عودة

صاحبة سعفة «كان» الذهبية للعام 2023 تتوجه بسينماها ناحية نساء مختلفات


إبراهيم العريس

06/03/2025

خلال الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي في الجنوب الفرنسي لم يكن الأمر واضحًا، حتى وإن كانت الصحافة الفرنسية قد أسهبت في الحديث عن السينمائية الشابة جوستين تيات وعن فيلمها المشارك في المسابقة الرسمية «تشريح سقوط» (2023). فالحال أنه من عادة هذه الصحافة أن تفرط في الحديث عن السينما المحلية وصناعها لدى اهتمامها بتغطية ذلك المهرجان الذي يعتبر الأنجح والأهم في العالم السينمائي، إما لأسباب تتعلق بالفخر الوطني وإما لأسباب إعلانية مدفوعة الثمن. كُثَّر اعتقدوا أن تلكم هي الحال أيضًا هذه المرة. ولكن منذ عرض الفيلم تبدلت الأمور وتبدلت جذريًا وإن كان الفيلم لم يفلت من تلك العادة الفرنسية السينمائية المستشرية: عادة الثرثرة التي لا تنقطع ولو لالتقاط الأنفاس منذ مفتتح الفيلم حتى كلمة «النهاية». والحقيقة أنه مع فيلم «تشريح سقوط» كان لا بد من تجاوز هذا العيب المقيم والتعامل مع الفيلم حقًا بوصفه وبالإجماع أفضل فيلم فرنسي حُقق خلال الآونة الأخيرة. ولا يمكن القول إن فوز الفيلم بالسعفة الذهبية هو السبب الوحيد لهذا، ولا حتى كون جوستين تيات واحدة من مخرجات نادرات نلن التكريم الأسمى في المهرجان على مدى تاريخه مبررًا لاهتمام يستحقه الفيلم، فهناك أيضًا ذلك الواقع الذي يقول لما أن فوز الفيلم كان مدخلًا لاستعراض تاريخ هذه المبدعة عبر ما لا يقل عن ثلاثة أو أربعة أفلام حملت توقيعها خلال العقد الأخير ونيف من السنين، وهي أفلام لا شك أن من مميزاتها كونها تقدم امرأة فرنسية جديدة في سينما مشغولة بدقة وقوة.

وهنا، كي نستعيد تاريخ تيات قد يكون علينا أن نعود معها إلى الجذور التي صنعت فيلمها الأخير والذي اعتُبر «فيلم محكمة على الطريقة الفرنسية»، بوصفه توصيفًا لا يخلو من غمزة ما. ولعل خير مدخل لذلك ما تقوله المخرجة بنفسها من أنها منذ كانت في العشرين من عمرها وتحاول الإفلات من دراسة الحقوق، كانت تمضي وقتها في محاكم قصر العدل تتابع ما يتيسر لها من محاكمات حقيقية، لكنه بدلًا من أن تحلم بأن تكون في صفوف القضاة أو المحامين أو طبعًا المتهمين أو حتى المحكّمين، كانت تحلم بأن تكون وراء كاميرا سينمائية تصور ذلك كله. وكان رائدها في ذلك سينمائيَين وثائقيَين -هما فردريك وايزمان وريمون ديباردون- اشتهرا بأفلامهما التي تصور ذلك العالم من الداخل.

قادها ذلك بالطبع إلى عالم السينما، لكنها كانت تؤجل -عامًا بعد عام- حلمها المتعلق بفيلم محاكمة. لكن ما لا يقل عن ثلاثة من الأفلام الطويلة التي حققتها منذ بداياتها وحتى «تشريح سقوط» أوصلتها إلى تحقيق حلم آخر من أحلامها: حلم أن تقدم في تلك الأفلام صورة حية لامرأة جديدة. صورة تبتعد عن الفصاحة المعتادة كما عن البؤسوية النسوية وعن تلك الازدواجية الأخلاقية التي تضع المرأة دائمًا في مجابهة مع الرجل. بالنسبة إليها، هي التي دائما ما كتبت سيناريوهات أفلامها مع شريكها في العمل والحياة، لم يكن ذلك الصراع ما يهمها، بل استخدام الشاشة كمرآة تعكس صورة امرأة مستقاة من الواقع، بأحداث واقعية وحوارات واقعية وغالبًا في شقق باريسية حقيقية.

