حيًّا على ذلك في منصة وميض للأنثروبولوجيا البصرية التي تديرها (غادة المهنا)، حيث تتناول الصور والأفلام القديمة للجزيرة العربية من خلال عدسات المستشرقين بهدف استعادة الذاكرة من منظورٍ سعودي، مع إضافة عنصرٍ أساسيٍّ هو التفاعل مع الجمهور. تتعامل غادة المهنا ومتابعو منصتها مع هذه المواد بدافع ورغبةٍ في استعادة سلطة السرد البصري إلى أهله.
تُطرح هنا إشكالية الأرشيف في المملكة من زاويةٍ مختلفة؛ فظهور الأرشيفات المؤسسية في الوقت الراهن لا ينبع من فراغٍ، بل من الرغبة في تحدي السرد الخارجي بعددٍ هائل من المحتوى السمعي البصري المحلي، الذي كثيرًا ما ينبع من فخرٍ وفضولٍ لبناء رؤيةٍ وهويةٍ جديدتين دون مسارٍ مؤسسيٍّ تقليدي.
على هذا النهج، يمتلك العديد من المثقفين والهواة أرشيفاتٍ غنيّة تحوي صورًا وأشرطةً وذكرياتٍ متخصصة في مجالاتٍ متعدّدة، كثيرًا ما تُشارك في أنديةٍ ومنصّاتٍ رقميةٍ بشكلٍ شخصيٍّ وتفاعليٍّ، مما يميز الذاكرة السعودية والأرشيف المحلي عن غيره من الأرشيفات العالمية، وفي الوقت نفسه يدعم التوجّه الرسمي لاسترجاع ودعم الصوت والأرشفة الشعبية. ومن أبرز الأمثلة، مجموعة (صفية بن زقر) التي أسست أرشيفًا بصريًا وثقافيًا من مقتنياتها الشخصية منذ سبعينيات القرن العشرين، تحوّلت لاحقًا إلى دارة صفية بن زقر التي تُعَدّ من أوائل المبادرات المؤسسية لحفظ التراث البصري والاجتماعي في المملكة.
كما يُمثّل أرشيف الدكتور (سعد الهويدي) مثالًا محوريًا على هذا التحوّل؛ إذ تضم مجموعته الواسعة تسجيلاتٍ إذاعية وموسيقية ومطبوعاتٍ إعلامية أسهمت في تمكين تنظيم أول معرضٍ أرشيفي موسيقي في المملكة، تلاه بعد عامٍ افتتاح متحف (طارق عبد الحكيم) بوصفه أول مؤسسة تُعنى بتوثيق الإرث الموسيقي الوطني.
تمثّل هذه النماذج التحوّل من الأرشيف الفردي إلى المؤسسي، ومن الوثيقة الورقية إلى الذاكرة السمعية البصرية التي توثّق التجربة المعاشة بالصوت والصورة.
تتقاطع هذه النماذج مع مبادرات فنية أخرى، نشأت من أرشيفاتٍ خاصة وتحولت إلى كياناتٍ مؤسسية، مثل أرشيف غاليري أثر الذي انطلق من مقتنياتٍ شخصيةٍ وأُقيم من خلاله أول معرضٍ لفنّ الفيديو السعودي عام 2019.
تكمن الفجوة الحقيقية إذًا لا في نقص المواد أو الجهود الفردية، بل في غياب الوساطة والتنظيم؛ أي في كيفية تحويل هذه الذاكرة الفردية إلى سردٍ عامٍ مشتركٍ يتيح التفاعل والتداول، ويُسهم في بناء تاريخٍ ثقافيٍّ متكاملٍ تتقاطع فيه المبادرات الشخصية مع الأطر المؤسسية الناشئة.
