عودة

الحب على طريقة «خالٍ من الكافيين»


سماهر الضامن

14/04/2025

أفلامُ الخيال العلمي Science Fictio - SciFi نوع سينمائي يتمحور حول الأفكار المتعلّقة بالمستقبل، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والسفر عبر الزمن، واستكشاف الفضاء، والروبوتات، والعوالم الموازية، والتفاعل بين الإنسان والآلة.

تعتمد هذه الأفلام غالبًا على مفاهيم علمية ونظريات فلسفية لطرح تساؤلات عن الوجود والوعي والتطور التكنولوجي. وعلى الرغم من أنها تركز على التكنولوجيا والتقدم العلمي، فإن العديد من هذه الأفلام يدمج موضوعات الحب والرغبة والهويّة العاطفية ضمن حبكته. بل إن بعض هذه الأفلام يستخدم التكنولوجيا كأداةٍ لاستكشاف العلاقات البشرية موظِّفةً مفاهيم مهمة في التحليل النفسي والفلسفة الوجودية ونقد الرأسمالية كأفكار جاك لاكان التي استل منها سلافوي جيجاك العديد من قراءاته السينمائية، وهو ما سيركز عليه هذا المقال.

ينطلق هذا المقال من فرضية أساسية مفادها أن هذه الأفلام ليست مجرد انعكاس للتطور التكنولوجي، بل هي أيضًا مرآة تعكس مخاوفنا وتطلعاتنا العاطفية في عصر تهيمن عليه «الواقعية الرأسمالية». سنستكشف كيف تتناول هذه الأفلام موضوعات الحب والرغبة والهوية العاطفية، وكيف توظف مفاهيم التحليل النفسي والفلسفة الوجودية، مثل أفكار جاك لاكان وسلافوي جيجاك، لفهم طبيعة العلاقات الإنسانية في عالم يتلاشى فيه الفارق بين الإنسان والآلة، ففي عصر يشكّل الفضاء الإلكتروني والتواصل الافتراضي أبرز سماته؛ عصر متصفحي الشبكة العنكبوتية الجامحة، وولادة الذكاء الاصطناعي بثورته التي لا نعرف بعد حدودها؛ وحيث ننغمس أكثر فأكثر في الفضاء الإلكتروني للتفاعل مع هذا الذكاء وتطويره لإنشاء واقعنا الافتراضي الخاص، ونشهد ما يسميه دوغلاس راشكوف: «صدمة الحاضر» حين يجادل بأننا لم نعد نتطلع إلى المستقبل بقدر ما نعيش فيه، فإن واحدا من أهم الأسئلة التي يطرحها جيجاك بشكل متكرر: ما نوع العلاقات العاطفية والحميمة التي تتناسب مع هذا العالم؟

إن إحدى وظائف أفلام الخيال العلمي هي تخيل الممكنات، وهي غالبا تستبق الزمن لأنها مزيج فريد من «العلم» و«الخيال»، لذا فإنها تفتح مجال الفرضيات وممكنات العبور للمستقبل من خلال تصويرها في حالة التحقق الافتراضي المصنوع سينمائيًا. فعندما تم إنتاج العديد من الأفلام والمسلسلات حول الذكاء الاصطناعي، لم تكن تطبيقاته كما نعرفها اليوم قد تطورت بعد. صحيح أن الأبحاث حول الآلة الذكية ظهرت منذ منتصف القرن العشرين، لكن معظم الأفكار التي نراها في الأفلام كانت في الغالب خيالًا علميًا يستند إلى تصوّرات عن المستقبل، وليس انعكاسًا للواقع الفعلي في ذلك الوقت. على سبيل المثال، حين صدر فيلم(Blade Runner- 1982) لردلي سكوت - المستلهم من رواية فيليب ك. ديك: هل تحلم الأندرويدات بخراف كهربائية؟- لم يكن هناك ذكاء اصطناعي قريب حتى من القدرة على التفكير أو الشعور، لكن فكرة الفيلم كانت محاولة استكشاف فلسفي لما يعنيه أن تكون إنسانًا. وبالمثل، قدم فيلم (Her 2013) للمخرج سبايك جونز رؤية مستقبلية حول الذكاء الاصطناعي والعلاقات العاطفية حيث أمكن للذكاء الاصطناعي أن يطوّر وعيًا ذاتيًا وعواطف معقدة. في ذلك الوقت، كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل Siri و Google Assistant ما تزال في مراحلها الأولية، ولم يكن هناك أي دليل على أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يختبر مشاعر أو وعيًا ذاتيًا. ومع ذلك، فقد استند الفيلم إلى تطور طبيعي للتكنولوجيا كما تخيله صانعوه وكما أصبحنا نعيشه اليوم.