ويقينًا أن أفلام جوستين الثلاثة السابقة على «تشريح سقوط» تمكنت من ذلك، وبخاصة عبر مهن لنسائها تبعدها عن النمط المعتاد -بل لعلنا ندنو من الواقع أكثر إن نظرنا إلى الأمر من خلال المهن المختارة لنساء تلك الأفلام حيث بطلة «معركة سولفيرينو» صحافية، وبطلة «فكتوريا» محامية، فيما بطلة «سيبيل» محللة نفسية- أما في الفيلم الأخير «تشريح سقوط» فالبطلة ساندرا كاتبة ألمانية الأصل، في تناقض بيّن ربما أملته رغبة المخرجة في أن تجعل البطولة للفيلم للممثلة الألمانية ساندرا هوللر التي لا يزال كُثّر من هواة السينما الكبيرة يتذكرون أداءها الرائع في فيلم «طوني إدرمان». يُظهر الفيلم على أية حال تأرجحها بل حتى ضياعها بين الفرنسية لغة زوجها وحياتها الفرنسية معه، والإنجليزية لغة حديثها حين كانت تعيش في لندن حيث التقت بذلك الزوج، والألمانية لغتها الأم. وهو تأرجح جعله سيناريو الفيلم جزءًا من الحدث على أية حال. ومن هنا يمكننا القول إن صبا جوستين تيات الذي أمضته في المحاكم من ناحية، ورغبتها في العمل مع ساندرا من ناحية ثانية، كانا الدعامتين الأساسيتين لولادة هذا الفيلم. ولنضف إلى هذا مرجعًا آخر هو بشكل عام سينما المحاكم وربما خاصةً على الطريقة الأمريكية التي تتكشف من خلال استعارة السينمائية عنوان فيلم أوتو بريمنغر الشهير «تشريح جريمة» بوصفه أساسًا بَنَت عليه عنوان فيلمها تحيةً لذلك الفيلم القديم المعتبَر عادةً واحدًا من أفضل أفلام المحاكم في تاريخ السينما.

إذًا، انطلاقًا من تلك الرغبات الثلاث استكملت جوستين تيات وشريكها في كتابة السيناريو مسبحة المهن النسائية التي تقدمها في سينماها. صحيح أن ما من واحدة من هذه المهن جديدة حقًا، لكن تتابعها في هذا العدد من الأفلام التي ظهرت في عقد واحد من الزمن يضعنا أمام رغبة واضحة في تغيير صورة المرأة في السينما.. الفرنسية على الأقل. غير أن الأهم من ذلك يبقى في مكان آخر لا بد من القول بأنه من ناحيته قد لا يجدد في الطرح لكنه يجدد في أسلوب الطرح. ونتحدث هنا عن أزمة الثنائي والحياة العائلية المشتركة. صحيح أن هذا الموضوع، وبتنويعات عليه تتكاثر يومًا بعد يوم ويبدو معها وكأنه لازمة من ضرورات ونتائج الحياة العصرية، لا يتوقف عن ملء الأفلام السينمائية -والروايات والمسرحيات والدراسات- لكنه هنا بدأ نمطًا آخر وتنويعة عولجت من خلال سردية تتسم بقدر من الجدية ولا سيما من خلال ما يُلجأ إليه في تلك المحاكمة التي تشغل في «تشريح سقوط» الجزء الأكبر من مَشاهد الفيلم وفصوله.

ولا سيما حين يُكتشف في نهاية الأمر تسجيل سجّله الزوج الذي كان مقتله بفعل سقوطه من الطابق الثالث من الفيلا الجبلية العائلية، واتهام الزوجة بكونها دفعته إلى السقوط متعمدة، حبكة الفيلم، كما شكّل عجزها عن تبرئة نفسها. بل حتى عن معرفتها هي نفسها (!!)، بما إذا كانت قد قتلته بشكل أو بآخر ما شكل هنا أحجية الفيلم التي حتمت فضح حياة الثنائي والشجار الذي دار بين الزوج والزوجة حتى تدخل الابن ضعيف البصر الذي كان مولعًا بأبيه وأول من اكتشف جثته وقد سقط فوق ثلوج مَحَت كل الأدلة، ليدلي بشهادة غير متوقعة أنهت الفيلم على ألغاز لا إجابات عنها حتى وإن برأت الأم! لقد كان الشريط الذي سجل ما حدث في البيت قبل ساعات أو أقل من مقتل الزوج ليعرض تفاصيل الحكاية، من «فضائح» حياة ذلك الثنائي، إلى الغيرة المهنية بين الزوج العاجز عن أن يحقق أحلامه الكتابية فيما تمكنت زوجته من ذلك بأن أصبحت -وربما بفضل سرقتها موضوعاته التي اعتاد أن يفاتحها فيها ثم يعجز عن كتابتها!- كاتبة ناجحة، وهي المهنة الرابعة بين المهن التي تحدثنا عنها أول هذا الكلام، مهنة لعلها شديدة القيمة بالنسبة إلى المرأة.

لكن جوستين تيات عرفت في «تشريح سقوط» كيف تستخدمها بشكل مبتكر كجزء من فكرانية سينماها المجددة والبسيطة على أية حال، استخدامًا له ازدواجية عنوان الفيلم الذي حين تُسأل المخرجة عنه اليوم تجيب بأنها لا تدري حقًا إذا ما كانت تعني به سقوط الثنائي على أرضية الواقع، أم سقوط زوجها من الطابق الثالث، مضيفة وهي تبتسم: «ما أعرفه هو أنني أحب عنوان فيلم بريمنغر منذ زمن بعيد وكنت أحلم بأن أستخدمه ذات يوم وها أنذا قد فعلت!»