عودة

السينما السعودية والتلقي الانشطاري


حسين الضو

14/04/2025

انقسم الجمهور السعودي بشكل حاد بعد عرض الفيلم السعودي «ناقة» للمخرج مشعل الجاسر على منصة نتفلكس نهاية العام الماضي ٢٠٢٤م، بين فئة غاضبة ومنفعلة عبّرت عن استيائها بحدة، قابلتها فئة دافعت بحدة منافسة.

لم يكن «ناقة» أول فيلم سعودي ينشطر حوله المتلقي السعودي بشكل عمودي بين حانق ومبجّل، بل يبدو أن للجمهور السعودي تاريخًا – على قصره – في هذه العملية الانشطارية الطولية حينما يتعلق الأمر بأفلامه المحلية أو الأفلام التي تتناوله وإن كانت بحدّة متفاوتة ولأسباب مغايرة، فقد سبقت فيلم الجاسر أفلام مثل «شباب البومب» من إخراج يول كاسي و«المرشحة المثالية» للمخرجة هيفاء المنصور، كذلك الفيلم القصير «الجرذي» للمخرج فيصل العامر وغيرها من الأعمال. لا ينبغي أن تمر حالات التلقي للسينما السعودية دون قراءة أو مراجعة، إذ يعد المتلقّي أحد أضلع تشكيل المعنى في المثلث المشهور في المدونات النقدية؛ المؤلف أو صانع العمل والنص أو الفيلم وأخيرًا المتلقي.

يُسهم فهم الجمهور في أي وسط سينمائي في سد الهوة التواصلية بين المشتغلين في صناعة السينما والنقاد وكل من هو مهتم، هذا من جانب. من جانب آخر يكون فهم الجمهور ركنًا رئيسًا في استهدافه وإنعاش السوق الاقتصادي السينمائي. لأنني أؤمن أن الأفكار تكون أكثر رصانة إذا ما استندت على معطيات ملموسة ومُقاسة، تجنبت أن أنطلق من تصورات حدسية لتلقي الجمهور وأجعل تحليلي مقتصرًا عليها، وارتأيت أن أُسند هذه المقالة إلى مصدر للبيانات وإن كانت قليلة. قررت أن ألجأ إلى موقع تقييمات الأفلام المشهور IMDb وأستخدم ما فيه من بيانات تخص الأفلام السعودية. وقبل أن أعرض ملخص التجربة البسيطة التي قمت بها، أود أن أورد سبب اختياري لموقع IMDb تحديدًا. نخطئ عندما نظن أن تقصي رأي وذائقة الجمهور عملية بسيطة، وأنها مرهونة إلى نتائج الاستبيانات والاستفتاءات وإيجاد متوسط التقييمات لأي فيلم. لو كان الأمر كذلك لما عكفت هذه المنصات على إيجاد صيغ رياضية معقدة وغير معلنة -لحفظ فاعليتها من الاختراق والتلاعب- لأجل تحييد التقييمات غير ذات القيمة، لا يشمل هذا فقط التقييمات الزائفة والناتجة عن البرامج الآلية المفبرِكة Bots، وإنما أيضًا تحييد التقييمات الموجهة نتاج الحملات والتحشيد.

أود أن أنوه أن ما نراه على صفحات التقييم المشهورة ليس نتاج حساب المتوسط الحسابي للتقييمات وفق الصيغة الرياضية البسيطة Arithmetic Mean: مجموع التقييمات/ عددها، إنما نتاج صيغة رياضية معقدة تهدف إلى، بحسب زعم هذه المنصات، الحفاظ على مصداقية التقييم وتمثيله لذائقة جمهور السينما، وذلك يعتمد على معطيات متعددة؛ منها: رفض أو تضعيف قيمة المقيّم الذي تقتصر تقييماته على ١٠ من ١٠ أو ١ من ١٠ فقط، والحسابات الجديدة التي قيّمت فيلمًا واحدًا فقط، واختلاف وزن التقييمات بحسب الدول القادمة منها، وهكذا. ويبرر هذا الاختلاف بين المتوسط الحسابي للتقييمات الذي تحسبه للفيلم الواحد وما تراه على صفحة الفيلم في الموقع، كما تُظهر بعض هذه المنصات التقييمين مثل IMDb.