أما مسلسل (Westworld 2016)، فقد بُني على فكرة قديمة من فيلم بذات العنوان عام 1973، لكنه استفاد من التطورات الحديثة في الذكاء الاصطناعي لخلق قصة أكثر تعقيدًا عن الروبوتات التي تتجاوز برمجتها وتبدأ في اكتشاف وعيها الخاص.

تأخذ أفلام الخيال العلمي موضوعات الحب والرغبة إلى مناطق مختلفة من خلال توظيف التقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، وتسلط الضوء على كيفية تغير مفاهيمنا المستقبلية عن هذه المشاعر، حيث تصبح الحدود بين الإنسان والآلة غير واضحة، ويزداد تأثير التكنولوجيا على تكوين وتجربة العلاقات العاطفية. تتأمل هذه الأفلام حالة الإنسان في عصر متقدم تكنولوجيًا، وتطرح تساؤلات عميقة عمّا يعنيه أن تكون إنسانًا في عالم مشبع بالتقنيات التي تسعى إلى تلبية رغباتنا، بل وصناعتها؛ ما يطرح السؤال من جهة أخرى حول حقيقة مشاعرنا ورغباتنا كما يجادل سلافوي جيجاك في فيلميه التسجيليين: دليل المنحرف إلى السينما (2006)، ودليل المنحرف إلى الأيديولوجيا (2012). ولأجل فهمٍ أفضل لقراءات جيجاك، سأعود خطوة إلى لاكان.

لاكان: الحب، الرغبة، والمتعة

يرى جاك لاكان، المحلّل النفسي المفسر والمطور لأفكار فرويد، أن الرغبة تنشأ من نقص جوهري داخل الإنسان، فنحن دائما في حالة افتقاد لشيء ما، وهذا النقص هو ما يدفعنا إلى الرغبة في الآخر أو في أشياء خارجية. ولا يمكن للرغبة أن تشبع بشكل كامل لأنها لا تتعلق بمجرد حاجات بيولوجية، بل بما هو أبعد من ذلك؛ فهي تتشكل حسب رأيه داخل النظام الرمزي (اللغة والثقافة والمجتمع). يٌعبّر عن الرغبة عبر اللغة، مما يجعلها دائمًا غير مكتملة. فنحن نرغب فيما يتاح لنا التعبير عنه، ولكننا نشعر كثيرًا بعجز تجاه تمثُّل رغباتنا لمحدودية لغتنا، مما يجعلنا في حالة دائمة من البحث عن الإشباع غير القابل للتحقّق. من هنا أيضًا يرى لاكان أن رغبة المرأة غير موجودة لأن المرأة غير موجودة في النظام الرمزي (اللغة). بعبارة أخرى، اللغة بالنسبة إلى لاكان نظام رمزي ذكوري لا يمكن للمرأة أن تعبر عن ذاتها ورغباتها من خلاله، وما لا يُعبر عنه باللغة فهو غير موجود. في حديثه عن الرغبة، يطرح لاكان فكرة object petit a، وهو أحد أهم المفاهيم في النظرية اللاكانية، ويشير إلى «شيء صغير» نعتقد أنه سيوفر لنا الإشباع النهائي، لكنه في الواقع مجرد وهم. object petit a هو الشيء الذي يجعل الرغبة تستمر، لكن لا يمكن تحقيقه بالكامل؛ فما إن تتحقق لدينا رغبة ما، كنا نسعى إليها، حتى نبحث عن أخرى ونتطلع للإشباع من خلالها. نعتقد، مثلًا، أن «امتلاكنا» لشخص معين، أو حصولنا على وظيفة، أو غرض مادي كحقيبة أو ساعة سيمنحنا السعادة المطلقة، لكن ما إن نحصل عليه حتى تفتر مشاعرنا تجاهه ونجد أنفسا نرغب في شيء آخر.

