عودة

فيلم «العام الجديد الذي لم يأتِ أبدًا».. فسيفساء سينمائية صنعتها التفاصيل الصغيرة.


عبد الكريم قادري

18/08/2025

ذهب المخرج الروماني «بوغدان موريسانو» (51 سنة) في أوّل أفلامه الروائية الطويلة، صوب الماضي البعيد/ القريب، ليُحيي حدثًا مفصليًا في تاريخ رومانيا الحديث، ذاك الذي تعكسه مرحلة سقوط أعتى الأنظمة الديكتاتورية وأكثرها فتكًا وقوة في تلك المرحلة، وكان على رأسها «نيكولاي تشاوتشيسكو» الأمين العام للحزب الشيوعي، وزعيم رومانيا الاشتراكية من 1967 وحتى 1989، وقد حكم شعبه طوال تلك السنوات بالحديد والنار، عن طريق شرطة سريّة شرسة، وُصفت بأنّها الأقسى والأعنف في العالم.

لم يتطرق «بوغدان موريسانو» لحياة أو مسار وزعامة «تشاوتشيسكو» التي استمرت 22 عامًا، بل اختار الساعات الأخيرة لبداية الثورة الرومانية، تلك التي أسقطت الديكتاتور، وقد اعتمد المخرج على نماذج بشرية، أو بعبارة أدقّ عيّنات مجتمعية من فئات مختلفة، لتكون مرايا عاكسة لتلك المرحلة بكل إرهاصاتها، حيث نسج من خلالها تفاصيل عمله السينمائي «الثوري»، مجسّدًا فيه أكثر لحظات رومانيا توحّشًا وفرحًا، حين كان كل الشعب، خاصة في العاصمة بوخارست، يعيش غليانًا كبيرًا، بسبب الأخبار المتواترة والمتقطّعة التي تصلهم من منطقة «تيميشوارا»، بعد أن ثار الشعب على الحكومة، حيث أعطى «تشاوتشيسكو» أوامره للجيش بمواجهة المحتجّين بالنار، خوفًا من انتشار الثورة في ربوع البلاد، ما جعل الشعور بالتوتر والخوف والشك حاضرًا بقوة، ليس لدى النظام السياسي فقط، بل امتدّ إلى الشعب الذي ازداد التنكيل به.

هذه التمفصلات المعنوية والمادية، عرف المخرج وكاتب السيناريو «بوغدان موريسانو» كيف يوظفها ويتلاعب بها جماليًا، ليخلق بها فيلمًا ثوريًا اختار له عنوان: «العام الجديد الذي لم يأتِ أبدًا» (The New Year That Never Came) (138 دقيقة، 2024).

تشبيك الحدث وتجزئته/ مسارات الحكي
استقى بوغدان موريسانو أدواته الفنية في فيلمه هذا، من مرجعية «الموجة الرومانية الجديدة» (Romanian New Wave) وما وفّره هذا التيّار السينمائي من منطلقات فهم جديدة، بدأت مباشرة مع انهيار نظام «تشاوتشيسكو»، وبداية عصر جديد، قوامه الحرية والتغيير وتعدد طرق التعبير، خاصة مع بداية الألفية الثالثة، وهي الشعلة التي قادت جيلًا جديدًا ليقول كلمته السينمائية، من خلال النزول للمجتمع وفهم واقعه وأحلامه وكوابيسه، انطلاقًا من الواقعية الصارمة (Rigorous Realism) التي تنطلق هي الأخرى من مرجعيات معيّنة، أبرزها استعمال الكاميرا الثابتة وتوظيف اللقطات الطويلة (long takes) لتعزيز الإحساس بالبيئة والمنطلق الواقعي، إضافة إلى العديد من المنطلقات الأخرى التي اعتمدها بوغدان وخدم بها توجهه السينمائي في فيلمه هذا «العام الجديد الذي لم يأت أبدًا»، والذي استكمل من خلاله رؤى من سبقوه من مؤسسي «الموجة الرومانية السينمائية الجديدة»، على غرار كل «كريستي بويو» (Cristi Puiu) (58 سنة) الذي يُعدّ الأب الروحي لهذه الموجة، وقد سبق له أن نال جائزة «نظرة ما» في مهرجان «كان» السينمائي سنة 2005، عن فيلمه «وفاة السيد لازاريسكو» (The Death of Mr. Lazarescu)، إضافة إلى المخرج الساخر والتجريبي «رادو جود» (Radu Jude) (48 سنة) الذي تحصّل على جائزة «الدب الذهبي» من مهرجان «برلين» السينمائي سنة 2021، عن فيلمه «اللعنة لا تهم» (Bad Luck Banging)، وهو نفس الطريق الذي سار عليه المخرج «كورنيليو بورومبوي» (Corneliu Porumboiu) (49 سنة)، حيث نحت هذا المخرج، رغم مساره القصير، تجربة محترمة، كلّلها بجائزة الكاميرا الذهبية من «كان» سنة 2006 عن فيلمه «12:08 شرق بوخارست»، وجائزة لجنة التحكيم من قسم «نظرة ما» بمهرجان «كان» 2009 عن فيلم «شرطة، صفة» (Police, Adjective) وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان «كان» السينمائي أيضا سنة 2015 عن فيلم «كنز» (The Treasure).