تطرأ في ذهني ثلاث منصات شهيرة وذات قواعد بيانات ضخمة، وهي: IMDb وLetterboxd وRotten Tomatoes. استثنيت الأخيرة لأنها لا تحوي مدخلات كافية للأفلام السعودية، أما ليتربوكسد فسبب استبعادي له عائد إلى اقتصاره على إظهار التقييم النهائي للفيلم دون عرض المتوسط الحسابي للتقييمات، بينما يظهر IMDb ذلك بجانب التقييم النهائي. علاوة على ذلك، يمثل IMDb شريحة أوسع من المجتمع بخلاف ليتربوكسد الذي يقتصر بشكل كبير على محبي السينما والشغوفين بها، ما يجعل من بيانات IMDb أشمل وأكثر نجاعة لغرض هذه الدراسة. أخيرًا، يسمح IMDb باختيار عرض البيانات لبعض الدول على حدة. بداية، أود أن أوضح مصطلح «التلقي الانشطاري»، وسأضرب هذا المثال البسيط: لو رغبت بعمل استبيان حيال وجبة جديدة أعددتها لمطعمي، ووزعت ١٠٠ منها على عملاء عشوائيين، وطلبت منهم تقييمًا من ١٠.

لنفترض أن النتائج أتت على الشكل التالي: نصف العملاء قيّموا الوجبة بـ ١ من ١٠، والنصف الآخر أعطاها النتيجة الكاملة ١٠ من ١٠. في هذه الحالة لن تقول إن متوسط تقييم الوجبة إذًا هو ٥ من ١٠، وإنما سيدركك شيء من التعجب، إذ ليس من المنطقي أن تعجب نصف الشريحة بها إلى هذا الحد في حين يمقتها النصف الآخر مقتًا شديدًا، وإنما ستبحث في أسباب أخرى قد لا تتعلق مباشرة بالتذوق والطعم، قد تكون أسبابًا شخصية تجاهي، أو قد يكون الأمر أبسط، ربما أعددت الوجبة على دفعتين، وإحدى هاتين الدفعتين طالها شيء خاطئ وكانت من نصيب النصف الذي لم يعجب بالوجبة.

التلقي الانشطاري ليس بالضرورة بهذه القطبية أو الحدّة، بل لو أن ٨٠ عميلاً انقسموا بين الواحد والعشرة، فإنّ الأمر ملفت أيضًا. المقصد أن التلقّي الانشطاري بهذا الشكل ينبئ في الغالب عن وجود أسباب لا تتعلق بالمنتج مباشرة. النقطة الأخرى الجديرة بالذكر، هي عندما ننظر إلى مجموع تقييمات شيء ما، ونعرض كيف يتوزع عدد المقيّمين على التقييمات ذاتها، فإننا في الغالب نتوقع أن تكون غالبية المقيّمين حول المتوسط الحسابي للتقييمات. أي؛ عندما نستعرض تقييمات مطعم أو متجر ما، ونرى أن متوسط التقييمات مثلًا ٢,٤ من ٥، فإننا نتوقع أن غالبية المقيّمين أعطوا تقييما بين ٢ و٣، ويتوزع البقية على التقييمات الأخرى. لكن الحال ليست كذلك دائمًا، فمن الوارد أن غالبية المقيّمين كانوا بين ١و٥ وذلك سيعطي النتيجة ذاتها.

لماذا هذه المقدّمة الرياضية مهمة؟ لأننا سوف نستخدمها لمحاولة فهم سلوك المتلقّي للأفلام السعودية، ونحاول أن نفسّر بعض هذه الأرقام وإن بشكل بسيط، عوض الاعتماد على الحدس المرسل والتأملات الذاتية البحتة.

