شارك
يُعدّ المونتاج السينمائي تقنية تحريرية قوية ومؤثرة، يضغط بواسطتها المخرجُ الزمنَ في السينما ويعبّر عن أفكار معقّدة ويستثير عواطف معينة. ويمثل المونتاج ذروة لغة الفيلم من حيث إنه تلاعب بالزمان والمكان والسرد في سبيل إنتاج معنى يتجاوز مجموع عناصر الفيلم. كما أنه من وجهة نظر معينة يختزل عمل المخرج؛ إذ ما الفيلم إلا لقطاتٌ مقصوصة ومتجاورة في تتابعٍ ما. ولعل المونتاج تحديدًا من أبرز اللحظات التي يتجلى فيها عمل المخرج، أي تدخُّله الفني في حبك السرديّة البصريّة التي يحملها الفيلم.
تتناول هذه المقالة المونتاج بوصفه واحدًا من التقنيات المستخدمة في صناعة الأفلام وأبرز أشكال التحرير الفيلمي والسرد البصري، موضحةً معانيه المختلفة في نظرية السينما. وتتتبّع المقالة تطوّر المونتاج في دراسات الفيلم ونظرية السينما، لا سيما في كتابات سيرجي آيزنشتاين (١٨٩٨-١٩٤٨م) وأندريه بازان (١٩١٨-١٩٥٨م)، كما تعرض الأغراض الفنية الجمالية والخطابية الأيديولوجية التي يوظَّف المونتاج لتحقيقها بواسطة تحرير الصور واللقطات ومجاورتها وترتيبها وإعادة ترتيبها. وأخيرًا تؤسّس المقالة علاقةً بين المونتاج والواقع وإعادة تمثيله سينمائيًا.
اشتُقّ مصطلح المونتاج من المفردة الفرنسية monter التي تعني تجميع أو تحرير. ويشير المصطلح إلى عملية ضمّ لقطاتٍ منفصلةٍ إلى بعضها البعض بحيث تكوّن تسلسلًا مترابطًا قادرًا على نقل قصّة أو فكرة أو انطباع ما. إذن هو تلاعبٌ مقصود بعناصر الزمن والمكان والسرد، يسعى إلى إنتاج معنى لدى المشاهد أو ترك انطباع لديه. ويرى بعض النقّاد والمخرجين، مثل سيرجي آيزنشتاين، أن في المونتاج جوهرَ الفيلم وإسهامه الفريد في التعبير الإنساني، فالمونتاج يضمّ لقطات تصويرية مفردة في معانيها ومحايدة في محتواها، ويقدّمها في سياقات جمالية وتسلسلات فكريّة تحدد معناها. وقد انطلق آيزنشتاين من مسؤولية الفنان تجاه مجتمعه، فانبثقت تصوراته ورؤاه عن المونتاج من تجربته في استخدام هذه التقنية قبل انضمامه إلى السينما، وتحديدًا تجريبه في بعض المشاهد والحوارات في المسرح. وكان يعتقِد أن المونتاج ظهر أولًا باعتباره شكلًا للتفكير، ومثّل على هذا القول بكتابات فلوبير وقبل ذلك بالكتابة اليابانية (الهيروغليفية) بل وحتى في قصائد الهايكو التي وصفها بأنها «عبارات مونتاجية» أو «قوائم من اللقطات» حيث يؤدي جمعُ اثنين أو ثلاثة من التفاصيل مادية الطابع إلى إعادة تمثيل تامة ذات طابع آخر، وهو سايكولوجي. ولتوضيح الأثر النفسي الذي يحققه المونتاج يضرب آيزنشتاين مثلًا بحادثة قتل، فحين تكون حادثة قتل على المسرح يكون لها أثر فسيولوجي بحت، أما حين تصوَّر الحادثة في قطعة مونتاج واحدة، أي في لقطة واحدة، فإنها قد تعمل ببساطة باعتبارها معلومات، ولا يبدأ الأثر العاطفي إلا عند إعادة بناء الحادثة على هيئة شذرات مونتاجية تستدعي كل واحدة منها ارتباطًا معينًا، ويكون مجموع هذه الارتباطات مجموعة معقدة من الانفعالات العاطفية.