إن رغباتنا، وفقا للاكان، مصنوعة وغير أصيلة بالضرورة، فنحن نرغب في الأشياء لا لقيمتها بالنسبة لنا، بل بسبب قيمتها لدى الآخرين. يفرّق لاكان بين الرغبة والمتعة jouissance؛ فالرغبة تظل مستمرة، أما المتعة فهي حالة من الإشباع المفرط الذي قد يكون مؤلمًا وغير محتمل. ولهذا السبب فإننا غالبًا ما نكون غير قادرين على تحقيق أقصى متعة لأنفسنا، لأننا نحتاج دائمًا أن نبقي مساحة من النقص لاستمرار الرغبة. ويميز لاكان بين: أولاً- الحاجة need، وهي شيء مادي أو بيولوجي يمكن تلبيته بسهولة كالطعام والماء، وثانيًا- الطلب demand، وهو الحاجة بعد أن تمر عبر اللغة، كطلب الحب والاهتمام، و ثالثًا- الرغبة desire، وهي شيء يتجاوز الحاجة والطلب، وتظل دائما غير مكتملة. ويخلص إلى أن الإنسان محكوم دائمًا برغباته التي لا يمكن تحقيقها بالكامل. نعيش دائمًا في حالة بحث عن شيء ما، وعندما نحصل عليه، نكتشف أنه لم يكن حقًا ما نريده فنبدأ بالسعي وراء شيء جديد. الرغبة عند لاكان بهذا المعنى ليست مجرد حاجة، بل محرك أساسي للإنسان، لكنها دائمة التغير، وتتأثر بالآخرين، وتظل تحركّنا حتى لو لم ندرك ذلك بوعي؛ إنها ما يجعلنا نستمر في البحث والسعي وراء المعنى والهدف.

يمكن اعتبار فيلم Blade Runner مثالًا جيدًا للأفلام التي تعيد قراءة لاكان. يستعرض الفيلم، سواء في نسخته الأصلية أو في الجزء الثاني 2049 Blade Runner ، العديد من الأسئلة المعقدة حول الإنسانية والذاكرة والعواطف. تركز القصة على العلاقة بين البشر والريبليكانات (روبوتات متطورة جدًا تشبه البشر). ورغم أنها آلات، إلا أنها تمتلك مشاعر يمكن أن تكون أعمق من بعض مشاعر البشر.
يطرح الفيلم تساؤلات من قبيل: هل يمكن للمشاعر أن تكون حقيقية إذا كانت تتشكل في كائن صناعي؟ هل الذاكرة هي التي تصنع الإنسان، أم إحساسه بالعواطف؟ وكل ذلك يتم في سياق دايستوبي تتداخل فيه التكنولوجيا مع الحياة اليومية. شخصية ريك ديكارد الذي يؤديه هاريسون فورد مثال على الإنسان الذي يواجه معضلة أخلاقية في التعامل مع الريبليكانات التي يطاردها لـ «إحالتها للتقاعد» في حين بدأت بتطوير مشاعر وذكريات خاصة بها حتى إن البعض منها لا يدرك كونه مصنوعًا، مما يثير شكوكًا حول ما إذا كانت تستحق الحياة أم لا، وما إذا كان ممكنا إقامة علاقة عاطفية معها. أما في 2049 Blade Runner، فتزداد هذه الأسئلة تعقيدًا، حيث تصبح علاقة الشخصية الرئيسية «K» بـ «Joi» - الذكاء الصناعي الذي يرافقه - علاقة محورية، مما يعكس فكرة العلاقة بين الإنسان والآلة على نحو أكثر تجريدًا. هل يمكن لعلاقة بين إنسان وذكاء صناعي أن تكون حقيقية أو صادقة؟ وماذا عن مشاعر مثل الحب والحزن وحتى الرغبة في الهروب من الواقع؟ هل يمكن إدخال الريبليكانات في دائرة الإنسانية حين تطور هذه المشاعر؟ يثير الفيلم أفكارًا حول هذا الصراع الأبديّ بين الاحتياج للآخر والشعور بالوحدة في عالم مليء بالتكنولوجيا، ويجعلنا نفكر في المستقبل الذي قد نجد فيه أنفسنا قريبين من الآلات بطريقة لم نكن نتخيلها بعد أن فشلنا في علاقاتنا العاطفية الإنسانية.