أحصيت أكثر من ٤٠ فيلمًا سعوديًا طويلًا أنتجت بعد ٢٠١٢م، وراجعت بيانات هذه الأفلام على موقع IMDb من حيث عدد المقيمين، ومقارنة تقييم الموقع (وفق معادلته الخاصة) مع المتوسط الحسابي للتقييمات Arithmetic mean، إضافة إلى التوزيع الحسابي لعدد المقيّمين. ولمحت أن هناك ظاهرتين متشابهتين ومتقاطعتين، وقد تكونان ظاهرة واحدة، رصدتها في أفلام عدّة من بين الأربعين فيلمًا، وإذا ما أخذنا بالحسبان أن كثيرًا من هذه الأفلام لم تلق رواجًا جماهيريًا، فهذا يخرجها من سؤال التلقّي الانشطاري أساسًا، إذ لو كُتب لها الانتشار لربما طالها نمط التلقي ذاته. وقد تكون العملية معكوسة أساسًا وهي أن ما يحمل قابلية التلقي القطبي والانشطاري هو ما يلقى الرواج والتلقي الكبير. لنعد إلى ما بدأنا به هذه المقالة، وهو فيلم «ناقة» لمشعل الجاسر، الذي خلق أشدّ حالة انشطار بين الجمهور السعودي. تُظهر بيانات IMDb أن الفيلم حاز قرابة الـ ١٩ ألف تقييم، كان معظمها من الولايات المتحدة والسعودية والهند وبنغلاديش وكندا.

يُظهر متوسط التقييم الحسابي في الأسفل للفيلم ٧,٤ من ١٠، في حين نرى تقييم الموقع وفق معادلته للفيلم هو ٥,٩ من ١٠. أول ما نلحظ هو هذا الاختلاف الذي يعد كبيرًا بين التقييمين مما ينبئ بوجود حالة تلقٍ غير أصيلة هنا، خاصة أننا لا نرى الكثير من المقيّمين حول متوسط التقييم (قرابة ٦). غير أن اللافت هو ما تظهره نتائج التقييم في السعودية، إذ إن نصف عدد المقيمين ينقسمون بين الـ ١٠ و١، وتتوزع البقية بين ٢ إلى ٩، أي أن متوسط التقييمات هو قرابة الـ ٥ في حين أن غالبية التقييمات على الطرفين النقيضين، والمثير للاهتمام أكثر هو نتائج تقييمات الدول الأخرى. وقبل هذا السؤال: هل هناك شعبية للسينما السعودية في الهند وبنغلاديش ليظهر الفيلم فيهما بنسبة مشاهدة عالية نسبيًا! إذ يزيد عدد المقيّمين في الدولتين عن مشاهدي الكثير من الأفلام السعودية في الدول الأخرى.

قد يرى البعض أن الأمر عائد إلى التعداد السكّاني الكبير للهند وبنغلاديش، إلا أنني بحثت في الأفلام السعودية الأخرى، فلم أرَ ظهورًا لهذه الدول في قائمة المشاهدين، ولا أعتقد أن ثمّة ما يميز فيلم «ناقة» ليكون حاضرًا في هذين البلدين تحديدًا. وعندما استعرضتُ بيانات المقيّمين من الدولتين، تنامت لديّ الشكوك بأنّ الأمر لا يخلو من تدخّلات مزيفة، من نتاج Bots أو الجيوش الوهمية المدفوعة، لرفع التقييم، فإذا تطوّع أكثر من ٧٠٠ مشاهد، من بنغلاديش، بتقييم الفيلم على الموقع، فكم هو، إذنْ، العددُ الكليّ لمشاهدي الفيلم في دولة كهذه! بالطبع، لا يمكننا الجزم بهذه النتيجة، غير أنّ بإمكاننا أن نستنبط أن لدى الجمهور السعودي قابلية لتحويل الكثير من أفلامه إلى مادة للانقسام القطبي الحاد، وأن فيلم «ناقة» وإن كان من أبرز هذه الحالات، إلا أن هناك أفلامًا أخرى تظهر النتائج ذاتها.