لكن لعلّ من المناسب البدء في الحديث عن جملة الوظائف التي يُستخدم لأجلها المونتاج في السينما، وهي وظائف تتراوح بين الجمالي والأيديولوجي. أما الوظائف الجمالية لاستخدام المونتاج في الفيلم فمعقّدة ومتعددة الجوانب وتقع في صميم السينما نظريةً وممارسة. هذا التكنيك يخدم عدة وظائف تسهم إجمالًا في لغة الفيلم البصرية وأثره على المشاهد، وغالبًا ما كان المونتاج فرصة للمخرجين كي يوطدوا أساليبهم الخاصة، إذ المونتاج أوضحُ لحظات الفيلم التي يتمظهر فيها أسلوب المخرج ورؤيته وتوقيعه الخاص. ومن السهولة التعرف على مخرج من خلال المونتاج، كما هو الحال مع سيرجي آيزنشتاين وألفريد هيتشكوك وكونتن تارانتينو على سبيل المثال.
يكمن أهمّ أدوار المونتاج جماليًا في أثره على وتيرة الفيلم وإيقاعه، فمعلوم أن المونتاج يكسر السرد من أجل خلق وتيرةٍ مرغوبة تتحقق بواسطة تحديد أطوال اللقطات والسرعات التي تقدَّم بها. والتفاوت في أطوال اللقطات وسرعات عرضها يُحدث أثرًا مختلفًا في كلِّ مرة، فالمونتاج سريع الوتيرة يختلف عن المونتاج بطيئها، إذ يترك الأول إحساسًا بالعجلة والإثارة، أما الثاني فيستدعي التأمل أو البناء المتمهِّل للتشويق. بهذه الطريقة يُشرك الترتيب الإيقاعيّ للصور واللقطات انفعالاتِ الجمهور ويحافظ على انتباههم وتركيزهم على امتداد الفيلم. وبالطبع يكثِّف هذا الإشراكَ اختيارُ اللقطات وترتيبها بعناية بحيث تكون استجابة الجمهور الانفعالية والإدراكية مرتبطة بذلك الاختيار وذلك الترتيب. وهذا ما يعبَّر عنه بأثر كوليشوڤ The Kuleshov Effect نسبة إلى المنظّر وصانع الأفلام السوڤييتي ليو كوليشوڤ الذي اكتسبت أطروحته أهمية لا بأس بها في نظرية تحرير الفيلم. فالمبدأ الذي يقوم عليه هذا الأثر ظاهرة ذهنية تفسر الأثر العاطفي والنفسي لمجاورة الصور من أجل التلاعب بانفعالات المُشاهد وأحاسيسه، ويوضح أن الأثر النفسي لصورة أو لقطة ما يتأثر تأثرًا كبيرًا باللقطات التي تسبق هذه اللقطة والتي تليها. ولذا فإنّ أي لقطتين متتابعين أقوى أثرًا من لقطة واحدة بسبب التفاعل بين اللقطتين، كما يصبح تتابع اللقطات sequence حدثًا إدراكيًا يُستنبط فيه المعنى من ذلك التفاعل.
