عودة

دي سيتا وسينما الثقافة المتلاشية


رشيد الحميدي

21/09/2025

يقول مارسيل بروست في كتاب «أيام القراءة»: «قد لا يكون في طفولتنا أيام عشناها بامتلاء، إلا تلك الأيام التي اعتقدنا أّننا تركناها دون أن نعيشها».

وفي سلسلة الأفلام الوثائقية التي صنعها فيتوريو دي سيتا في خمسينيّات القرن الماضي، نجد أن وصف بروست حاضر على هيئة صور رسمها دي سيتا في قرى الجنوب الإيطالي. يذكر المخرج الأمريكي ذو الأصول الإيطالية، مارتن سكورسيزي، واصفا سينما دي سيتا: «إن دي سيتا أنثروبولوجي بعيون شاعر». ويأتي هذا الوصف دقيقًا جدًا، إذ يعكس أفلام دي سيتا الوثائقية، التي قد يظن المشاهد للوهلة الأولى أنّها مادة صُنعت لأغراض أنثروبولوجية، لكن مع مرور الأيام، تبدأ شاعرية دي سيتا بمطاردة ذاكرة المشاهد بتلك الصور المفعمة بالروح والحنين لتلك الأزمان التي لم نعشها.

ولِد المخرج الإيطالي فيتوريو دي سيتا - أحذّر القارئ هنا ألا يخلط بينه وبين المخرج الايطالي الآخر فيتوريو دي سيكا – لعائلة أرستقراطية تقطن في باليرمو بإقليم صقلّية. درس الهندسة المعمارية لكنّه لم يُكملها، ثم انتقل إلى صناعة الأفلام.

يُعرِّف دي سيتا نفسه بأنه شخص منعزل ومحافظ ووحيد؛ وقد اتضح ذلك في عدم انخراطه في

مشهد السينما الإيطالية آنذاك، الذي تمركز في روما وميلانو. بل إنّه خالف التيّار السائد من نواح عديدة، مثل استخدامه لتقنية تسجيل الصوت المباشر أثناء التصوير، خلافًا للاتجاه الشائع بتسجيل الصوت في مرحلة لاحقة والتي تميزت به السينما الإيطالية. كما يُعدّ دي سيتا من أوائل من أسّسوا ما يُعرف بـ «سينما فيريتيه» أو سينما الحقيقة التي أصبحت، لاحقا، أهمّ حركة للأفلام الوثائقية في الستينيات. والجدير بالذكر أنّ أفلامه كانت متفرِّدة بالألوان والتصوير العريض (Cinemascope) ذي التكلفة العالية بطريقة لو قسناها في عالمنا الحالي فإنّها أشبه بتصوير مجتمع مزارع بأحدث الكاميرات وأغلاها ثمنًا، وبفضل انتمائه لعائلة أرستقراطية، تمكّن من تمويلها بنفسه دون الحاجة للإذعان لشروط المنتج.

قام دي سيتا بين الأعوام 1954 وحتى 1959 بصنع عشرة أفلام وثائقية قصيرة بمدّة عشر دقائق لأغلبها، ويعود سبب اختيار دي سيتا هذه المدّة القصيرة لأنها الطريقة الوحيدة التي يستطيع أن يعرض أفلامه في صالات السينما عندما كانت تعرض هذه الأفلام قبل بدء الأفلام الروائية الجماهيرية. يقول المخرج في إحدى مقابلاته إنّ التقدير الذي كانت تحظى به الأفلام الوثائقية آنذاك بالكاد يُذكر، وهذا ما شكّل تحديًا جادًا، لأن يجعل أفلامه حاضرة في صالات السينما والمهرجانات والكليّات، كي لا تذهب أدراج الرياح.

تتمحور هذه الأفلام العشرة حول الحياة اليومية العادية لقرى إقليم صقلّية، التي لم تزرها الحياة الصناعيّة بعد، فالناس في هذه القرى لا يملكون سيارات ولا أجهزة إلكترونية ولا أيّ قطعة من قطع الحياة الصناعية، إنها حياة وثقافة على حافّة التلاشي على حد تعبير المخرج.