بمعنى أنّ بوغدان موريسانو استقى تجربته السينمائية من هذا الزخم السينمائي الكبير، انطلاقًا من روح «الموجة الرومانية الجديدة» التي أعطت نَفَسًا مغايرًا ومنطلقات فنيّة مهمّة، وهي التي ارتكز عليها بوغدان، ليرسم لنا فيلمًا على رؤاها ومن منطلقاتها. كانت المقدمة أعلاه ضرورية وفارقة، لفهم سياقات العمل، سواء الموضوعية أو الفنية، للوقوف بوعي على أبعاد تلقّيه وشروطه التاريخية، وإن كان بوغدان لم يتطرق للكثير منها بشكل مباشر، بل جاءت كإنزياحات.

لكنّ تشبيك الحدث أو الشبيك الفني (Artistic Networking) حسب المنطلقات السيميائية، قام بتجزئة الفيلم إلى قصص ومسارات، ولم يأت هذا «التشبيك» من أجل لا شيء، بل ليرسم معلمًا ويقود إلى نتيجة فنية، بمعنى أن المخرج امتلك أسلوبًا صاغ به فيلمه، لأن الأسلوب حسب قول الناقد والمنظّر السينمائي الأميركي «ديفيد بوردويل» (David Bordwell) «ليس زينة، إنه الطريقة التي يروي بها الفيلم قصته».

وعليه، فقد خدم من هذا المنطلق «الثيمة»، وشكّل بها المراحل الفيلمية بسلاسة، بمستوياتها التاريخية والجمالية والمعرفية، وبذلك يكون «بوغدان موريسانو» قد أسقط منطلقات الحشو والتبرير الدرامي وأسلوب الخطابية أو المباشراتية، وهي خيارات يمكن أن تقتل جماليات التأويل، وفي نفس الوقت تقود الخطاب السينمائي إلى مناطق فكرية ضحلة، وهو معطى سلبي تم تجنبه، من خلال اعتماده على خيار خلق مسارات حكي متعددة، والتركيز على الجزالة المعرفية لتذويب الحشو.

ومن جهة أخرى استثمر -بشكل واضح- في الأفراد (شخصيات الفيلم)، واستمع لهم بعناية فائقة، لذا فهم أوجاعهم وآهاتهم المختلفة، وقدم لنا تلك الأوجاع على أنها إفرازات سلبية أنتجها نظام الحكم، أثرت بشكل محوري على الفرد، وكوّنت ترسبات زمنية، ظهرت على كل حركة يقومون بها أو كلمة ينطقونها، بل إنّ هناك من سحقته وجعلته عبرة لغيره، ليصبح بذلك فردًا مسيّرًا من تلك الآليّات القمعية.