من هذا المنطلق، يُنظر إلى الأرشيف السمعي البصري الرقمي بوصفه أداةً قادرة على ردم هذه الفجوات، بجعل المعرفة مرئيةً ومسموعةً ومُلاحَظة والأهم: تنظيمها بطريقة تثير الحوار والنقاش. فالفضاء الرقمي أصبح أحد أكثر الساحات تأثيرًا في تشكيل الوعي الجمعي؛ إذ تشير التقارير الحديثة إلى أن المستخدمين في المملكة يقضون أكثر من ثماني ساعاتٍ يوميًا على الإنترنت، ما يجعل الشبكة وسيطًا مركزيًا لإعادة اكتشاف الذات والثقافة.
من الفجوة إلى الصوت الجمعي
برزت الحاجة إلى الأرشفة المؤسسية الحديثة في لحظةٍ اتّضحت فيها الفجوة المعرفية داخل تاريخ الفن السعودي. ففي عام 2019، أطلق غاليري أثر مبادرةً بحثية تمثّلت في معرض «صورة زمنية: فن الفيديو في السعودية»، الذي مثّل أول محاولةٍ لتأريخ هذا الفن ضمن إطارٍ مؤسسيٍّ محلي.
تكشف دراسة فن الفيديو عن الأرشيف السمعي البصري كمساحةٍ مزدوجة: فهو في آنٍ واحدٍ وثيقةٌ فنية ووسيطٌ أرشيفيٌّ حيٌّ يعيد صياغة الزمن والذاكرة بالصوت والصورة. من خلال هذا المشروع، برزت فكرة الصوت الجمعي البصري كإحدى أهم نتائج الأرشفة المعاصرة. فالأعمال التي شملها المعرض — من تجارب فيصل سمرة، والدكتورة عبير الفتني، والدكتورة عفت فدعق، وغيرهم — أظهرت كيف شكّلت الممارسات الفردية للتعبير عبر الفيديو شبكةً سرديةً متقاطعةً تكشف عن تحوّلات المجتمع والذات.
هذا «الصوت الجمعي» لم يكن محصلةً لمجهود مجموعة أفرادٍ فحسب، بل نتاجًا لمجالٍ سمعيٍّ بصريٍّ مشترك، حيث يتقاطع الفني والاجتماعي والرقمي ضمن سردٍ متعدد الطبقات.
ساهمت الأرشفة في هذا السياق في إعادة بناء المشهد الفني كمنظومةٍ من العلاقات والممارسات، لا كمجموعة أعمالٍ متفرّقة. فقد أتاح العمل الأرشيفي للمشاركين والباحثين معًا استعادة سردٍ مفقودٍ وتوثيقه عبر وسائطٍ متعددة، مما جعل المعرض نموذجًا لإمكانات الأرشيف في بناء الذاكرة الجماعية من خلال الصورة المتحركة والصوت والزمان.
الأرشيف الرقمي والذاكرة اللامادية
مع تطور الممارسات الفنية والتقنية في العقد الأخير، توسّع الاهتمام بالأرشيف السمعي البصري الرقمي كأداةٍ لإعادة تفعيل الذاكرة اللامادية، الذاكرة التي تتجسّد في الصوت والحركة والأداء أكثر من الوثيقة المكتوبة.
اعتمدت هذه المشاريع على تقنيات البحث الرقمي واستثمار المنصّات المفتوحة كمصادرٍ معرفية، ما جعل الإنترنت نفسه يُفهم كأرشيفٍ شعبيٍّ متحرّكٍ ومتغيّرٍ باستمرار. هنا تحوّلت الأرشفة إلى فعلٍ جماعيٍّ مشاع، يتشارك فيه الفنانون والباحثون والجمهور على حدٍّ سواء.