وحين يُستخدم المونتاج لتكثيف الزمن أو إظهار عبوره فإنه يحرّك السرد من دون الاعتماد على الوصف أو الحوار، وتكون حينها القفزات الزمنية في السرد أيًّا كان طولها مفهومة مباشرة ومبررة. قد يصور المخرج أشهُرًا أو سنوات من نموّ شخصيات الفيلم وتطور أحداثه بواسطة دقيقة أو دقيقتين من اللقطات المتتابعة دون أن يؤثر ذلك على السرد. ودائما ما يُستشهد في دراسات السينما بفيلم «المواطن كين» الذي استهل به المخرج الأمريكي أورسن ويلز نشاطه في الإخراج عام ١٩٤١م. ولكن أبرز الأمثلة على استخدام ويلز المونتاجَ في الفيلم ذاك الذي عُرف لاحقًا بمونتاج الإفطار. يغطي هذا المونتاج الكلاسيكي، الذي يمتد دقيقتين تقريبًا، فترة عقد من الزمان من زواج تشارلز كين من إيميلي، ويصور فترات متفرقة على طاولة الطعام هي عبارة عن ستة مشاهد لتَقَدُّم الشخصيتين في العلاقة والعمر. تفصل بين كل لقطةٍ وأخرى لقطةٌ أشبه بمرور قطار يمر من أمام وجه إيميلي. يصور المخرج مرور الزمن باستخدام مجموعة من العناصر، مثل حركة الكاميرا وتصميم الأثاث والملابس وستايلات الشعر وغيرها، ويوضح الكيفية التي تطورت بها علاقة الزوج عبر الزمن، من خلال المسافة بينهما على الطاولة، وموضوع الحديث، وموقف كل منهما، ونوع الموسيقى، بل وحتى الكلام نفسه؛ إذ أخذ الحديث بينهما في التناقص إلى أن انقطع تمامًا. ويُلاحظ أن كامل المونتاج مؤطرٌ بالكاميرا التي تقترب من الزوجين في البداية وتبتعد عنهما في النهاية، في لقطة زاحفة dolly تتحرك إلى الأمام في بداية المونتاج ثم إلى الخلف في نهايته.
زد على ذلك أن المونتاج وفّر خاصية فائقة الأهمية حين يتعلق الأمر بسرد الحكاية، وهي إمكانية تصوير تزامن أكثر من حدث يقع في أماكن مختلفة، بحيث يدفع كل حدثٍ السردَ إلى الأمام سواء توازت هذه الأحداث أو تقاطعت. والشيء نفسه ينطبق على توفير المونتاج فرصةً لتمرير استعارات أو رموز بصرية لا يستطيع السرد التقليدي الخطّي في السينما عادة نقلها. فجمع الصور واللقطات التي لا يتصل بعضها، في الزمان والمكان، قد يُعين في التعبير عن مفاهيم مجردة أو أفكار معقّدة، ما يسهم في فهم ثيمات الفيلم فهمًا أعمق. ولعل في فيلم لويس بونويل وسلڤادور دالي «كلب أندلسي» (١٩٢٩م) مثال على مفاهيم مجرّدة يصعب التعبير عنها بالسرد التقليدي، حيث تتتالى لقطات لعين امرأة تحزّها شفرة موسى وأخرى لقمرٍ تشطره سُحب نحيلة. تكرار مثل هذه الصور والموتيفات البصرية في المونتاج عادة ما يرسِّخ ثيمات الفيلم وأفكاره الرئيسة.
إضافة إلى كل ما سبق، يعمل المونتاج على دعم الأدوات السردية التي يستخدمها المخرجون وتعميق أثرها، فمثلا يسهّل المونتاج إمكانية تقديم وجهات نظر مختلفة لشخصيات الفيلم أو حتى لشخصية واحدة. إنّ في وسع تقنيات التحرير والمونتاج خاصةً إبراز أكثر من وجهة نظر متضادة أو مغايرة في مشاهد متتالية أو متجاورة، وكذا الأمر مع الحالات النفسية المختلفة لشخصية واحدة. وما يحدث في وجهة النظر يحدث في الصراع، حيث تفضي مجاورة صور ولقطات تحوي مشاهد متضاربة إلى التعبير عن الصراع الذي تعيشه الشخصيات ويحرّك السرد.
وبمعزل عن القيمة الجمالية للمونتاج يلجأ المخرج إلى المونتاج أحيانًا للتعبير عن فكرة لا تحضر في اللقطات منفردةً، وهذا الجانب غالبًا ما يُستخدم لأغراض خطابية أو إيديولوجية. نشأ المونتاج بوصفة تقنية سينمائية وتطوّر على أيدي صُنّاع الأفلام السوڤييت من أمثال سيرجي آيزنشتاين في سياق أدّت الإيديولوجيا فيه دورًا حاسمًا. فالمونتاج يؤطِّر رسالة المخرج ويضمن إنتاج معنى معيّن وتشكيل إدراك المشاهد حوله.