وعليه يجسّد هذا التشكيل أو مسارات الحكي مصير ستة أفراد مرتبطين ببعضهم بطريقة أو بأخرى، تحاصرهم عيون الشرطة السريّة، تلك التي تبحث عن ثغرة واحدة لتمارس عليهم أبشع أنواع القمع، في ظل الوضع الذي تمر به البلاد، ولذلك يتعرضون لضغط رهيب، وقد انعكس هذا على شخصية المخرج التلفزيوني «ستيفان ستلفسترو» (الممثل ميهاي كالين) الذي يجد نفسه في ورطة، بعد أن انشقت المؤدية الرئيسة «لي لي» (الممثلة فيكتوريا رايليانو) التي تؤدّي حفلة عيد الميلاد الرئيسية بمناسبة رأس السنة، وعليه إيجاد طريقة مبتكرة لإنقاذ برنامجه الذي سيذاع على التلفزيون الرسمي، ليكون الحلّ في إيجاد ممثلة بديلة، وقد وقع الخيار على الممثّلة المسرحيّة «فلورينا» (الممثلة نيكوليتا هانكو) التي تعيش حالة اكتئاب حاد، لأنها لا تستطيع الوصول إلى صديقها السابق في «تيميشوارا» والتي تحاصرها أحداث القتل والقمع، لهذا فهي تكره النظام وتعارضه وتحسّ بأنها وقعت في ورطة كبرى، لأن الدور الذي ستؤديه يتعارض مع مبادئها، لأنّها ستمجّد الزعيم الديكتاتوري ونظامه الاشتراكي الذي تكرهه.

وفي نفس السياق، يخطّط ابن المخرج الطالب «لاورينتسيو» (الممثل أندريه ميركيور)، للفرار إلى يوغوسلافيا سباحة عبر نهر الدانوب، وقد عرفت الشرطة السريّة بنشاطه، لهذا ابتزوا المخرج بنجاح ابنه او رسوبه، مقابل أن يشي بزملائه في التلفزيون، خاصة أولئك الذين كانوا على علاقة مع المنشقة «لي لي» أو من يعارضون النظام، كما كان الضابط (الممثل يوليان بوستلنيكو) الذي كان مكلّفًا بمراقبة الطالب، هو أيضًا يكافح ويعيش في رعب وخوف، لأنه خائف من النظام ومن جهة أخرى يواجه تعنّت والدته «مارغاريتا دينكا» (الممثلة إيميليا دوبرين) التي لا تريد الذهاب لشقتها الجديدة، بعدما تقرّر هدم منزلها الذي كبرت فيه، لهذا فقد رسمت خطّة لتنتهي مأساتها. فيما كان «جيلو» (الممثل أدريان فانسيكا) أكثر شخصيات الفيلم لفتًا للنظر، لأنه كان همزة وصل بين باقي الشخصيات، وفي نفس الوقت محرّكًا ومولّدًا للفعل الدرامي، وهو عامل بسيط في مصنع، شعر بخوف شديد وصل لدرجة الرعب، بعد أن علم أنّ ابنه ذا السبع سنوات قد كتب رسالة بمناسبة الميلاد وأرسلها إلى «الأب فروست»، كشف فيها أنّ والده يريد موت «تشاوشيسكو» لهذا ترجّاه في الرسالة أنّ يحقق أمنيته، إضافة الى أمنية والدته بالحصول على حقيبة يد جديدة، ولعبة قطار له.

من هنا تتشابك القصص بمحوِّلات مختلفة، سواء كأجساد أو مصائر، ولكّنها تتقاطع زمنيًا، لتبدأ بعدها الثورة الرومانية بحدث بسيط، وهذا حين تقوم أجهزة النظام بتعبئة العمال وإرغامهم على تنظيم مظاهرة لدعم «تشاوشيسكو» وسماع خطابه، وكان بينهم العامل «جيلو» الذي لا يزال يتملّكه الرعب بسبب رسالة ابنه، وقد حدث في اليوم الذي سبقه أن صادر مفرقعات طفل لأنه أفزعه بها، وبينما هو في وسط التجمع الكبير تحسس جيبه فوجدها، لهذا أحرقها فانفجرت، فاندلعت المواجهات والذعر، وتحولت مظاهرة الإسناد إلى معارضة لنظام الحكم، لتشتعل بعدها الثورة في كافة البلاد، ويسقط نظام الحكم الديكتاتوري.