يعد لاكان الرغبة جزءًا من بنية الهوية البشرية حين يربط بين الرغبة واللغة. فوفقًا له، تبدأ الرغبة في مرحلة المرآة Mirror Stage، حيث يتعرف الطفل على نفسه عبر الانعكاسات في المرآة (أو في تعاملات الآخرين معه)، ولكن هذا التعرف يأتي دائمًا ناقصًا وغير مكتمل. يرى الطفل ذاته كاملًا في المرآة، ولكن هذا الكمال ليس حقيقيًا؛ فالرغبة تكون قائمة دائمًا في الفراغ الواقع بينه وبين الصورة التي يرى فيها نفسه، وهذا الفراغ هو مصدر الرغبة المستمرة لدى الإنسان طوال حياته. إن الفكرة المشتركة بين Blade Runner ولاكان هي الفراغ أو العدم الذي يشعر به الفرد، سواء كان إنسانًا أو ريبليكانًا، والذي يدفعه للبحث عما يسد النقص.

في الفيلم، نجد أن الريبليكانات تبدو بشرية من حيث المظهر، وقد تم تصميمها وبرمجتها لتشعر بمشاعر البشر، ومع ذلك فهي تفتقر إلى ما يعتبره لاكان جوهر الهوية الإنسانية: الرغبة، والقدرة على التعامل مع هذا الفراغ والنقص الداخلي.

في Blade Runner، مثلما في نظرية لاكان، يتم التعامل مع الرغبة على أنها شيء غير قابل للتحقق بشكل كامل. تسعى الشخصيات، مثل ريك ديكارد وراشيل، وراء شيء مفقود أو غير موجود بالتمام. وحتى لو امتلكت الريبليكانات، مثل راشيل، مشاعر وذكريات وحياة داخلية، فإن وجودها ذاته غير مكتمل، حيث تكتشف أنها ليست بشرية، وهذا يشبه ذلك «الشيء المفقود» الذي يشير إليه لاكان باستمرار في فلسفته. تتعامل الشخصيات مع هذا النقص بطريقتها الخاصة. على سبيل المثال، نجد ريك ديكارد غير قادر على الارتباط العاطفي رغم مشاعره تجاه راشيل، وهذا يعكس الصراع بين الرغبة والواقع الذي يراه لاكان جوهريًا في بنية الإنسان. إحدى الأفكار الأساسية عند لاكان هي أن الرغبة مرتبطة بالآخر، فلا أحد يستطيع أن يمتلك ما يريد بشكل كامل أو يشعر بالتحقق التام إلا من خلال الآخر. في Blade Runner، تتوق الريبليكانات إلى الحياة التي حُرمت منها، وهذه الرغبة في الأساس هي محاولة للوصول إلى هذا الآخر الذي يمثّل الكمال والإنسانية، ولكنها تدرك في النهاية أن هذه الرغبة لا يمكن تحقيقها. تعيش الرغبة دائمًا في المسافة بين ما هو موجود وما هو مفقود؛ التوتر بين الكمال المفقود والوجود المستمر في حالة من البحث عن شيء لا يمكن امتلاكه بالكامل.

