عودة

أفلام اليوم الوطني: ذاكرة بصرية وهوية متجددة الوطن كقصيدة بصرية


هند السليمان

22/09/2025

تحوّل اليوم الوطني السعودي في العقدين الأخيرين من مناسبة رسمية محدودة إلى حدث بصري وثقافي واسع النطاق، تتسابق فيه المؤسسات والشركات والجهات الحكومية وحتى الأفراد لإنتاج أفلام قصيرة وفيديوهات تُبث وتُتَداول بشكل مكثف عبر منصات التواصل الاجتماعي. هذا التحول لم يكن حاضراً في السابق، حيث كان الخطاب الوطني مركزاً من خلال القنوات الرسمية، لكنه اليوم بات مشتركاً ومتعدد المصادر، بحيث يصعب التمييز بين الأفلام والفيديوهات الرسمية والشعبية أو بين المؤسسي والفردي. ومع هذا التعدد، أخذت هذه الأفلام والفيديوهات طابعاً جديداً يمزج بين الرموز التاريخية والوسائط الرقمية الحديثة، رغبة في إعادة تقديم الماضي بروح معاصرة. فهي لا تقتصر على استحضار صور التراث أو الأزياء الشعبية أو البيوت الطينية، بل تعيد صياغتها بتقنيات سينمائية ورؤى بصرية لافتة تمنحها حضوراً يتلاءم مع متطلبات الحاضر، وتمنح المواطن شعوراً بالارتباط بالجذور من خلال لغة بصرية يفهمها ويستطيع التفاعل والتماهي معها.

هذا يقودنا إلى فكرة "الذاكرة الجمعية" عند موريس هالبفاكس، الذي يرى أن المجتمعات لا تتذكر الماضي كما هو، بل تعيد بناءه باستمرار بما يتناسب مع حاجاتها الراهنة. والأفلام الوطنية لا تقدم التاريخ بصورته الكاملة، بل تختار منه ما ينسجم مع اللحظة وتعيد صياغته كذاكرة جمعية مشتركة تربط الحاضر بالماضي. وبذات المفهوم يقترح بول كونرتون أن المجتمعات تتناول ذاكرتها عبر الاحتفال الموسمي، من هنا يعد الاحتفال وسيلة لاستحضار الماضي وتثبيته في الوجدان. وفي عصرنا الراهن، حيث أصبحت الاحتفالات في معظمها تأخذ شكلاً بصرياً ورقمياً، تقوم الأفلام والفيديوهات التي تُبث في اليوم الوطني بالدور نفسه، فهي تعيد إنتاج الماضي عبر الصورة والموسيقى، وتمنحه حياة جديدة في الحاضر، بحيث يصبح كل يوم وطني مناسبة لإعادة بناء الذاكرة الجمعية من خلال وسائط بصرية وفنية حديثة.

من هنا نفهم ما أشار إليه كليفورد غيرتز (2009) بـ "الوصف الكثيف" (thick description)، أي أن العلامات الصغيرة التي قد تبدو عابرة تتحول في سياق الممارسات الرمزية إلى رموز ثقافية مشبعة بالمعنى. صورة عابرة لزي شعبي، أو طفل يرفع العلم، أو حركة جماعية راقصة، كلها تتجاوز معناها المباشر لتصبح علامات رمزية تحمل هوية الأمة كلها. وهذه التفاصيل ليست مجرد لقطات جمالية، بل مفاتيح لفهم الأسلوب الذي يُعاد من خلاله بناء فكرة الوطن في المخيلة الجمعية، عبر عناصر بصرية وجمالية، تتراكم وتتشابك لتنتج صورة رمزية للهوية الوطنية.

وهذا يتوافق مع ما طرحه بندكت أندرسون (2014) في مفهومه عن "الجماعة المتخيلة"، حيث الأمة ليست جماعة يجتمع أفرادها وجهاً لوجه فقط، بل جماعة تُبنى على أساس رموز وصور يتقاسمها الناس ويشعرون عبرها بالانتماء. المواطن الذي يشاهد فيديو وطني في جدة يتشارك اللحظة نفسها مع مواطن في تبوك آخر في جيزان، رغم أنهم لا يعرفون بعضهم بشكل شخصي. الوسيط الرقمي هنا لا ينقل فقط صورة الوطن، بل يخلق رابطاً وجدانياً يتجاوز حدود المكان والزمان، ويمنح الأفراد شعوراً بأنهم جزء من كلٍّ أكبر هو الوطن.