سمح هذا البناء بخلق حقل واسع من الدلالات، انطلاقًا من عذابات الشخصية أو الفئة الواحدة، وتجلّيها على الكل المتكامل، أي المجتمع والدولة بشكل كامل، وقد حاكى هذا الشكل السينمائي العديد من الأفلام، مثل فيلم «الحب غدار» (Amores Perros) (2000)، لـ «أليخاندرو غونزاليس إيناريتو»، وبدرجة أكثر فيلم «ماغانوليا» (Magnolia) (1999) لـ «بول توماس أندرسون»، حيث عكس هذا الفيلم أجمل المقدّمات السينمائية، و قدم بناءًا متداخلًا ومتشابكًا ومغايرًا، تقوده مجموعة من الشخصيات المختلفة، ورغم أنّ هذا الفيلم يعكس تيّار «سينما ما بعد الحداثة»، غير أنّه يتقاطع بقوة مع بناء فيلم «العام الجديد الذي لم يأت أبدًا».

كما أنّ هناك العديد من الأفلام التي تتقاطع مع هذا البناء، مثل الفيلم السويدي «أغاني من الطابق الثاني» (Songs from the Second Floor) (2000) لروي أندرسون، وبدرجة أٌقل فيلمي « أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان» (Months, 3 Weeks and 2 Days 4) (2007) لكريستيان مونجيو، و«بابل» (Babel) (2006) لإينارتو أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، فقد تمّت تجزئة الحكاية الكليّة لفيلم «العام الجديد الذي لم يأت أبدًا»، لنسجها ضمن جسد الكلّي، وبالتالي تم خلق مسارات ألم ووجع وحسرة، أفرزت تفاعلًا بين العمل والمتلقّي، ليكون الأخير قد أحاط علمًا بما حدث في تلك الفترة الزمنية الحالكة، ومن الناحية الفنية يكون المخرج «بوغدان موريسانو» قد جسّد بها حكاية موازية، مرويّة عن طريق المونتاج الذي قام به كل من (فانيا كوفاسيفيتش) و(ميرسيا لاكاتوش)، وهذا العنصر التقني هو الذي أعطى للفيلم روحًا جديدة، لأنه كما قال المخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو في إحدى مقابلاته: «المونتاج ليس مجرّد لصق مشاهد ببعضها. إنه عملية اكتشاف البنية العاطفية والموضوعية للفيلم. وعندما تكون القصص مجزّأة، يصبح المونتاج هو الخيط الذي يكشف وحدتها الخفية». [1]

هندسة الشكل/ تقطيع وإعادة بناء
يمتلك المونتاج خاصيّة سحرية في بناء الفيلم وهندسته، وهو عنصر فنيّ أكثر منه تقنية أو حرفة، يقوم به شخص أو أشخاص لديهم رؤيا وتصوّر فني، وكل هذا تحت توجيهات المخرج الذي يسعى لتقديم الأفضل لعمله، من خلال تحقيق تصوّره الجمالي، وفي حالة فيلم «العام الجديد الذي لم يأت أبدًا»، فقد اعتمد المخرج «بوغدان موريسانو» على التركيب التقليدي، لكنّ فلسفة «ازنشتاين» في المونتاج كانت حاضرة بقوة، وهذا من خلال توليد المعنى الثالث بين اللقطة والأخرى، والذي يقول عنه: «المعنى لا ينشأ من محتوى اللقطات الفردية، بل من تجاورها. وهذا هو المعنى الثالث – نوعية جديدة، عاطفة جديدة، تولد من الصدام.» [2]

ورغم المعرفة التقنية والفنية للمخرج، غير أنه لم يحد عن البناء الهندسي التقليدي، وحافظ على السرد الخطي، بتتبع الحدث منذ البداية، والتقدّم به تصاعديًا وفق زمن منطقي، إلى أن وصل إلى الذروة ثم الانفراج، بمعنى أن قصة فيلمه يمكن اختصارها في «مقدمة وعرض وخاتمة»، ورغم هذه الروح التقليدية، غير أنّه تغلّب عليها بالجمالية وبإيقاع المونتاج السريع، بعد أن قام بتقطيع القصص الطويلة للشخصيات، وجعل كل جزء منها متقاطعًا مع الآخر، أي كانت شخصياته الأساسية متقاطعة بمساراتها، خاصة وأنّ كل فرد منهم يملك قصة، وهي مرتبطة بالضرورة بنظام الحكم، ولا توجد صلة قوية بينهم، فقط تتقاطع مصائرهم، لكنّ لكل قصة منطلق بناء تقليدي، تمتلك بداية وعرضًا وخاتمة، والمونتاج فكّكها وجعلها متداخلة في الأخرى، كما قواّها وأعطاها زخمًا ودفعًا للتقدّم، وفي الوقت نفسه خلق بها قصة موازية جمعت الكلّ المتجانس، ليصنع بها إثارة حبست أنفاس المتلقّي.