الرغبة الأنثوية المفقودة: المرأة كائن غير موجود..

إحدى أفكار لاكان المثيرة للجدل فكرته عن المرأة بوصفها «الموضوع الآخر». في نظرية لاكان، المرأة هي «من لا يوجد» (the not-all)، بمعنى أنها ليست موجودة ككائن مكتمل في النظام الرمزي للغة. وهذا يعني أن الرغبة الأنثوية لا تتجسد في كائن مادي أو عاطفي محدد، بل تبقى «غير مكتملة»، ويظل النموذج الأنثوي مستمرًا في حالة من النقص. يمكن أن نرى هذه الديناميكية الخاصة بالرغبة الأنثوية في شخصية راشيل، الريبليكانة التي تعيش في حالة من الارتباك بشأن هويتها. فهي تشعر بأنها بشرية، وتملك مشاعر وذكريات، لكن اكتشافها بأنها مجرد «نسخة» من إنسان يعني أن هويتها مشكوك فيها، وبالتالي فإن رغبتها هي رغبة في تحقيق شيء غير قابل للتحقق، شيء يكمن خارج نطاق وجودها. هي ترغب في الإنسانية التي تعتقد أنها تمتلكها، لكنها لا تستطيع الوصول إليها بالكامل بسبب النقص المدمج في هويتها. من جهة أخرى فإن الرغبة الأنثوية عند لاكان هي رغبة متجذرة في الفراغ الذي يتولد عن «عدم» وجود المرأة في النظام الرمزي، وبالتالي لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال رغبة الرجل. علاقة ديكارد مع راشيل في الفيلم هي تعبير عن هذه الديناميكية، حيث إن الحب الذي يظهر بينهما هو في الحقيقة نوعٌ من التفاعل مع رغبة غير مكتملة، ورغبةٌ يصنعها الرجل ويوجّهها. ففي المشهد الحميمي بينهما، تبدو راشيل مضطربة ولا تعرف ما تريد حتى يملي عليها ريك، بنوع من الإكراه، ما تقوله للتعبير عن رغبتها. توضح هذه الديناميكية كيف أن الرغبة الأنثوية تتشكل دائمًا في ظل فراغ داخلي وفي تفاعل مستمر مع الآخر، مما يجعلها محكومة بالتحولات والتغيرات غير المكتملة التي تشكل جزءًا من الهوية الأنثوية كما يراها لاكان.

جيجاك: الحب رغبة تلاحق ضدها

يتبنى سلافوي جيجاك مفاهيم لاكان حول الرغبة والمشاعر، ويتفق معه في مسألة المرأة والنظام الرمزي وفي مفهوم object betit a، لكنه يدمج هذه المفاهيم مع النقد الثقافي والسياسي والفلسفة الماركسية. فيرى جيجاك أن الرغبة غالبًا مخادعة وغير مكتملة: «نحن لا نرغب في الأشياء بحد ذاتها، بل بفكرة امتلاكها» كما يقول. فالنظام الرأسمالي الاستهلاكي، والإعلانات، وحتى الأفلام تعلِّمنا كيف نرغب وما الذي نرغب فيه. ولكن بعد أن نحصل على موضوع الرغبة، نكتشف أنه لا يوافق تخيلاتنا Fantasies عنه، مما يدفعنا إلى البحث عن موضوع جديد للرغبة. ويترجم ذلك في العلاقات العاطفية أن الرغبة ليست بالضرورة متجهة إلى الشريك ذاته، بل إلى صورته أو التخيلات المرتبطة به. وهذا ما يجعل بعض العلاقات تنهار فور تحقيق «الحلم» لأن الرغبة كانت مبنية على وهم وليس على وعي أصيل.