ومن بين هذه التجارب، يمكن الإشارة إلى قنوات يوتيوب سعودية المحتوى، مثل قناة (سمير الضامر) المهتمة بتوثيق الفنون والآداب الشعبية، وإمكانية الاستفادة من هذه القناة كأرشيفٍ رقميٍّ بوصفها أداةً لتقصّي الذاكرة في السعودية، بالتفاعل والحوار بين المواد السمعية البصرية والمتخصصين. ورغم طابعها البحثي والفني، إلا أن أهميتها تكمن في اعتمادها على الحوار والتفاعل لتوثيق المعرفة في فضاءٍ يسترجعه المتلقي في أيّ وقتٍ ممكن ويتفاعل معه بسلاسة، مما جعلها مثالًا على تحوّل الجهود الفردية إلى ممارسةٍ رقميةٍ تشاركية تتقاطع فيها الخبرة الشخصية مع المعرفة الجماعية.
نحو أرشفة المستقبل
إن الذاكرة اللامادية لا تُعدّ مجالًا موازيًا للأرشيف المادي فحسب، بل امتدادًا حيًا له. هذا الامتداد أصبح أكثر حضورًا مع التحوّل الرقمي الذي أتاح للثقافة السعودية أن تُعاد قراءتها من خلال الصوت والحركة والوسائط المتعددة.
لم تعد الأرشفة مجرّد إنقاذٍ للوثائق القديمة، بل باتت فهمًا لإيقاع الحياة نفسها: كيف يتحرّك الناس، كيف يتذكّرون، وكيف يعبّرون عن أنفسهم. وبهذا المعنى، يُصبح الأرشيف السمعي البصري الرقمي جسرًا بين الأجيال والزمن، بين الأرشيف المادي الجامد والذاكرة المتجددة التي تنبض في الصورة والصوت مجسِّدَينِ للذاكرة.
الأرشيف السمعي البصري، في صورته الجديدة، ليس مشروعًا تقنيًا فحسب، بل رحلةً فكريةً وجماليةً لإعادة تخيّل الهوية والذاكرة السعودية، هو بمثابة مساحة للإصغاء لما هو عابرٌ وغير مُوثّق، كما أنه مختبرٌ لإعادة إنتاج العلاقة بين الحفظ والخيال.
المراجع
- دريدا، جاك. "حُمّى الأرشيف: انطباع فرويدي". ترجمة عن الطبعة الإنجليزية. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 1995.
- الدغيثر، تارا. "صورة زمنية: لمحة عامة لفن الفيديو في المملكة العربية السعودية". جدة: غاليري أثر، 2019.
- هاراوي، دونا. "المعارف المتموضّعة: سؤال العلم في النسوية وامتياز المنظور الجزئي". دراسات نسوية، المجلد 14، العدد 3 (1988).
- كتيّب معرض طرق الجزيرة العربية. "طرق الجزيرة العربية: آثار وتاريخ المملكة العربية السعودية". واشنطن العاصمة: متحف سميثسونيان والهيئة العامة للسياحة والآثار، 2012.
- الهيئة العامة للإحصاء. "مؤشرات استخدام الإنترنت في المملكة العربية السعودية لعام 2024". الرياض: الهيئة العامة للإحصاء، 2024.
References
- Derrida, Jacques. Archive Fever: A Freudian Impression. Translated by Eric Prenowitz. Chicago: University of Chicago Press, 1995.
- Aldughaither, Tara. Durational Portrait: A Brief Overview of Video Art in Saudi Arabia. Jeddah: Athr Gallery, 2019.
- Haraway, Donna. “Situated Knowledges: The Science Question in Feminism and the Privilege of Partial Perspective.” Feminist Studies 14, no. 3 (1988): 575–599.
- Himyari, Nouf. “Embodied Digital Memory among Saudi Women: Performance, Negotiation, and Platform.” PhD diss., University College London, 2024.
- Smithsonian Institution and Saudi Commission for Tourism and Antiquities. Roads of Arabia: Archaeology and History of the Kingdom of Saudi Arabia. Washington, DC: Smithsonian Institution, 2012.
- General Authority for Statistics (Saudi Arabia). Internet Usage Indicators in Saudi Arabia, 2024. Riyadh: General Authority for Statistics, 2024.