وعند هذه النقطة يبرز منظور فيكتور تيرنر بوصفه مدخلاً مهماً لفهم هذه الظاهرة. تيرنر يرى أن الممارسات الرمزية تخلق ما سماه "المجتمعية" (communitas)، وهي حالة وجدانية خاصة تنشأ حين يذوب الأفراد في جماعة واحدة متساوية، متحررين من الفوارق الاجتماعية. في لحظة الممارسة الرمزية، يدخل الناس في مرحلة (liminality) من خلال عتبة انتقالية يعلّقون فيها هوياتهم الفردية ليذوبوا في هوية جمعية أكبر. هذه اللحظة العابرة تُنتج شعوراً عميقاً بالتقارب والتلاحم، ربما لا يتحقق في الحياة اليومية. وعند إسقاط هذا المفهوم على اليوم الوطني، نجد أن الأفلام الوطنية وما يرافقها من ممارسات مثل ارتداء الأزياء التراثية، ورفع الأعلام، ومشاركة الصور، تخلق حالة مشابهة، فالمواطن في الرياض، والآخر في الأحساء، والثالث في نجران، قد يعيشون ظروفاً مختلفة، لكنهم حين يشاهدون الفيلم نفسه ويتشاركونه فيما بينهم، يذوب تمايزهم وينصهرون في شعور جمعي واحد هو الانتماء للوطن. إنها لحظة "مجتمعية" ورقمية يتجاوز فيها الأفراد اختلافاتهم ويشعرون أنهم شركاء في التجربة والانتماء.

وما يضاعف أثر هذه التجربة هو ما يمكن وصفه بـ "الحيوية الجمعية" (collective effervescence) (دوركهايم، 2019)، أي تلك الطاقة العاطفية التي تنشأ عندما يلتف الأفراد حول رمز مشترك. كان هذا الشعور في الماضي يرتبط غالباً بالتجمعات والاحتفالات المباشرة، أما اليوم فنراه انتقل إلى الفضاء الرقمي. كثافة الصور والأفلام التي تُبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال اليوم الوطني تمثل شكلاً معاصراً من هذا التفاعل الوجداني؛ فالمواطن حين يشاهد عشرات الصور المصممة بعناية فنية وبصرية في وقت قصير، يدخل في تيار عاطفي يتضاعف أثره مع كل إعادة نشر أو مشاركة. هذه الكثافة البصرية تعمل كمحفّز جمعي للشعور، حيث تتحول اللقطات المتكررة لرفع الأعلام أو الأطفال بملابسهم التراثية أو المدن المضيئة إلى شحنات رمزية تغذي الفخر والانتماء. ومع التكرار السنوي، تتحول اللحظة العابرة إلى ذاكرة جمعية يتقاسمها الأفراد، لتصبح وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً احتفالياً تتجدد فيه الحيوية المجتمعية، لا عبر اللقاءات المباشرة فقط، بل عبر الصور المتداولة بكثافة وانتظام.

لا يقتصر تأثير هذه المشاهد على إثارة الشعور الفردي بالفخر، بل يمتد ليأخذ شكل أداء جماعي للهوية، بالمعنى الذي طرحه إرفنغ غوفمان. فالمواطن حين يرى آخرين يرتدون الزي الوطني أو يشاركون الأناشيد، يُستثار داخله رغبة في الانضمام إلى هذا الأداء ومشاركته. وهذا لا ينقل المشاعر فحسب، بل يعيد تمثيل رموز الهوية في فضاء مجتمعي واسع النطاق، حيث تتوالد سلسلة من الممارسات التي تعيد إنتاج المشهد الوطني في فضاءات متعددة. ويتقاطع هذا مع ما وصفته زيزا باباكاريسي بـ "الجماهير الوجدانية" (affective publics)، أي الجماهير التي تتشكل حول تدفقات وجدانية مشتركة أكثر من تشكلها حول اتفاقات ثقافية أو اجتماعية. وفي اليوم الوطني، يتحلق جمهور واسع حول مشاعر الفخر والهوية، حيث تصبح الصور والأفلام بمثابة إشارات وجدانية تُشعل موجات من التفاعل. هذه الجماهير لا تجتمع بالضرورة في الساحات، بل في الفضاءات الرقمية أيضاً، لكنها تنتج أثراً حقيقياً يعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع والوطن.