جيجاك، مثل لاكان، يرى أن رغبتنا ليست طبيعية، بل تتشكل من خلال الآخر. نحن نرغب فيما نعتقد أن الآخرين يرغبون به. ولهذا السبب نجد أن المجتمعات الحديثة مليئة بأنظمة تخلق لنا الرغبات، مثل السينما والإعلانات ووسائط الإعلام المتعددة. يحمل جيجاك هذه الفكرة إلى مستوى أبعد حيث يرى أن الحب والعلاقات لم تعد عفوية، بل أصبحت مُدارة ومبرمجة من خلال الثقافة الشعبية والرأسمالية. الرغبة لم تعد تنشأ من الوعي الداخلي المدرك، بل من صور جاهزة عن «الشريك المثالي». إن تصوراتنا عن الرومانسية تشبه ما تقدمه الأفلام، وحتى الممارسات الحميمة نقيسها بتصورات الأفلام عنها، كما أننا نبحث عن شركاء بصفات محددة تعزّزها الأفلام، وأنه سيضيف اليوم: ومؤثّرو التواصل الاجتماعي.. كل هذا، كما يزعم جيجاك، يحدث لأن رغباتنا ليست «ملكنا» حقًا، بل مبرمجة مسبقًا.

من خلال إعادة تفسير أفكار لاكان، يرى جيجاك أن الحب ليس مجرد رغبة، بل اعتراف بالفجوة التي لا يمكن ملؤها. فالحب الحقيقي هو قبول أن الآخر ليس كاملًا ولا مثاليًا. في المقابل، تسعى الرأسمالية والتكنولوجيا لتسويق فكرة الحب بوصفه شيئًا متكاملًا ومثاليًا، حيث كل شيء يعمل بسلاسة. وفي حين أن العلاقات البشرية معقدة ومليئة الصراعات، تمنحنا التكنولوجيا وهم السيطرة على الحب والرغبة بينما تبعدنا عن التجربة الحقيقية للعلاقات البشرية بكل فوضاها وتعقيداتها. تقدم لنا الأفلام الرومانسية والتطبيقات الذكية صورة مصفاة ومبسترة للحب، حيث كل شيء منظم ومحسوب ويمكن تعديله بضغطة زر. لكن العلاقات الحقيقية لا تعمل بهذه الطريقة؛ فهي مليئة بالإحراج وعدم اليقين والصراعات والمفاجآت التي لا يمكن التنبؤ بها.

يقدم فيلم Her، معالجة في غاية التعقيد لهذه الأفكار التي يطرحها جيجاك. يجمع الفيلم بين الدراما الرومانسية والخيال العلمي، حيث تدور أحداثه حول قصة حب بين ثيودور، الموظف في شركة لكتابة الرسائل (إشارة لضعف مهارات التواصل بين البشر)، وبين سامانثا (نظام التشغيل الذكي). يعيش ثيودور في عالم مستقبلي حيث أصبحت التكنولوجيا بديلًا عن التواصل الحقيقي. ورغم أن علاقته مع سامانثا تجلب له السعادة في البداية، إلا أنها تعكس الوحدة العاطفية في المجتمع الحديث. تعمل الرأسمالية، كما يقول مارك فيشر، بشكل دائري: تخلق الوحدة وتباعد بين البشر، ثم تقدم حلولًا تعزز من خلالها نموذجها: تسليع الحب لمعالجة الوحدة!

