عودة

سكورسيزي: من مقعد الإخراج إلى قفازات الأرشيفي


طارق خواجي

14/04/2025

في إحدى رحلات الطيران الطويلة، قررت مشاهدة عدد من الأفلام، أُزجي بها الوقت وأتابع ما فاتني من جديد أو قديم. ولحسن حظِّي وجدت ضمن قائمة الأفلام المتاحة، فيلم المصري شادي عبد السلام «المومياء»، فتحمّست للمشاهدة، وسريعًا غبت في الفيلم الذي وجدته مختلفًا عما شاهدته من قبل.

كان الفيلم بجودةٍ استثنائية، من الصورة إلى الصوت، وهو الأمر الذي استفز فيّ البحث عن فكرة أنه قد يكون نسخة مرمّمة، وصَدَق حدسي، لكنّ المفاجأة أثناء البحث أنّ هذا أمر معلوم لدى المهتمّين بالسينما العربية، وأنّ الفيلم رُمِّم على يد «مؤسسة الفيلم» The Film Foundation، التي أنشأها المخرج الأمريكي مارتين سكورسيزي، بالتحديد ضمن مشروع سينما العالم، الذي بدأ عام 2007م. كنت على علم بالمؤسسة وبجهود سكورسيزي في حفظ وترميم أفلام أوروبية عدّة، لكنّ فيلم المومياء تجاوزني أو تجاوزته في المعلومات العامة التي كنت على علم طفيف بها.

منذ ذلك الوقت، زاد اهتمامي بالأمر، وبخاصة أنني رَأَستُ أرشيفًا ضمن المكتبة التي توليت إدارتها في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي - إثراء، فكان ارتباطي بالأرشيف يكمن في الشهادات المروية والمواد الوثائقية، ولم أتطرق مطلقًا إلى الفيلم الروائي لأنه خارج نطاق العمل المؤسسي، لكنّ اهتمامي الشخصي، تضاعف كثيرًا، بخاصة عندما دخلت فترة الاهتمام بسينما أوروبا الشرقية التي أولاها سكورسيزي عناية خاصة، ورمّم جواهر منها، كان ينتظرها عشاق السينما حول العالم. في مقالته المنشورة على موسوعة بريتكانا، «حفظ الأفلام: الحاجة الماسة»، يكشف سكورسيزي عن السرّ الذي دعاه للنهوض عن كرسيّ المخرج، ليعتني بأفلام المخرجين حول العالم: «لماذا؟ لماذا نحفظ الأفلام أصلًا بينما هناك الكثير من الأمور الأكثر أهمية وإلحاحًا، تستحق الإنفاق عليها؟ إن الإجابة بسيطة للغاية. تُقدّم السينما لنا شيئًا ثمينًا: سجلاً لأنفسنا في الزمن، مُوثقًا ومُفسرًا. إن الحاجة إلى دمج الزمن والحركة في تصوراتنا لأنفسنا، تعود إلى بدايات البشرية، ويُمكنك أن تلمسها في اللوحات على جدران الكهوف في لاسكو، وهذا ينطبق، في الحقيقة، على كل شكل فني. إذ تُتيح لنا السينما طريقةً للتعامل مع غموض هويتنا وماهيتنا».

بدأت الفكرة تُلحُّ على سكورسيزي، في وقت مبكّر، عكس ما أتوقع أو يتوقع البعض. حدث هذا في السبعينيات عندما ذهب سكورسيزي لمشاهدة فيلم «سنوات الحِكّة السبع» لبيلي وايلدر عام 1955م، ومن بطولة مارلين مونرو وتوم إيويل. لقد بدا الفيلم المصور بتقنية ألوان ايستمان، باهتًا للغاية ومتعذر المشاهدة. يقول سكورسيزي: «لم يكن الأمر مجرد بَهَتان، بل كان دليلًا واضحًا على التلف، ولأنها نسخة إستوديو، فقد كانت دليلًا على تعرضها للإهمال. فإلى جانب فقدان اللون، أدركتُ أن الأداء قد ضاع أيضًا، وضاعت معه الشخصيات. لقد تحولت عيون الممثلين إلى دوائر ملطخة باللونين البني أو الأزرق، مما يعني أن ارتباطهم العاطفي ببعضهم وبالجمهور قد تلاشى. لقد كانوا يمشون على الشاشة كالأشباح، وهو ما يعني أن السرد بأكمله قد ضاع. في جوهره، كان الفيلم قد تلاشى».