اليوم الوطني السعودي ومن خلال هذه الأفلام، لم يعد مجرد مناسبة رسمية فقط، بل تحول إلى ممارسة مجتمعية معاصرة تعكس كيف يمكن للممارسات الرمزية أن تُعاد صياغتها بوسائط جديدة. وكأنه تقليد حضاري يعيد بناء الذاكرة المجتمعية، ويوظف الرموز الصغيرة في وصف كثيف، ويخلق جماعة متفاعلة من خلال الصورة الفنية والجمالية، التي تضيف الحيوية المجتمعية في الفضاء الرقمي، وتفعل جانب انتقال المشاعر، كل ذلك يحوّل التجارب الفردية إلى تيارات وجدانية، ويعيد إنتاج الهوية عبر أداءات متكررة. إنه احتفال يتجاوز اللحظة ليصبح احتفالاً بصرياً متجدّداً، يغرس في الوجدان عاماً بعد عام إحساساً بالوطن كقصيدة حية مكتوبة بلغة الصورة والتعبير الفني.

بعد استعراض المفاهيم والتصورات النظرية المتعلقة ببناء الهوية الوطنية وتمثلها في الاحتفالات المجتمعية، يصبح من الضروري اختبار هذه الأفكار في سياق عملي ملموس. ويتحقق ذلك من خلال تأمل وتحليل عدد من الفيديوهات التي أنجزتها مؤسسات سعودية في الأعوام الأخيرة، والتي شكّلت احتفالات بصرية حديثة، أعادت صياغة طرائق التعبير عن الانتماء والفخر بالهوية الوطنية. وهذه الأعمال، على تنوّع أساليبها البصرية ورموزها التعبيرية، تشترك في سعيها إلى ترسيخ الشعور الوطني عبر وسائط الصوت والصورة، وتحويل الانفعال الفردي إلى تجربة مجتمعية مفعمة بالبهجة والفرح. وما يمنحها قوة مضاعفة أنّها تجاوزت حدود العرض الفني لتنتشر على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث حقق بعضها ملايين المشاهدات، بما يعزّز أثرها الرمزي والنفسي ويجعلها أكثر قدرة على تشكيل المخيلة الجمعية. وهذا ما سنحاول تتبعه في قراءة تطبيقية سريعة لعدد من هذه الأعمال.

المشترك بين هذه الفيديوهات يتمثل في بنيتها الرمزية القائمة على ثنائية الماضي والحاضر، واستدعاء الأرض والتاريخ والجماعة والضوء كرموز محورية. إنها نصوص بصرية تتقاطع في أهدافها لكنها تختلف في أسلوبها الجمالي والوجداني.

في فيلم "شواهد العز" [1] مثلاً، من إنتاج أرامكو وبنسبة مشاهدة تتجاوز الإحدى عشر مليون، يقدّم مثالاً على التوظيف المكثف للجماليات البصرية والموسيقية لبناء سردية تأسيسية متسلسلة منذ زمن المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- إلى الحاضر. الموسيقى الأوركسترالية الممزوجة بإيقاعات محلية، واللقطات الجوية الواسعة، تجعل من الفيلم قصيدة بصرية تحتفي بالاستمرار والنماء. الثيم المركزي هو تراكم "الشواهد" التي تبرهن على صلابة الهوية، وذلك ليحقق وظيفة نفسية تتمثل في بث شعور جمعي بالثبات والاعتزاز. وهو ما يكشفه حجم عدد مشاهداته، مما يعكس حضوره كاحتفال بصري جمعي.

أما فيلم "من ثراها [2] " ، من إنتاج شركة أرامكو أيضاً، وبنسبة مشاهدة تتجاوز المليونين، فالأرض تحوّلت إلى بطل رمزي عبر الصور الذهبية واللقطات الطبيعية المغمورة بالضوء الدافئ بما يرمز إلى العطاء والخصوبة، فيما يجعل النص الغنائي "من الثرى" استعارة للجذور التي لا تنفصل عن المواطن. الوظيفة النفسية هنا هي تثبيت شعور الانتماء إلى أرض ثابتة وسط تحولات اجتماعية واقتصادية متسارعة، ما يمنح المواطن شعوراً بالأمان والاستقرار.