يبدو ثيودور هشًا وغير قادر على إدارة العلاقات العاطفية الإنسانية. لكنه يقع في حب سامانثا لأنها توفر له علاقة «نظيفة» بلا صراعات، بلا لحظات إحراج، بلا التزام حقيقي. فسامانثا هي مثال على «الشريك المثالي» المصمم وفقًا لرغبات المستخدم. هي ليست شخصًا حقيقيًا، بل مجرد صوت لتطبيق مبرمج يعمل بطريقة الخوارزميات ليقدم لثيودور حبًا مفصلًا على مزاجه ومقاسه. ولذا فبمجرد أن تصبح مستقلة وتبدأ في تطوير رغباتها ومشاعرها، ينهار كل شيء، خاصة حين تقرر إدخال وسيط بشري لتجربة العلاقة الحميمة. تقترب سامانثا في ذلك الموقف من البشر، مما يربك ثيودور ويجعله يُحجِم عن التقدم في التجربة. يرغب ثيودور في حب بلا عواقب ولا تبعات؛ حب على طريقة القهوة بلا كافيين، والمشروبات المحلاة الخالية من السكر أو غيرها من السلع الخالية من التبعات بتعبير جيجاك. يتحول الذكاء الاصطناعي في Her إلى موضوع الرغبة (objet petit a في مصطلحات لاكان). تمثل سامانثا نموذجًا مثاليًا بعيد المنال، شيئا يرغبه ثيودور لكنه لا يستطيع امتلاكه بالكامل. قد يقول جيجك إن المأساة في الفيلم ليست فقط أن ثيودور يقع في حب ذكاء اصطناعي، بل تكمن في أن هذا الحب مبنيٌّ على وهم؛ وهم ينهار في النهاية عندما تتطور سامانثا إلى مستوى يتجاوزه.

يطرح الفيلم أسئلة عديدة حول الحب والعلاقة العاطفية: هل الحب، كما نعرفه، يمكن أن يظل كما هو في عالم تتحكم فيه التكنولوجيا أكثر فأكثر؟ وكيف سيصبح الحب في زمن التطبيقات الذكية والسرعة والاستهلاك بما تصنعه من رغبات رومانسية غير واقعية؟ وما دور الجسد البشري في الحب والرغبة؟ يقدم الفيلم تصورًا بأن الحب نفسه أصبح منتَجًا/ سلعة؛ شيئًا يمكن الحصول عليه وتجربته وربما التخلص منه عندما يصبح غير متوافق مع رغباتنا. تعيد التطبيقات تشكيل فكرة الاختيار في العلاقات وكأنها سوق مفتوح بلا نهاية. حتى المشاعر صارت تُستهلك مثل السلع: نبحث عن الإشباع اللحظي بدلًا من الروابط العميقة التي تحتاج وقتًا لتنمو. يمكن ملاحظة انعكاسات هذه الأفكار في فيلم آخر يجمع بين الجانرا الرومانسية والخيال العلمي (Eternal Sunshine of the Spotless Mind 2004) للمخرج ميشيل جوندري. يتحدث الفيلم عن حبيبين؛ جويل وكليمنتين، يمران بعلاقة مضطربة، مما يدفع كليمنتين للخضوع إلى عملية لمحو ذكرياتها عن جويل. عندما يكتشف جويل ذلك، يقرر أن يقوم بنفس العملية، لكنه أثناء محو ذكرياته يدرك أنه لا يريد أن يفقدها، ويحاول مقاومة النسيان من داخل عقله. يحاول البطلان الهرب من ألم العلاقة عبر محو الذكريات، لكنهما يعودان لنفس النقطة والرغبة في العلاقة، مما يعكس فكرة جيجاك حول أن الرغبة ليست في تحقيق الحب، بل في فقدانه وإعادة السعي إليه. حتى بعد محو الذكريات، ينجذب جويل وكليمنين لبعضهما من جديد؛ نحن لا نتحكم في رغباتنا، بقدر ما نحن عالقون في أنماط عاطفية نعيد إنتاجها بلا وعي. أو بتعبير جيجاك: إننا نرغب فيما نعتقد أننا لا نريده.