على سبيل المثال استخدم آيزنشتاين في فيلمه «المدمرة بوتمكين» (١٩٢٥م) المونتاج لتصوير واقع فوضوي ووحشي أفرزه حدث تاريخي، حيث قطع لقطات الحشد الهارب المذعور، مع الوجوه الجامدة المحايدة للجنود المشاة، وعربة الأطفال المتدحرجة، مشهدٌ خلق إحساسًا بالرعب والتوتر المتصاعد على أقل تقدير. كان واضحًا من أقدم الأمثلة على المونتاج تسخيرُ التقنية السينمائية لتصوير الطبيعة المضطهدة للطبقة الحاكمة واستدرار استجابة عاطفية من الجمهور، ما يعزّز رسالة الفيلم الثورية وبيانه السياسي.
يمكن التعبير عن هذا التوظيف باسم المونتاج الفكري intellectual montage وهو أحد خمس طرق للمونتاج اقترحها آيزنشتاين لتفسير الرابط بين اللقطات المضمومة جنبًا إلى جنب. ويعبّر المفهوم عن مجاورة اللقطات وترتيبها لتُحدِث أثرًا ذا سمة فكرية، وهو بالنسبة لآيزنشتاين أبرز تلك الطرق. إنه مفهوم متأثر من جهة بالنظرية الشكلانية في الأدب، حيث الغرابة النابعة من تقديم الواقع بطرق جديدة وغير مألوفة تؤدي إلى التحريض على التفكير والتفاعل مع المكتوب، ومن جهة أخرى بالماديّة الجدلية. على أية حال، في هذه الطريقة السينمائية يكون قطع اللقطات بناءً على علاقتها بمفهوم فكري. فبدلًا من التقدّم السردي تحكم العلاقةَ بين اللقطات فكرةٌ يؤسّسها المخرج ويحرر اللقطات على ضوئِها، على عكس باقي الطرق التي عادةً ما تركِّز على الروابط البصرية والزمنية بين اللقطات في دفع السرد الفيلمي إلى الأمام. إذن يولّد هذا النوع من المونتاج الأفكارَ والمفاهيم التي لا توجد في الصور واللقطات منفردة، ويشدّد في عملية اختيار الصور واللقطات وتحريرها على الأثر النفسي والرمزي الذي يتركه المونتاج على المشاهد. هذا المونتاج يتخذ شكل إقناعٍ بصريّ، حيث يجري إعداد لقطاته بطريقة تضمن وصول المعنى المقصود إلى فهم المشاهد ويقدّمُ التحرير السينمائي فيه البنية المنطقية التي تدعم مغزى الفيلم.
ومن أشهر الأمثلة على هذا المونتاج، ذاك الذي أخرجه آيزنشتاين أيضًا في فيلمه الصامت «الإضراب» (١٩٢٤م) حين جاور مشهدًا لاحتفال برجوازي بآخر لمسلخ؛ في تناقض صارخ يُبرِز نقد الفيلم للاستغلال الرأسمالي. هكذا يتضح انحيازُ المخرج للأفكار والرؤى من وراء توليفة وترتيب الصور واللقطات؛ لتجسيد أفكار مجرّدة، وإتاحتِها بصريًا للجمهور بهدف خدمة المنظور السياسي أو الاجتماعي.
إن ما يمكّنه المونتاج من التلاعب بالصور وترتيبها بقصدية، مع القدرة على ضغط الزمن والمكان، من شأنه أن يؤثر على إدراك المشاهد والمعنى الذي يستنبطه من المونتاج مقابل الصور التي يتألف منها منفردة، وبذلك يتحكم المخرج في ردة فعل المشاهد والانفعالات التي يستثيرها الفيلم.
بقيت الإشارة إلى أن دور المونتاج، من حيث هو أداة يمكن توظيفها إيديولوجيا، لا يقتصر على تصوير معتقدات وقيم اجتماعية، بل يتعدى ذلك إلى استحثاث ردّات فعل متوقعة ضمن الخطاب الذي يُلزم به الفيلم نفسه.