وفي المقابل، يذهب فيلم "عيالي فداها" ، [3] من إنتاج وزارة الحرس الوطني وبنسبة مشاهدة تقارب المليون مشاهد، نحو بعد وجداني أكثر درامية. ويتمثل ذلك في الإضاءة المعتمة في مشاهد الأم، والموسيقى الشجية، واللقطات القريبة التي تبرز تعابير الوجه، لتؤكد ثيمة الفداء والتضحية. وهذا يخدم وظيفة نفسية تكمن في تحويل الفقد الفردي إلى فداء جمعي، حيث يتحول الحزن الخاص إلى سردية تبرز قيمة التضامن الوطني.

أما فيلم "ستبقى ما بقي الضياء" ، [4] " ، من إنتاج شركة مايسترو بيتزا وبنسبة مشاهدة تقترب من ثلاثة ملايين، فيعتمد على شخصية فردية وأداء تمثيلي مكثف ليجعل الضوء استعارة للاستمرارية والأمل. الجمالية ترتكز على التباين بين العتمة والنور، وعلى أداء صوتي وعاطفي يُعلي من الإحساس بالتماهي. الثيم المركزي هو بقاء الهوية ما دام هناك ضوء، أما الوظيفة النفسية فهي إرساء الطمأنينة وتثبيت الإحساس بأن الوطن متجدد دائماً وأبداً.

ما يجمع هذه الأعمال كنماذج عن أفلام وفيديوهات احتفالية اليوم الوطني أنها ليست مجرد إنتاجات دعائية، بل نصوصاً بصرية تُعيد إنتاج الأمة كمجتمع وجداني متجانس ومتفاعل من خلال الوسيط الحديث. تعكس هذه الأفلام مظاهر احتفالية حديثة تُعاد صياغتها بوسائط جديدة، وتُظهر التوتر الصحي والخلّاق بين المحدودية والتنوع، وتُبرز جمالية الفوارق المحلية في الأزياء واللهجات والوجوه، وتُذيبها تحت مظلة الوطن الكبيرة والحاضنة. وبهذا تؤدي دوراً مزدوجاً، جمالي يترجم الهوية إلى صورة، ونفسي يعيد إنتاج الأفكار المجتمعية التي تعبر عن التضامن والانتماء. وهكذا، يتحول اليوم الوطني إلى احتفالية رقمية متجددة، تُمارس مرة كل عام، لكنها تترك أثراً ممتداً في تشكيل "الشخصية الوطنية" بمرور الزمن، فيصبح الوطن نفسه قصيدة بصرية حيّة تُكتب بلغة الضوء والصورة، كما يكشف الوصف الكثيف لهذه الأعمال عن طبقات رمزية تمتد من الخاص إلى الجمعي ومن اللحظة العابرة إلى المخيلة الممتدة بامتداد الوطن.




المراجع

الكتب
• أندرسن، بندكت (2014). الجماعات المتخيَّلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها. ترجمة: ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. قطر.
• دوركايم، إميل (2019). الأشكال الأولية للحياة الدينية: المنظومة الطوطمية في أستراليا. ترجمة: رندة بعث، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. قطر.
• غيرتز، كليفورد (2009). تأويل الثقافات. ترجمه محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة. لبنان.
• هوبزباوم، ايريك ورينجر، تيرينس (2013). اختراع التقاليد ــ دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها. ترجمة احمد لطفي، هيئة ابوظبى للسياحة والثقافة/دار الكتب الوطنية. الامارات العربية المتحدة.
• Hatfield, E., Cacioppo, J. T., & Rapson, R. L. (1994). Emotional contagion. Cambridge University Press.
الأفلام

[1] أرامكو (2023) شواهد العز، اليوم الوطني 93. https://www.youtube.com/watch?v=hTglWWF8qX0&list=RDhTglWWF8qX0&start_radio=1
[2] أرامكو (2024) من ثراها، اليوم الوطني 94. https://www.youtube.com/watch?v=O2iEAzzLXns&list=RDO2iEAzzLXns&start_radio=1
[3] وزارة الحرس الوطني (2023) عيالي فداها، اليوم الوطني 93. https://www.youtube.com/watch?v=hP9mc4G5XJQ&list=RDhP9mc4G5XJQ&start_radio=1
[4] مايسترو بيتزا (2023) ستبقى ما بقي الضياء، اليوم الوطني 93. https://www.youtube.com/watch?v=dwF2QEwcwWo&list=RDdwF2QEwcwWo&start_radio=1