لو تمعّنا في بيانات فيلم «المرشحة المثالية» للمخرجة هيفاء المنصور، فسنلحظ نتائج مثيرة للاهتمام أيضًا فيما يتعلق بظاهرة الانشطار هذه. قُيّم العمل أكثر من ٢٢٠٠ مرة، وبشعبية في: الولايات المتحدة وألمانيا وتركيا والمملكة المتحدة والسعودية، على الترتيب. تظهر جميع المعطيات في الدول المذكورة باستثناء السعودية توزيعًا إحصائيًا طبيعيًا حيث نرى أن أكبر عدد للمقيمين يراوح حول قيمة المتوسط الحسابي باستنثاء السعودية التي تظهر ذات السمة في التلقي، الانشطار والقطبية.

هذه حالة مثيرة للاهتمام، لأنّها قد تكون الوحيدة التي تنطبق على فيلم سعودي، فنحن أمام جمهورين حقيقيّين، مختلفين في الآنِ نفسه، وبأعداد كبيرة؛ وهي عوامل ثلاثة تسهم في إعطاء الإحصاء قيمة معتبرة. عدد المقيّمين في الدول الأربع في الصور متقارب ومرتفع إلى حدٍّ ما، وينتشر التوزيع بشكل طبيعي فيها كلّها، باستثناء السعودية.



قد يبرر وجود مشاهدين للفيلم من خارج السعودية بعدد أكبر منه داخل السعودية، حضور الفيلم خارجيًا وتمثيله للسعودية للمرة الأولى في مهرجان البندقية السينمائي، إضافة الى اختياره من قبل السعودية لتمثيلها في الأوسكار، وهذا يختلف عن ظهور معطيات لفيلم ناقة في الهند وبنغلاديش.

أستكمل استعراض البيانات، وهذه المرة مع فيلم «شباب البومب»، ولا يخفى على كل المهتمين بالسينما في المملكة ظاهرة شباب البومب واكتساحها فئة كبيرة جدًا من المجتمع وهي فئة الصغار واليافعين، فعلى مدى أكثر من عشر سنوات، كان شباب البومب مساحة آمنة لكل من يريد أن ينتقد ويسخر ويحقّر دونما معارضة من المجتمع على الرغم من وجود فئة كبيرة من عشاق المسلسل. حين عرض «شباب البومب» في السينما، واستشعر الوسط السينمائي والمجتمع عمومًا الوجود الفعلي والفيزيائي لهذا الجمهور الضخم الذي لم يكن قبل ذلك سوى أرقام مليونية نراها تحت حلقات المسلسل على اليوتيوب، شعر المهتمون بالسينما باكتساح حقيقي ذي قابلية للاستثمار في جوانب مختلفة أهمها إنعاش شباك تذاكر السينما السعودية بفيلم سعودي. وهو ما حدا بالكثير من الساخرين والمنتقدين السابقين إلى تغيير حدة خطابهم تجاه العمل، والحديث عنه بواقعية أكبر. إلا أن ذلك لم يغير من حقيقة الانشطار حول العمل، وهذا ما رأيته عندما استعرضت بيانات الفيلم على IMDb.



المثال الأخير الذي سأدرجه في حالة التلقي الانشطاري هو فيلم «عبد» للمخرج منصور أسد. ليس هناك الكثير من المعطيات للفيلم سوى ٩ تقييمات من الولايات المتحدة فيما جاءت بقية التقييمات من السعودية، لذلك سأعرضها مجتمعة، مع قناعتي بأنّ المدخلات ستزداد كثيرًا في الأيام القليلة المقبلة، إذ بدأ عرض الفيلم للتو على منصة نتفلكس وأصبح متاحًا لشريحة ضخمة من الجمهور، وسنرى ما إذا كان ذلك سيعزز القراءة الانشطارية للفيلم أو يعادلها ويذهب بها الحالة الطبيعية.

نرى أن متوسط التقييمات كما هو مذكور في أسفل الصورة ٦,٤ في حين لا نرى الكثير من التقييمات حول تلك القيمة بل أكثرها في الـ ١٠ والـ ١.