كما أنّه لم يجعل كل قصة مستقلّة، بل أثبت بأنها تسير وفق الزمن الدرامي للفيلم، لذا نجد مثلًا أن الممثلة المسرحية «فلورينا» قد مرت في الشارع بجانب العامل «جيليو»، الأولى تفكّر في طريقة للتخلّص من ورطتها كي لا تقدم فقرة التلفزيون، والثاني يفكر كيف يتخلص من رسالة ابنه التي وضعها في صندوق البريد، وكذلك حدث هذا التقاطع أو اللقاء في الصيدلية، عندما خرج ابن المخرج التلفزيوني فيما كانت هي تدخله، كما أنّ هناك العديد من التقاطعات بين الشخصيات في الفيلم، ومعظمها تقاطعات جسدية فقط.

هذا التفصيل الصغير الذي قام به المخرج، أعطى لعمله دفعًا قويًّا، ثبّث من خلاله أركان قصص فيلمه، وكل هذا جاء عن طريق المونتاج والبناء الجيد، وحسن التقطيع وإعادة التركيب والتشبيك الفنيّ. أمّا من الناحية الفلسفية، فكأّن المخرج يقول بأنّ مصائر الأفراد مرتبطة بطريقة أو بأخرى، وكلّها تنتهي إلى المصير ذاته دائمًا، الألم واحد وإن تعددت المنغّصات، والكوابيس متعددة وإن كان سببها واحد، وهو النظام الديكتاتوري، وهو المعطى الفني الذي عبّر عنه الشاعر والكاتب نيل غيمان (Neil Gaiman) في روايته «أبناء أنانسي» بقوله: «القصص كشبكة من الخيوط، كل خيط متصل بآخر، تتبع كل حكاية حتى تصل إلى المركز، لأن المركز هو النهاية. وكل شخص هو خيط في هذه القصة». [3]

تشظي الألم/ الأحزان بأثر رجعي
استطاع المخرج وكاتب السيناريو «بوغدان موريسانو» أن يجعل من شعور «الألم» عاطفة مشتركة بين كل الشخصيات، وقد تجاوز به حدود الفعل الدرامي في الفيلم، إلى مساحة أوسع، تلك التي يعكسها المشاهد في كل نقطة من العالم، لأنه عمل على بلورة تصوّر شامل له، ومن ثمّة تشظيه على أحاسيس متعدّدة، من هنا أصبح هذا الاحساس الساحق والموجع عاملًا مشتركًا بين الكل، فأصبح من السهل تلقّي قصص الفيلم وفهم الحدث التاريخي بشكل أعمق، وأكثر من هذا كله أدخل الجميع في رحلة إلى الماضي، أي إلى أكثر من 26 سنة كاملة، وبذلك نجح في استرجاع الأوجاع بأثر رجعي، وجعل من متلقيه شاهد عيان، خاصة المجتمع الروماني تحديدًا، الذي استرجع تلك المآسي التي عاشها أو سمع عنها ، لأن الوجع كان بحجم كبير.