قرر سكورسيزي منذ تلك اللحظة، في تلك الليلة، أن يفعل شيئًا؛ فقام بتعليم نفسه والاستفادة من خبرة العاملين في المجال، واكتشاف أن تقنية إيستمان عرضة للبَهَتَان وغير مستقرة، مقابل تقنية التكنيكولور، لكنّه تعلّم أيضًا أن نسخ الأفلام جميعها، سواءٌ كانت ملونة أو بالأبيض والأسود، فإنها عرضة لما يسمى بمتلازمة الخلّ، حيث تتعرض النسخة للتحلل الكيمائي، وتبدأ المطبوعة بالتحلّل مع قاعدة الفيلم في الشريط السينمائي، وتظهر رائحة الخل التي يبدأ معها الشريط السينمائي المطبوع بالتجعد والانكماش، ويصبح الضرر غير قابل للإصلاح. بدأ سكورسيزي بالتعامل مع الأمر بجديّة أكثر عندما اكتشف حجم الضائع في السينما الأمريكية، بالتحديد قبل عام 1950م، وبنسبة تصل إلى نصف المنتج قبل هذا العام بحسب قوله.

قام مارتين سكورسيزي بحملة واسعة في أواخر الثمانينيات، حيث التقى ببوب روزن مدير أرشيف الأفلام والتلفزيون بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس في ذلك الوقت، مع محاولة استقطاب الأرشيفات المستقلة وإستوديوهات الإنتاج، وقاده هذا المسعى النبيل إلى تأسيس «مؤسسة الفيلم» The Film Foundation عام 1990م، بالتعاون مع فرانسيس فورد كوبولا، ووودي آلن، وستانلي كوبريك، وروبرت ريدفورد، وسيدني بولاك، وجورج لوكاس، وستيفن سبيلبرغ، وكلينت إيستوود. واستطاع هذا التجمّع الثقيل من حفظ وترميم أكثر من ثمانمائة فيلم. كانت أعمال الترميم في تلك الفترة تقودها ثورة الكيمياء الضوئية، لكنّ الأمر تغيّر بعد منتصف التسعينيات، حيث دخلت التقنيات الرقمية وأصبحت هي الأصل في عمليات الحفظ والترميم، وكان أول فيلم يتم حفظه رقميًا هو فيلم فرانك كابرا «محبوبة ماتينيه» الصامت في عام 1928م، في تعاون بارز بين ثلاثة أرشيفات، هي سينماتيك فرانسيز الفرنسي، وسينيتيكا دي بولونيا الإيطالي، وأكاديمية الأفلام الأمريكية.

ما يجعل تجربة سكورسيزي تجربة تستحق الاهتمام، هو وعيه بالتغيّرات الكبيرة التي تجري اليوم، على صعيد الإنتاج السينمائي، حيث تُصوّر معظم الأفلام رقميًا، وتبعًا لذلك تأتي عملية الحفظ والاهتمام، وتراجع مفهوم الترميم مقارنة بما كان في السابق. لكنّ هذا الأمر لا يعني سهولة الحفظ، بل إن التحديات أصبحت أكثر جدية في طريقة الحفظ وضبطه. مع تراجع مختبرات الترميم اليوم، حيث لم يتبق سوى القليل منها على مستوى العالم، ومع ظهور منصات البثّ المباشر التي أصبح الاشتراك فيها عادة لأغلب المنازل في العالم، وفي أيدي الأجهزة التي يحملها الكبار والصغار، فإن أغلب النسخ التي بين أيدينا هي النسخ التي تُبثّ من خلال باقة السينما الرقمية، التي ترسلها إستوديوهات الإنتاج مباشرة إلى منصات البث المباشر، ودور العرض السينمائية، وشركات بيع الأقراص المدمجة التي ما تزال تحظى بجمهور يحب امتلاك النسخ المادية أو ما يحب تسميتها سكورسيزي بالحقيقية، التي تحرص مؤسسته على امتلاكها حتى اليوم.