يتضح أنّ من المفاهيم المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمونتاج والتي أسهمت في تطوره، أثر كوليشوڤ الذي أشرت إليه آنفًا؛ يرى كوليشوڤ أن المونتاج يبني معناه من تجميع اللقطات وحشدها واحدة تلو الأخرى، مثلما يبني الطوب جدارًا، ثم بالتقطيع المتداخل لتلك اللقطات. تحكم تلك اللقطات المكوّنة للمونتاج علاقة ترابط linkage . فصورة وجهٍ محايد خالٍ من التعابير تكتسب معناها من اللقطات المجاورة لها. وهذا يعني أن معنى اللقطة ليس ثابتًا وإنما يُبنى من خلال التداخل مع لقطات أخرى. من هنا تنبع أهمية التحرير السينمائي في التعبير عن سرد الفيلم ومحتواه العاطفي. لكن آيزنشتاين لا يرى أن العلاقة بين اللقطات علاقة ربط وترابط، ولكنها علاقة تصادم وتضارب collision، إذ من تصادم عاملين يظهر مفهوم ما. لهذا فالمونتاج في نظر آيزنشتاين قائم على الصراع. ولأنّ اللقطة تمثل خلية للمونتاج وليست عنصرًا أو مكوّنًا له، فإنّ الصراع في اللقطة مونتاج محتمل. وعليه يكون المونتاج فكرةً تنشأ من جراء تصادم لقطات مستقلة، بل لقطات متضادة، وهو مبدأ درامي بشكل أساسي، فمجاورة الصور واللقطات على هذا النحو تجبر المشاهد على الانخراط في عملية توليف ذهنية لحل الصراع الناجم من التعارض بين السمات الدلالية المنفردة للّقطات.
على ضوء هذا التفريق، يمكن فهم مقاربة آيزنشتاين الديالكتيكية للشكل الفيلمي؛ فهو يقدم إطارًا نظريًا متجذرًا في المفهوم الفلسفي «المادية الجدلية» الذي طوّره ماركس وأنجلز، يكون فيه الواقع تفاعلًا حيويًا بين قوى متضادة تفرز أشكالًا جديدة عبر التوليف. يربط آيزنشتاين هذا المفهوم بالصراع الذي يعتمد عليه العمل الفني في وجوده، سواء من حيث طبيعته أو من حيث مهمته الاجتماعية أو من حيث منهجيته. ويرى أن الفيلم لا ينبغي أن يقلّد المسرح أو الأدب، وإنما عليه أن يسخّر إمكاناته الخاصة للتلاعب بالزمن والمكان والسرد وإشراك المشاهد في عملية فعالة وفكرية، وهي عملية إنتاج المعنى، لما له من دور في تعزيز قدرة الفيلم على دفع المشاهدين إلى التفكّر تفكرًا نقديًا في التعليق الاجتماعي والسياسي المتحقّق غالبًا من خلال المونتاج.
أما أندريه بازان فانحاز إلى الواقعية السينمائية، وهي مصطلح يضم مجموعة من التقنيات والوسائل الأسلوبية والسردية التي استخدمها صُنّاع الأفلام، لمقاربة الواقع وإظهاره سينمائيًا. ومنها أنه فضّل اللقطة الطويلة long take في السينما على المونتاج، نظرًا لأنها جاءت متأخرة في مسيرة تطور الوسيط السينمائي ولِما يتركه الطول الزمني للّقطة من أثر. وما دفع بازان إلى هذا التفضيل أمران، أولهما أن اللقطة الطويلة أكثر واقعية من المونتاج، وثانيهما أن اللقطة الطويلة تستدعي من المشاهدين مشاركةً أكبر مقارنة بباقي الأساليب. فمن حيث الواقعية تلتزم اللقطة الطويلة بالكيفية التي يوجد بها الزمان والمكان في الواقع أو يظهران بها على الأقل، إذ تقترب اللقطات السينمائية المأخوذة بهذه الطريقة مما هو حاصل في الواقع. كما يألف الجمهور إحساسه بالزمان والمكان الممثلَيْن في المشهد بسبب أنه مطابق أو يكاد لتجربته الواقعية، وهذا ما لا يمكن أن يقال عن المونتاج الذي تختلف علاقته بالواقع اختلافًا جذريًا. ويوضَّح هذا الفرق بالقول إن مشهد المونتاج لا يمكن إعادة تمثيله على الواقع من جديد بخلاف اللقطة الطويلة أو الميزانسين mise-en-scène.