ما حاولت أن أستخلصه من الأمثلة الأربعة السابقة هو البحث وراء ذلك الانشطار ومسبباته. بالنسبة لفيلمي «ناقة» و«عبد»، قد لا يكون مستغربًا أن تُثار حفيظة الجمهور عطفًا على حساسية موضوعيهما وعلاقته المباشرة بالمجتمع وصورته. أما سبب الحدة الإضافية في حالة فيلم «ناقة» فسببه يعود إلى شهرة مشعل الجاسر الكبيرة والممتدة إلى سنوات سابقة سواء في أعماله القصيرة على قناة «فُليم» في اليوتيوب أو على صفحاته الخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، أو شراكته مع تلفاز ١١ الذي يضمن وصولًا ضخمًا إلى شرائح كبيرة في المجتمع. قد يكون فيلم «المرشحة المثالية» من تلك الأفلام ذات القبول الكبير لدى «الآخر»، والآخر هنا هو الآخر الكلاسيكي المعتاد، الرجل الأبيض وقيم المركزية الأوروبية، الذي قد تجد في فيلم المنصور القيم التقدمية المنشودة في مجتمع يراه «الآخر» منغلقًا ومتأخرًا، يرى الأنثى المقاومة في الفيلم وهي ثيمة وموضوع رئيسين عند هيفاء، وهنا لا أقول بأنها تقوم بذلك من أجل مغازلة مؤسسات محددة وإنما تقدم ما تؤمن به والذي يصادف أن يكون متسقًا مع الأوساط التي عرض فيها الفيلم، وهذا يبرر تلقيه الجيد في دول المركز الأوروبي والغربي. في حين يتوجس المجتمع السعودي من كل ما يصفه بالنسوي حتى وإن لم يكن كذلك، وربما يزداد توجسه إذا ما رأى حضوره العالمي والإشادة المحيطة به.

حين أفكر في حالة تلقي فيلم «شباب البومب» فإن ما يخطر في ذهني هو أن الانشطار عائد بكل بساطة إلى الفئة العمرية. تمنيت لو أن هناك آلية تساعدني على تصفية المدخلات بناء على فلتر سني، حيث أستطيع أن أعرض التقييمات لمن هم دون العشرين عامًا مثلًا وأرى متوسط تقييماتهم، والأمر ذاته مع من هم أكبر سنًّا، لكن تخميني يقول بأن الانشطار التقييمي يتوازى تمامًا مع الانشطار العمري. هناك أفلام أخرى لم آت على ذكرها، لكنها تحمل أيضًا سمة التلقي الحاد من الجمهور دون أن أكون قادرًا على القبض على أسبابها. لمست ذلك في الاختلاف الكبير بين تقييم الموقع ومتوسط التقييمات. من هذه الأفلام «أغنية الغراب» للمخرج محمد السلمان، ولعل الأمر يعود إلى نفور المتلقي عمومًا والسعودي خصوصًا من كل ما هو تجريبي وغرائبي، والأعمال التجريبية غالبًا ما تحمل في ذاتها هذه السمة، سمة التلقي القطبي بين معجب وحانق، فمحبي الأعمال التجريبية يتلذذون بفك وحل ما استغلق من النص بينما يخسر الكثير اهتمامه من متابعة الفيلم، وهو ما يبرر هذه الانشطارية.