من هنا علينا طرح سؤال محوري، عن المقدرة التي وظّفها المخرج لتحويل شحنة «الألم» هذه من الورق (السيناريو) إلى الفيلم ومن ثمة إلى الجمهور، لتكون الإجابة واضحة والتي يمكن استنتاجها بعد الوقوف على تفاصيل الفيلم، وهي أنّ عملية خلق تلك الشخصيات وتأثيث ظروف عيشها ومحيطها وبيئتها، قد جاءت من خلال عملية «الكاستينغ» القوي الذي اعتمده، إضافة إلى حسن إدارة الممثل وتوجيهه وإلباسه الحالة المادية والنفسية والروحية للشخصية الورقية، بمعنى أنّ كل ممثل استطاع أن يفهم دوره وأبعاد الحدث، وهو معطى ظاهر يمكن فهمه بسهولة تامة، أي كل ممثل توحّد مع الشخصية، لهذا استطاع ان يعكس تلك الأدوار المركّبة، ويُبرز منطلقات «الألم» من الناحية الفيزيولوجية والمعنوية، حتى أصحاب الأدوار البسيطة او الثانوية برعوا في تقمّصها، كل هذا حوّل شعور «الألم» إلى بنية مشتركة بين أفراد الحيز الدرامي في الفيلم وأفراد ما بعد الفيلم.

يحيل هذا المعطى إلى عمل المخرج وجهده للوصول إلى هذا الحد، فهو بذلك يحاكي قول المخرج والمنظّر السينمائي الكبير إليا كازان (Elia Kazan) حين قال: «إذا كان الثمين ليس داخلك، فإنك لن تقدّمه. لهذا من الضروري أن يكون للمخرج معرفة حميمة بالممثلين الذين يختارهم. فإذا كان موجودًا، فلدينا فرصة لتقديمه على الشاشة». [4]

هذا، وقد نجح أيضًا في لصق كل شخصية بجملة من الأسئلة والمخاوف المفزعة، وبالتالي أصبح المتلقّي شريكًا مباشرًا، وصار هو أيضًا ينتظر بعض الأجوبة، ومن بين تلك الأسئلة المتوارية وراء تأويل الفيلم، والتي طرحتها الشخصيات بشكل غير مباشر:
«جيلو» : كيف أستطيع محو الرسالة وأنقذ نفسي وعائلتي؟.
المخرج التلفزيوني «ستيفان ستلفسترو» : كيف أستطيع إنقاذ ابني من الرسوب وحصوله على الشهادة؟.
الممثلة المسرحية «فلورينا» : كيف أستطيع الخلاص من ورطة إرغامي على تأدية دور لا أرغب فيه؟.
الضابط في الشرطة السرية: كيف أستطيع اقناع أمي بأن تنتقل إلى شقتها الجديدة دون أن أتسبب في حزنها؟.
الطالب ابن المخرج التلفزيوني: كيف أستطيع عبور نهر الدانوب ولا يتم القبض عليّ ولا أتجمّد من البرد؟.
كما حملت شخصيات الفيلم الأخرى جملة من الأسئلة التي تخلق رابط تأويل وانتظار بين العمل والمتلقّي، وتضمن استمرار فعل المشاهدة من جهة، ومن جهة ثانية توسع من دائرة فهم الألم ومعايشته.

جمالية السيناريو/ منعرجات الحبكة وأبعاد الذروة
استطاع المخرج «بوغدان موريسانو» أن يحدّد الفترة الزمانية والمكانية في فيلمه «العام الجديد الذي لم يأت أبدًا» خلال الثواني الأولى من انطلاق العمل، كما حدّد في تلك الفترة الاستهلالية طبيعة النظام السياسي وأساليب القمع والمراقبة، وهذا من خلال بثّ أخبار سريعة عن طريق الراديو، حيث ترافق صوت المذيعة مع «جينيريك » البداية، تحدثت عن النظام الاشتراكي وخطر مواجهة الامبريالية، أي تلك الخطابات الخشبية التي تبثها الدول الشيوعية سابقًا، وفي الوقت نفسه ظهر تواصل سريع بين ضابط الشرطة والمخبر في السيارة، ومن هنا تبدأ أجواء الفيلم في الظهور، وهي مقدّمة خلقت استعدادًا نفسيًا من طرف المشاهد، لأنّها نقلت نوعًا من الخوف الآني وآخر سيحدث. وقد أفرز هذا الإحساس بالزمن الماديّ ايقاعًا سلسلًا، سلّح به المتلقّي ليجابه به تلك الفترة، وبالتالي كان «الإيقاع هو العامل السائد، ذو السلطة المطلقة في الصورة السينمائية، لأنه يُعبّر عن مجرى الزمن داخل الكادر»، وهذا حسب قول أندريه تاركفسكي حسب ما جاء في كتابه الخالد «النحت في الزمن». التفاصيل الجيّدة، والأحداث المتواترة ذات الإيقاع الرزين، والسرد العارف الذي يوّلد ذروة جيدة ومعقولة تشعر المُتلقّي بالرضا، والحبكة المتوازنة التي تتجلى في كل فصول الفيلم، هي كلّها عناصر صنعت هذا السيناريو الجيّد الذي كتبه «بوغدان موريسانو»، حيث استطاع أن يستثمر التفاصيل الدقيقة ويقف خلفها ويجمعها، ليشكّل بها لوحته النهائية، وقد كان في هذا العمل بمثابة المهندس المعماري أو المطرّز، لأن الأمر يحتاج إلى دراية وصبر وموهبة ورؤية، وعين ثاقبة ترى المعطيات المكتوبة على الورق كأحداث مصوّرة.