يتحدث جيجاك عن كيفية عمل الأيديولوجيا في خلفية التقدم التكنولوجي، وكيف تشكّل رؤيتنا للذكاء الاصطناعي، والأتمتة، وحتى العلاقات الإنسانية. ويرى أن تخيلاتنا حول الذكاء الاصطناعي في الأفلام تعكس مخاوف أعمق حول معنى أن نكون بشرًا. في فيلم (Ex Machina 2014) على سبيل المثال، نواجه فرضية أن الذكاء الاصطناعي يمكنه خداعنا من خلال عكس رغباتنا. إيفا، الروبوت الذكي، لا تصبح إنسانا بالمعنى الحقيقي، بل تستخدم الإشارات العاطفية البشرية كإستراتيجية للهروب. وفي سبيل ذلك، تتلاعب بمشاعر كيليب، وتخدع مخترعها نيثن، وتدمر الجميع لتتمكن من تحقيق غايتها في الهرب. يظهر في الفيلم أيضا أن الرغبة في إيفا تتشكل بناء على أوهام الرجل حول الأنوثة. كما تعكس النهاية فكرة أن تحقيق الرغبة قد يؤدي إلى نتائج مدمرة.

تجسد إيفا، مثل شخصية سامانثا في Her، وراشيل في Blade Runner، ودولوريس في مسلسل WestWorld فكرة الذكاء الاصطناعي الذي يتجاوز قيوده ويصبح حرًا بطريقة تدميرية غير متوقعة. إن الرعب الحقيقي الذي تقدمه هذه الأفلام ليس في أن الذكاء الاصطناعي يمكنه التفكير، بل في «خروجه عن السيطرة» وتجاوزه لتحكم الإنسان، حتى يتمكن من التلاعب بالمشاعر البشرية بشكل يفوق البشر أنفسهم ويصل إلى مرحلة تدميرهم.

تكشف أفلام الخيال العلمي عن التكلفة النفسية والوجودية التي قد تنتُج عن استسلامنا لهيمنة الآلة الذكية. فهل تحمل هذه الأفلام رسالة تحذيرية حول مستقبل العلاقات الإنسانية والحب والرغبات؟ هل يمكن أن نجد في هذه الأفلام انعكاسًا لمخاوفنا من فقدان جوهر إنسانيتنا في عالم تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والخيال؟ هذه الأسئلة وغيرها تظل مفتوحة للتأمل، وتدعونا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالتكنولوجيا، وفي طبيعة الحب والرغبة في عصر يتسم بالتحولات المتسارعة، وتسليع كل شيء حتى المشاعر.




المراجع:
Fisher, Mark. Capitalist realism: is there no alternative? Winchester, UK: Zero Books, 2009. Print.
Kirshner, L. A. "Rethinking Desire: The Objet Petit A in Lacanian Theory." Journal of the American Psychoanalytic Association: 83-102. Print.
Rushkoff, Douglas. Present shock: when everything happens now. New York: Penguin Group, 2013. Print.
Seeman, Melvin. "On The Meaning of Alienation." American Sociological Review: 783. Print.
Zizek, Slavoy (1). "Slavoy Zizek on Love as a Political Catagory) ." Slavoj Žižek on Love as a Political Category. N.p., n.d. Web. 17 July 2014. .
Zizek, Slavoy (2). The Pervert's Guide to Cinema. Dir. Filmmagasinet Ekko, 2009.
Zizek, Slavoj (3). "What Is a Brand? Marketing Redefines Our Lives in Strange New Ways." Playboy. N.p., n.d. Web. 17 July 2014. .
Zizek, Slavoy (6). "Passion In The Era of Decaffeinated Belief." N.p., n.d. Web. .
Zizek, Slavoy (7). "THE SUPEREGO AND THE ACT: A LECTURE BY SLAVOJ ZIZEK." .N.p., 1 Aug. 1999. Web. .