هنالك أيضًا فيلم «حوجن» للمخرج ياسر الياسري الذي وجدت فرقًا كبيرًا بين التقييمين (الموقع والمتوسط الحسابي) دون أن أكون قادرًا على تلمّس السبب، هل الأمر عائد إلى تصنيفه الأدبي؟ حوجن فيلم فانتازي، وكما هو شائع فإن المتلقي السعودي لا يميل إلى مثل هذه الأعمال حتى في الأدب. وقد يكون السبب عائدًا إلى محبي الرواية ذاتها وأنهم يعتبرون أن الفيلم أخلّ بالعمل الأدبي ولم يقتبسه سينمائيًا على نحو لائق. من الأمثلة أيضًا فيلم «تشيللو» للمخرج دارن لن بوزمان، ذو التقييم العالي من حيث المتوسط الحسابي (٧,٤ من ١٠) لكنّ تقييم الموقع له كان متدنيًا (٤ من ١٠)، أمّا من خلال قراءة البيانات فقد أظهرت تقييماتٍ عاليةً في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، بخلاف السعودية، كما هو متوقع، فقد ظهرت التقييمات انشطارية وقطبية، وذات متوسط حسابي متدنٍ جدًّا. أود أن أنتقل الآن إلى الحديث حول ظاهرة أخرى تخص التلقي في السينما السعودية، وهي سهولة التجييش وشن الحملات، ويبرز هنا فيلمان شهيران جدًّا، وحين أقول شهيرين فإنني أيضًا أشير إلى ذات الظاهرة، إذ من السهل التجييش ضد فيلم ما وتوجيه جموع من خارج السينما حتى، فهذان الفيلمان قد يكونان معروفين حتى لمن لا علاقة لهم بالسينما.

أطلقت نتفلكس في عام ٢٠٢٠م مجموعة أفلام سعودية قصيرة تحت عنوان «ست نوافذ في الصحراء»، ومن بين هذه الأفلام كان فيلم المخرج فيصل العامر القصير بعنوان «الجرذي». ينسحب ما قيل عن فيلم «أغنية الغراب» على فيلم «الجرذي»، فهو الآخر مغرق في التجريبية والرمزية، لكن سبب ذكري له هنا ليس لاستعراض حالة الانشطار كما رأينا في الأمثلة السابقة، وإنما لرصد حالة أخرى وهي سهولة استفزاز المشاهد السعودي وتحشيده. ظهر بطل العمل الممثل السعودي زياد العمري على حسابه الخاص في سناب شات مخاطبًا الجمهور بعد عرض الفيلم على نتفلكس قائلًا: إن الفيلم عميق، ومليء بالرمزيات، وهو «موب لي ولا لك» وإنما لكبار النقاد.

استفز حديث العمري وقتها الجمهور السعودي مما دفعه إلى شن حملة كاسحة ضد الفيلم لا أظن خوارزميات ومعادلات IMDb ذاتها كانت قادرة على مجابهتها. أدت هذه الحملة إلى تقييم متدنٍ جدًّا للفيلم (١,٤ من ١٠)، ولم يستطع أصدقاء صناع العمل مجابهة هذه الحملة على الرغم من تقييماتهم العالية للفيلم. لا نرى في حالة فيلم «الجرذي» الحالة الانشطارية فقط، ولا حالة التجييش، بل ندرك، أيضًا، سهولة استفزاز الجمهور إذا تعلّق الأمر بموضوعات تخصّه أو بصورته العامة. استفزّ زياد العمري الجمهور في ذائقته وقدرته على تلقي السينما ممّا دفعهم إلى هذه الحملة، لكنّنا رأينا لاحقًا كيف استُفز الجمهور مرة أخرى بسبب فتاة تدخّن وتخرج مع عشيقها في فيلم «ناقة»، وفي حالات أخرى تتعلق بموضوع الفيلم، مما يجعل الجمهور في حالة متأهبة دائما كي يُستفز، وهو ما يسهّل عملية توجيهه ودفعه لا سيّما أن منصة التواصل الاجتماعي «إكس» خير أداة لذلك. قد نتساءل في الوقت نفسه، لماذا يستفز فيلم ما الجمهور لأسباب معينة، في حين لا تستفزه الأسباب ذاتها في أفلام أخرى؟ مع الأخذ بالحسبان أن الأعمال الأخرى صدرت في العام ذاته. في فيلمي «مندوب الليل» للمخرج علي الكلثمي و«الهامور ح.ع.» للمخرج عبد الإله القرشي، شاهدنا صورًا وثيمات متشابهة، وليالي صاخبة، وعُرض كلاهما على نتفكلس، إلا أن ذلك لم يثر حفيظة أحد، وكأن الهجوم يكون أحيانًا على صاحب العمل لا العمل نفسه، لكن هذا السؤال يحتاج إلى بحث أوسع.