ومن ناحية مشاركة الجمهور فتتطلب اللقطة الطويلة تركيزَ المُشاهد وانتباهه لفهم ما هو واقع في المشهد، وغالبًا ما يحدث أن يحتوي المشهد على إحالات إلى أحداث وتجارب تقع في الماضي أو المستقبل ليس للجمهور من سبيل إلى معرفتها إلا من خلال هذه اللقطة. هكذا تتمتع اللقطة الطويلة بغموضٍ أكبر وانفتاحٍ أوسع على التأويل مقارنة بالمونتاج الذي تحكمه القصدية العالية ومن ثَمّ تحدد فرص الغموض والتأويل فيه، ما يقلل من مشاركة الجمهور في إنتاج المعنى.
على ضوء هذا الرأي، يقف بازان موقفًا متشككًا من المونتاج، فقد أخذ على آيزنشتاين والجماليات السوڤييتية عمومًا تشظية الواقع في هيئة سلسلة من اللقطات المنفصلة يُعاد تجميعها في المونتاج. إضافة إلى ذلك فإنّ المونتاج يقع ضحية للتجريد الإيديولوجي ويدفع المشاهد إلى طريق محدّد سلفًا من الانتباه والتأويل ويعبّر عن واقعٍ مؤلَّف تحدده نظرة المحرر أو المخرج، بينما الميزانسين يتشكل وفق الشكل الطبيعي للواقع بأشخاصه وأشيائه. هكذا يحتفي بازان باللقطة الطويلة التي لا تتعرض للمقاطعة بفضل قدرتها على محاكاة أبرز جوانب الطبيعة، ألا وهو استمراريتها. لا يمنع الميزانسين أن يطابق الواقع خارج الإطار الفيلمي إلّا محدوديته الزمنية والمكانية، ولذلك يعطي المشهد المصوَّر فيه إيحاء واهما بامتداده أبعد من حدود الإطار. وهذا يفسر احتفاء بازان بمواطنه المخرج جان رينوار الذي يعدّه الأولُ أفضلَ المخرجين الفرنسيين على الإطلاق. وقد قال في معرض حديثه عن رينوار: «بطريقة أو بأخرى فإن السينما الجيدة بالضرورة أكثر واقعية من السينما الرديئة». وهكذا يكاد بازان أن يضع الواقعية معيارًا للجودة في السينما.
لقد ارتبط كثير من محاولات تعريف السينما والتنظير فيها بدراسة علاقتها بالواقع ومنهجها في إعادة تمثيله، كما يُنظر دائمًا إلى الفنون التعبيرية باعتبارها مساعي لتصوير واقعٍ ما وتقديمه، باستخدام أساليب وتقنيات تميّز كل فنٍّ عمّا سواه. فمثلا يرى بازان أن «مبدأ أسلوب المخرج السينمائي يكمن في الطريقة التي يعطي بها الواقعَ معناه»، وبالنظر إلى موقفه من المونتاج نفهم ربطه الجودة السينمائية بالواقعية. ويجدر بالذكر أن بازان لا يضع الواقعية في مقابل التجريد، بل إنه يشترط وجود ضرب من العلاقة الجدلية بين الواقع والتجريد في السينما الجيدة، أو في السينما فحسب، إذ هي بحسب بازان أكثر الفنون مادية وفي الوقت ذاته أكثرها قابلية للتجريد. إنه يضع الواقعية في مقابل الصنعة artifice، وهذا لا يعني في نظره أن الواقعية تدل على غياب الأسلوب.