ولا شكّ أنّ أفلام دي سيتا، هي نفسها، كانت تقف على حافّة التلاشي لولا قيام مؤسسة الفيلم (the Film Foundation)، تحت قيادة مارتن سكويرسزي وأرشيف سينتيكا دي بولونيا، بإعادة إحياء السلسلة العشرية في تسعينيات القرن الماضي بعملية تنقيح وتصفية بجودة عالية تحت إشراف دي سيتا نفسه، وثمّ في عام 2019 قامت مؤسسة الفيلم بإعادة تنقيحها مرة أخرى بجودة 4K أسوة بأهم أفلام السينما الروائية.

بعد أربع سنوات من مشاهدتي الأولى لهذه السلسلة، أجِدُني أسأل نفسي: ما الذي جعل من أفلام دي سيتا العشرة محفورة في ذاكرتي من بين عشرات الوثائقيات التي شاهدتها؟ وما الذي يجعلني أشعر أنّني زرت هذه القرى وقابلت أهلها ورقصت بينهم؟ أيّ سلطة تمتلكها السينما لتحفر في ذواكرنا كلّ هذه الصورة دون إذن منا؟ والجواب لكل هذه الاسئلة، يكمن في الطريقة التي استخدمها دي سيتا في تصوير هذه الطقوس والتفاصيل اليوميّة.

يأخذني أسلوب دي سيتا المتخفف من كل أعتبارات السينما الروائية بل والوثائقية أيضًا، إلى الولادة الأولى للسينما على يد الأخوين لوميير. أنها الكاميرا الثابتة والصامتة والمراقبة لكل ما يحدث أمامها دون تدخل، ولا شك أن من شاهد سلسلة الأخوين لومير الأولى التي لاحقًا يشار إليها بمرحلة الوقائع أو Les actualités يجد أن للعدسة سحرًا وهي تصوّب على أماكن وأشياء لم يتم تصويرها من قبل. تميّزت وقائع الأخوين لومير انها لقطات سريعة وغير مخطط لها مثل مشهد ” العمال يغادرون مصنع لوميير“ عام 1895 الذي يقوم ببساطة تصوير العمال والعاملات وهم يغادرون المصنع. وتلتقي سينما الأخوين لوميير بسينما دي سيتا بأنها سينماتين قامت بتصوير أسلوب حياة كان يوشك على التلاشي ومجتمع لم يعتد على وجود الكاميرا حوله.

يذكر دي سيتا أنّه أستخدم طاقمًا صغيرًا جدًا، وهو أمر ساعدهم على الانخراط بين أفراد المجتمع الصقلّي دون أن يشكّلوا مشهديّة تشتت عفوية اللحظة. ولا بدّ أنّ للثقافة المتلاشية والمجتمع الزراعي سحرًا مخفيًا قلّ تصويره في السينما بطريقته العفويّة والحقيقية، ودي سيتا كان أحد الشعراء السينمائيين الذين تمكّنوا ببراعة من التقاط هذه التفاصيل المنسيّة.

على عكس التوثيق الأنثروبولوجي، يأتي توثيق دي سيتا بالكثير من الشاعرية والتركيز على تلك التفاصيل العادية، كالاستلقاء على حافّة القارب، أو عجن الخبز، أو غسل الملابس، أو عودة الصيّادين إلى عائلاتهم مع غروب الشمس. وبهذا يقوم دي سيتا بمصاحبة هذه المشاهد بالعديد من الطبقات الصوتيّة المسجّلة مباشرةً في المشهد، كصوت البحر وتلاطم الأمواج، أو صوت الأطفال الذين لا نراهم في كادر الصورة، أو حتى أصوات الطبيعة؛ كالهواء والأمطار وتساقط الثلوج. ويقول دي سيتا إنّه أراد أن يجعل من أصوات هذه الثقافة سيّدة المشهد، دون أيّ تدخّل لصوت راوٍ. ونلاحظ أنّ هذا الأسلوب، يجعل من هذه الأفلام ذات طابع سينمائي شاعري يتّكئ على الصورة الجماليّة التي تراقب حياة الهامش، من بعيد، بصورته المجرّدة.

لا يكتفي دي سيتا بتصوير التفاصيل، التي عادة ما يتجاهلها المخرجون، وخصوصًا أبناء جيله، بل يقوم بتصويرها بتكوينات تكاد تكون أشبه بلوحات زيتية، كأعمال بيتر بروخل الأكبر وغوستاف كوربيه ورسامي المدرسة الواقعية، مستخدمًا بدوره اللقطات العريضة لغروب الشمس، وأمواج البحر وهي تتلاطم مع قوارب الصيادين وحقول القمح التي تحتضن المزارعين في موسم الحصاد. وتكاد تكون كلّ العناصر الطبيعية ليست مجرّد خلفية في أفلامه، بل هي كائن حي، حاضر بقوّته وصمته، بتقلباته التي تُشكّل حياة القرية، فلا يتوقّف دي سيتا عن تصوير ظواهر طبيعية كثوران البركان وعواصف الرياح والأمطار، ليظهر لاحقًا تأثيرها على مسار الحياة اليوميّة لأبناء القرية.