فيما يخص الحملات والتجييش، يمكن التطرّق إلى فيلم شهير آخر هو «٣٢١ أكشن» للمخرج شادي الرملي. لا أود أن أكرر ما جرى للفيلم وقتها، لكنني أود الإشارة إلى بعض المعطيات اللافتة؛ فقد بدت صالات السينما خالية من الحضور تمامًا، وجرى سحبه من العرض لتقليل الخسائر، إلا أن ذلك لم ينعكس على المعطيات الموجودة على موقع IMDb. على غير التوقعات، قُيّم العمل على الموقع أكثر من عشرة آلاف مرة! وجاء رابعًا ضمن القائمة التي أحصيتها للأفلام السعودية، وهو رقم لا يمكن أن يعكس عدد المشاهدين، لا سيما أنه لم يُعرض سوى أيام قليلة وأمام مقاعد شاغرة.

في رأيي، يكمن التفسير الوحيد في أنّ هناك حملة شُنّت على الفيلم، وحين أُعبّر حملة فلا أقصد بها المؤامرة، وإنما رغبة الفرد في مشاركة الجماهير في أي «ترند» يصعد على منصة «إكس». فإذا كان هناك «معركة» في موضوع أو فيلم ما، فهو دافع مغرٍ لكثيرين بالمشاركة، وهو ما يبرّر العدد الهائل للتقييمات على الموقع. لا ينبغي أن نتجاهل أن التجييش قد يحدث بصورة إيجابية، وهذا ما رأيناه مؤخرًا في فيلم «هوبال» للمخرج عبد العزيز الشلاحي. الفيلم على قدر كبير من الإتقان والاجتهاد، وكذلك برع فريق العمل في حملته الدعائية والتسويقية، لكن نتلمس أيضًا تجييشًا ناعمًا بين الجمهور ومتلقيه مما أسهم في حضور شرائح غير معتادة إلى السينما مثل كبار السن والعجائز، بل ربما من لا علاقة لهم بالأفلام أساسًا، وهذه إحدى السمات التي قد تقودنا إلى معرفة وجود حملات أو تحشيد سواء كانت إيجابية أو سلبية، والأمر ذاته ينطبق على فيلم «شباب البومب» الذي أدخل فئات كثيرة إلى عالم الأفلام والسينما.

ليس من السهل الجزم بوجود حالات التلقي هذه عند الجمهور السعودي؛ التلقي الانشطاري والتجييش وسهولة وقوعه في الاستفزاز، إلا أنها ملموسة على أصعد مختلفة، منها ما هو حدسي ومنها ما هو مرصود من خلال التجارب الفردية لنا نحن مستخدمي تطبيقات التواصل الاجتماعي ومنها أيضًا كما رأينا هنا ما هو مدعوم بالبيانات والمعطيات الكمية. ربما يحفزنا هذا العرض بالتحرّك ناحية الجمهور واستهدافه واستهداف تحسين تلقيه بما يتجاوز الحالات الانفعالية الحادة للتخلص من هذا التلقي القطبي الذي يتعارض وطبيعة التلقي الفني الذكي والمثمر، التلقي الذي يطرح الأسئلة ويناقش ويحلل مبتعدًا عن إلقاء أحكام القيمة والغضب وغيرها من المشاعر السلبية.

لن تكون الصورة مكتملة إن لم نستعرض أيضًا أمثلة عالمية نختبر فيها ما قد بحثناه هنا. بحثت في الأفلام غير السعودية التي تناولت السعودية بشكل أو بآخر، ومن البديهي أن يخطر فيلم «حياة الماعز» للمخرج بليسي في أذهاننا، وكان من الضروري أن أرى بياناته، التي – كما هو المتوقع – كانت انشطارية. تظهر البيانات الانقسام بشكل أقل بكثير في الولايات المتحدة وبريطانيا، أما بالنسبة للهند والسعودية، فالمعطيات متعاكسة تمامًا. الأسباب واضحة، نحن السعوديين نعتقد أن الفيلم قدّم صورة مغلوطة وفي غاية السلبية عنّا وعن مجتمعنا فجاءت ردة فعلنا عنيفة، بينما كان الأمر معاكسًا تمامًا بالنسبة إلى الهنود الذين أُعجبوا بالفيلم كما تقول البيانات، علاوة على التعاطف المبني على الهوية.