أودع بازان مقاله «أنطولوجيا الصورة الفوتوغرافية» (١٩٤٥م) أفكاره التي وُصفت لاحقًا بأنّها جوهرانية ومضادّة للحداثة. وفيها استمر يبحث العلاقة بين الوسيط السينمائي بكل تقنياته وبين الواقع وإعادة تمثيله تمثيلًا أمينًا، وعند دراسته لغة تعبير الفيلم يقارنه بأشكال الفن الأخرى، مشيرًا إلى أن التصوير الذي تقوم عليه السينما يفوق باقي الفنون قدرة إبداعية، بفضل الدقّة والموضوعية الفائقة التي تضمنهما الكاميرا في تصوير موضوعها في لحظة معينة من الزمن. ولذلك فبازان يعرّف السينما بأنها «الموضوعية في الزمن». إذ يقدم الفيلم صورة للعالم الزماني والمكاني لكنها متحررة من شروط العالم الحقيقي المتعلقة بالزمان والمكان.
بهذا المعنى يحنّط الفيلم التغيير الذي يحدث في الزمن بحسب تعبير بازان. بسبب هذه العلاقة الملتصقة بالواقع لا يخلق التصوير الخلود، كما يفعل الفن التشكيلي مثلًا، بل يحنّط الوقت منقذًا إياه من التلف المتأصل فيه. وبسبب هذا الالتصاق يسعى التصوير إلى الإسهام الفعلي في نظام الطبيعة، عوضًا عن مجرد توفير بديل له، وهذا ما دفع بازان إلى الاعتقاد أن السينما حررت الفنون البصرية من التزامها تجاه الواقع. ويعني هذا أن السينما أصبحت أمامها مسؤولية مختلفة فيما يخص الواقع، وهي أن السينما تستغل علاقتها المباشرة بموضوعها في السعي إلى كشف الواقع وتعريته.
في الختام يفرّق بازان بين صنفين من الأفلام؛ أحدهما يعتمد على الصورة والثاني يعتمد على الواقع. الأول مبنيّ ويعمد إلى استثمار المونتاج، والآخر طبيعي ويراهن على الميزانسين، ولأن الفيلم الذي يعتمد على الصورة والمونتاج يتدخل في تشييد واقعه تشييدًا مصنوعًا فإنه يفرض اتجاهًا معينًا ويتدخل في الطريقة التي تحكم تحديق المشاهِد، ومن ثَمّ يؤسّس في الغالب تأويلًا واحدًا بحسب رأيه.
ومع ذلك فإن أفكار بازان لم تستبدل أفكار آيزنشتاين، ولكن يمكن النظر إلى هذين التصورين باعتبارهما منهجين مختلفين في التعامل مع أداة سينمائية وتقنية مؤثرة، إلا أنهما أيضًا يسمحان بطيف من الرؤى حين يتعلق الأمر بالمونتاج. وهذا ما حصل بالفعل، فالنظرة إلى المونتاج قد مرّت بتحولات عبر الزمن، ومع ذلك يمكن إيجازها في أن المونتاج اعتُبر في البداية، وخاصة في السينما السوفيتية، بمثابة كل شيء في السينما، بينما لا يعتبر تقريبًا الآن شيئا أكثر من كونه مجرد واحدة من أدوات التحرير السينمائي. ولعل تفسير هذا المآل يكمن في خفوت صوت الإيديولوجيا الذي كان سائدًا في الفترة التي برزت فيها نظرية المونتاج. ولكنْ حسبُ هذه المقالة أن عرضت ملخصًا لتطور مفهوم المونتاج بواسطة تتبّع أفكار قطبين حاسمين في التنظير لهذه التقنية السينمائية وممارستها.
قائمة المراجع:
أندرو، دادلي. ما هي السينما! من منظور أندريه بازان. ترجمة زياد إبراهيم. مؤسسة هنداوي، ٢٠١٨.
Eisenstein, Sergei. Film Form: Essays in Film Theory, trans. Jay Leyda. New York: Harvest/HBK. 1977.
Eisenstein, Sergei. The Film Sense, trans. Jay Leyda. New York: Meridian Books, 1957.
Bazin, André. Jean Renoir, trans. W. W. Halsey II & W. H. Simon. London and New York: W. H. Allen, 1974.
Bazin, André. What Is Cinema? Vol. 1., trans. Hugh Gray. Berkeley and Los Angeles: University of California Press, 1967.