يشير سكورسيزي إلى ذلك بقوله: «كما نعلم جميعًا، فإن المعلومات الرقمية تختفي أحيانًا، وقد حدث هذا لأكثر من فيلم من إنتاج إستوديو كبير. إن الهدف الآن هو الانتقال المنهجي من التنسيق الرقمي المتطور الحالي إلى التنسيق المتطور التالي، لكن هذا الأمر يتطلب يقظة أكبر من أي وقت مضى من جانب المالكين. في الوقت الحالي، لا تُشاهد الأفلام في دور السينما، بل عبر البث المباشر على أجهزة الكمبيوتر أو أنظمة الشاشة الرئيسية، مما يعني أن معايير قبول الترميم والحفظ والعرض قد تغيرت، بل أعتقد أنها أصبحت أكثر صرامة. في المستقبل، يجب الحفاظ على ذكرى صورة الفيلم الحقيقية بعناية واهتمام كما هو الحال مع أي قطعة أثرية قديمة في متحف المتروبوليتان. ولهذا السبب، تُصرّ مؤسسة الفيلم دائمًا على إنشاء عناصر فيلمية حقيقية - سلبية وإيجابية - لكل عملية ترميم نشارك فيها».

في العام المنصرم 2024م، وفي مهرجان «تيرنر كلاسيك موفيز»، كان العرض العالمي الأول لفيلم «الباحثون» لجون فورد المنتج في عام 1959م، من بطولة جون واين وناتالي وود. ولهذا الفيلم مكانة خاصة في قلب سكورسيزي وغيره من المخرجين، كما يعتبر فيلمًا مؤثرًا في كثير من أفلام المخرجين الذين جاؤوا بعد فورد في السينما الأمريكية، لذا بدا طبيعيًا أن تكون «مؤسسة الفيلم» The Film Foundation شريكة في عملية ترميم الفيلم مع مؤسسة وارنر بروذرز المالكة لتيرنر كلاسيك موفيز، ومنصتها المدفوعة الأجر للبث المباشر.
صُوِّر فيلم «الباحثون» بتقنية فيستا فيجن، التي تُعتبر أفضل تقنية للتصوير العريض في الخمسينيات، لذا قرّر الأرشيفيون استخدام تقنية الكاميرا السلبية، فيستا فيجن، ذات الثماني فتحات للحفاظ على كل تفصيل وجمال في إطارات فورد الأصلية، وكانت النتيجة نسخة بمقاس 70 ملم، وملحمية إذا جاز التعبير. من خلال هذه الممارسة يؤكد سكورسيزي مرة أخرى على أهمية وجود النسخة الحقيقية للفيلم، حيث عولج الفيلم بتقنية الكيمياء الضوئية كما يفعل مؤرشفو الأفلام في التسعينيات، لكن الفيلم كذلك حُوّل لنسخ رقمية، ما يعكس الوعي بضرورة الحلول الحديثة، دون نسيان خطورة ضياع المعلومات الرقمية أو تعطّلها لأي سبب كان.

إنّ أرشفة الأفلام، عمل يتجاوز الأفراد، أو حتى المؤسسات التي يديرها أفراد هم بحاجة إلى التمويل، ما لم تكن الصناعة في طور متقدم، ببنية تحتية قادرة على تدوير المال في الإنتاج والعرض والحفظ والترميم، كما هو الحال في دول مثل الولايات المتحدة أو الهند. إنه جهد تشاركي، يحتاج إلى الخبرة مع التمويل والتعاون، ففيلم «المومياء» الذي ذكرته في أول المقال، كان نتيجة تعاون في الدعم بين مشروع سينما العالم التابع «لمؤسسة الفيلم» The Film Foundation، ووزارة الثقافة المصرية، وكان الترميم في مختبر «ليماجيني ريتروفاتا» التابع لسينيتيكا دي بولونيا الإيطالي السالف ذكره، وعرض في عام 2009م بمكتبة الإسكندرية بحضور سكورسيزي، الرجل الذي يؤمن بأن الأفلام لا تنتهي بإخراجها وعرضها، وإنما بمنحها الحياة، وإنْ تمدّدت على أرفف الأراشيف، لأنّ هناك مشاهدين آخرين، قادمون في الطريق.