اللافت للنظر أيضًا هو التقييمات في مصر التي جاءت مطابقة تقريبًا لها في الهند، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق في عدد المقيمين.



المثال الآخر الذي رغبت أن أشمله بالبحث هو الفيلم البوسني «أين أنتِ يا عايدة؟» Quo Vadis, Aida للمخرجة ياسميلا زبينيتش، كي أقارن بين تلقي البوسنيين والصرب للفيلم فهم المعنيون مباشرة به، ويتناول قضية حساسة جدًّا ومؤلمة ومعاصرة في الوقت نفسه، لم يمض عليها ثلاثون عامًا بعد، وهي المجزرة والإبادة التي تعرض لها البوسنيون من قبل الصرب في عام ١٩٩٦م. ظهرت النتائج بشكل متعاكس بين صربيا والبوسنة وهو ما كان متوقعًا، مع الانتباه لفارق المقيمين بين البلدين، وهذا بخلاف فيلم «حياة الماعز» الذي أظهرت التقييمات أن السعوديين شاهدوا الفيلم وقيّموه أكثر من الهنود أنفسهم، وكأن حساسيتنا تجاه ما يوجه إلينا عالية جدًّا مقارنة ببعض الشعوب الأخرى القادرة على التجاهل.



تعمدت اختيار الفيلمين السابقين، الهندي والبوسني، لأنها أفلامًا محسوبة على ثقافات أقرب للهامش من الأفلام المنتمية إلى ثقافات غربية مهيمنة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وهذا يجعل المقارنة في التلقي بينها وبين الفيلم السعودي أكثر وجاهة. بينما حين بحثت في بيانات بعض أفلام هوليوود الخلافية، لم أجد ما هو مثير للاهتمام أو مختلف عن بقية الأفلام الأمريكية من حيث التلقي، ولم أرصد أي انشطار حول تلقيها. أجريت بحثًا في فيلم «ضوء القمر» للمخرج باري جينكينز ولم تكن النتائج ملفتة. أصابني الفضول أيضًا لرؤية نتائج فيلم «إيميليا بيريز» للمخرج جاك أوديار الذي رشح للأوسكار الماضي، الذي اتفق الجميع على سوئه وخصوصًا في المكسيك والبرازيل، باستثناء فرنسا التي ينتمي إليها غالبية طاقم الفيلم.

هذه الآن دعوة لكل القراء أن يبحثوا في IMDb والمواقع المختلفة حول أفلامهم المفضلة والأفلام الخلافية ورؤية كيفية تلقي الجمهور المحلي والعالمي لها، ومقارنة ذلك مع الجمهور السعودي، لا لإدانته وإنما لفهم ذواتنا بشكل أفضل ورفع وعينا بأنفسنا. أخيرًا، ما يثير التفاؤل هو أن هذه الحدّة عند الجمهور السعودي بدأت تخفت إذا ما قارنّا بينها وبين التلقّي للأفلام السعودية في أعوام سابقة، مما يعطي انطباعًا بأن هناك اعتيادًا على رؤية ذواتنا وقصصنا وأنفسنا على الشاشة الكبيرة بكل ما تحمل من زلات وأخطاء طبيعية وإنسانية، إلا أننا لا نزال نتوجس، فحالة الانفجار والغضب تأتي مفاجئة ولا يمكن التنبؤ بها، ففي الوقت الذي نشعر فيه أننا تجاوزنا الانفعالات غير الناضجة، نُصدم بموجة أشدّ من سابقتها تسبب بها فيلم ما وربما لأسباب غير واضحة. لكن لنبقى على حالة التفاؤل هذه ونستمر في صناعة أفلامنا وقصصنا وذواتنا، وأيضًا أن نلتفت ونقرأ الجمهور بشكل أدق وأذكى في الوقت نفسه.