مقدرة «بوغدان » كانت أيضًا واضحة في الموازنة بين جميع المشاهد، من خلال حفاظه على إيقاعها وتناسقها، إذ لا نجد مثلًا فصلًا أقوى من الآخر، أو ممثّلًا ضعيفًا وآخر قوي، وقِس على ذلك باقي العناصر، لهذا ظهر في صورة المخرج المتمكّن العارف بتفاصيل قصته والحدث التاريخي الذي تناوله، رغم أنّه من أوائل أفلامه الروائية الطويلة، لكنّه أظهر من خلاله بأنّه صاحب موهبة، كما تجلّى وعيه السينمائي بشكل كبير، بعد أن تخلّى عن المفاهيم الكبيرة والمصطلحات التي يمكن أن تسيطر على فيلم سينمائي ثوري، مثل التحرّر والاستقلال والهيمنة والقمع والحريّات الفردية، ذهب فقط صوب التعامل مع المُعطى ببساطة، وهذا الذي ولّد عنده البلاغة الفنية، وجعل المفاهيم المذكورة كمعانٍ تتوارى خلفها منطلقات التأويل، يتلقّاها المشاهد دون أن يسمعها أو يراها، وبالتالي أعطى لعمله بُعدًا جماليًا بليغًا.

من جهة أخرى، جاءت عملية التصوير وضبط «الكادرات» والإنارة التي عكسها الظل والنور، مؤاتية أو عاكسة للحالة النفسية المتردّية للشخصيات، وهو مجهود إبداعي قام به كل من «بوروكا بيرو» و«تيودور أفلاطون»، فقد كانت معظم المشاهد الداخلية رماديّة وحزينة ومقلقة، تُحاكي في انطباعها البصريّ ما يشعر به كل شخص في الفيلم، وبالتالي يكون المخرج قد استطاع أن يخلق انسجامًا كليًّا، خلق به لغة سينمائية قويّة، صنعت جمالية الفيلم الكبرى، وأسّس في نفس الوقت لرافد نفسيّ تشابك مع الجانب الماديّ البصريّ. فيلم «العام الجديد الذي لم يأتِ أبدًا» لوحة فسيفسائية متعدّدة الألوان والمقاصد، استطاع المخرج فيه أن يسافر بمشاهديه إلى فترة زمنية حالكة من تاريخ رومانيا، وقد شارك هذا العمل الاستثنائي في العديد من المهرجانات الدولية، وكان أولّها بمهرجان «فينيسيا» السينمائي في دورته الواحدة والثمانين (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2024) وقد فاز فيها بجائزة «أوريزونتي» لأفضل فيلم، كما شارك في الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (13 ـ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، وتحصّل على جائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم.




المراجع

[1] https://www.dga.org/craft/dgaq/issues/0602-summer-2006/director-profile-alejandro-gonzalez-inarritu?utm_source=chatgpt.com
[2] https://www.viscultstudies.org/third-meaning?utm_source=chatgpt.com
[3] رواية Anansi Boys هي عمل خيالي للكاتب البريطاني نيل غيمان، صدرت لأول مرة سنة 2005 عن دار William Morrow، إحدى دور النشر التابعة لـ HarperCollins، ومقرّها نيويورك، الولايات المتحدة.
[4] https://filmmakingquotes.com/working-with-actors/?utm_source=chatgpt.com