تميلُ النظرية الواقعية في السينما التي لا شك أنها ترغب بالعودة إلى ما قام الأخوين لوميير بصناعته، إلى الحدّ من حضور المخرج ودوره في صناعة الفيلم والتدخّل في المَشاهد. نلاحظ أن دي سيتا لا يترك أثرًا واضحًا لشخصيته في أفلامه، لكنّه قام، على غير عادته، بإنهاء سلسلته بفيلم «المنسيون» الذي يصوِّر فيه طقوس عيد الفضة بصوت راوٍ يقول فيها ما يلي: «انقضت الاحتفالات. كانت تلك هي الفرصة الوحيدة لهذه الأرواح المنسيّة أن تشعر بالحياة. يومًا ما، ربّما يسحق الطريق عزلتهم، تلك العزلة التي دامت قرونًا».

وعلى الرغم من تحفّظ دي سيتا من أيّ خطابات ذاتيّة وسياسيّة في أفلامه، إلّا أنّنا لا يُمكن أن نَغفل عن الصورة التباينيّة بين مجتمع القرى الصقلية والمجتمع الأيطالي آنذاك. قام دي سيتا بتصوير أفلامه، بعد عشر سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان المجتمع حينها يمرّ بطفرة اقتصادية وصناعية تُعرف بالمعجزة الاقتصادية الإيطالية. تَسبّب الازدهار الاقتصادي والثقافي، في شمال إيطاليا، بهجرة العديد من أبناء الجنوب الايطالي إلى الشمال، وهو ما عزّز بدوره من تلاشي الثقافة التي قام بتصويرها دي سيتا.

لا شكّ أنّ دي سيتا، كان على مستوى عالٍ من الإدراك حينما صوّر هذه الأفلام الوثائقية، متماشيًا مع ما كان يرمي إليه مارسيل بروست، وهو البحث عن ذلك الزمن المفقود، الذي يوشك على الانقراض، وجَعل تلك التفاصيل الصقليّة خالدة بعيون أبنائها. كما حملت تلك الأمُّ، في فيلم «يوم في بارباجيا»، سَطل الماء أو تلك المِطرقة التي حملها الأب في فيلم «سولفاتارا»، حمل دي سيتا كاميرته ووثّق تفاصيل هذه الحياة اليومية التي توشك على التلاشي. وتكتسب أفلامه أهميّتها كشاهد تاريخي من شواهد السينما الكثيرة لتوثيقها للثقافات المتلاشية، التي تُوشِك على الانقراض، ليجعل منها مُخلّدة، وها نحن، وبعد أكثر من سبعين عامًا، نتحدث حتّى يومنا هذا عن أفلام دي سيتا، وعن أبناء صقلّية، وعن ذلك الزمن المفقود.




المراجع

De Seta, Vittorio. Vittorio De Seta Interview. Interview by Gian Luca Farinelli, 2006.
The Criterion Channel, [https://www.criterionchannel.com/documentary-shorts-by--vittorio-de-seta/season:1/videos/vittorio-de-seta-interview]. -(https://www.criterionchannel.com/documentary-shorts-by-vittorio-de-seta/season:1/videos/vittorio-de-seta-interview).
Farinelli, Gian Luca. Gian Luca Farinelli on Vittorio De Seta. 2020.
The Criterion Channel, [https://www.criterionchannel.com/documentary-shorts-by-vittorio-de-seta/season:1/videos/introducing-vittorio-de-seta].
-(https://www.criterionchannel.com/documentary-shorts-by-vittorio-de-seta/season:1/videos/introducing-vittorio-de-seta).
Hoberman, J. "The ‘Lost World' of Vittorio De Seta." The Film Foundation, 14 Feb. 2021, [https://www.film-foundation.org/de-seta-nyrb]
Weidman, D. (2023). Actuality and illusion. In An introduction to world film. Dutchess Community College. (https://pressbooks.pub/introductiontoworldfilm/chapter/actuality-and-illusion/)