عودة

أثينا.. رؤية كابوسية لمجتمع المهاجرين في أوروبا


خالد عبد العزيز

16/02/2025

يبدو أن شيئاً ما يدور في العمق الأوروبي يتعلق بالمهاجرين والجماعات العربية الراسخة هناك، لا تبثه شاشات التليفزيون أو النشرات الإخبارية وفق ما يستحق من الإهتمام، إلا أن شاشات السينما تملك قولاً آخر ورؤية مُغايرة عن السائد، فالمُتابع للسينما العالمية في السنوات الأخيرة، يكتشف حجم الإنتاجات السينمائية التي تطرقت مباشرة لأزمة المهاجرين في أوروبا وتحديداً العرب المقيمين في هذه الدول، تقريباً لا يخلو عام من فيلم ما، يُسلط الضوء على الأوضاع المُتأزمة. أحدث هذه الإنتاجات الفيلم الفرنسي "أثينا" أو Athena إنتاج عام 2022، إخراج "رومين جافاراس" الذي اشترك في كتابة السيناريو مع "إلياس بلقادر" والمخرج وكاتب السيناريو "لادج لي" الذي أخرج للسينما قبل ثلاثة أعوام فيلمه "البؤساء"، والذي يتشابه موضوعه مع مضمون فيلم "أثينا".

يستند كلا الفيلمين، "البؤساء" و"أثينا"، إلى أحداث العنف التي شهدتها فرنسا في بدايات الألفية، تحديداً في أكتوبر 2005، إثر مقتل شابين بعد الاشتباه فيهما، لتندلع الإحتجاجات المُناهضة لما جرى، هنا نرى أحداثا مُماثلة مع اتساع زاوية الرؤية، المؤطرة بناقوس خطر يدق طوال مدة الفيلم، ويبث رسائل تحذيرية قوامها شيء واحد، ألا وهو، احذروا.. الطوفان قادم! "إدير" المراهق البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، تذهب روحه هباءاً بعد مقتله على أيدي بعض الرجال المُنتمين فكرياً للأحزاب اليمينية المُتطرفة، إلا أن الفيديو المُنتشر على وسائل التواصل يُثبت أن قتلة الطفل يرتدون زي الشرطة الفرنسية، وهنا تكمن أزمة الفيلم وحبكته، فأحداث الفيلم تدور حول الاحتجاجات التي أعقبت انتشار هذا الفيديو، وتحول الحي الفرنسي "أثينا" إلى جمرة مُشتعلة من النيران.

بناء أرسطي

استعار المخرج "رومين جافاراس" اسم المدينة المُتخيلة التي تدور فيها أحداث فيلمه من اسم المدينة القديمة، وكذلك جاء البناء الدرامي للفيلم يعتمد على المنطق الأرسطي للدراما، حيث الالتزام بوحدة الزمان والمكان، فالأحداث تدور في إطار زمني لا يتعدى الأربعة وعشرين ساعة، أي خلال يوم كامل، من بداية الصباح حتى صباح اليوم التالي، والمكان لا يتغير وهو الحي المُشاغب "أثينا". يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه "عبدل" (دالي بن صلاح) الجندي بالجيش الفرنسي، أثناء إنعقاد المؤتمر الصحفي بعد مقتل شقيقه "إدير"، وهو يُحاول تهدئة المتظاهرين، والشرطة تتعهد بالقبض على الفاعل الحقيقي، وفجأة يتحول هذا الهدوء المشوب بالحذر، إلى فوضى لا رابط لها ولا حدا، بعد إلقاء "كريم" (سامي سليمان) شقيق "عبدل" و"إدير" الزجاجات الحارقة على منصة المؤتمر، لتبدأ جموع المُعترضين في أعمال السلب والنهب في الحي الذي يُشكل المُهاجرين والعرب النسبة الأعم من بين تعداد سُكانه.

اختار السيناريو أن يُدخلنا رأساً في صلب موضوعه، دون أدنى تمهيد مُسبق، إلأ أنه على الرغم من الوتيرة المتلاحقة والإيقاع اللاهث للسرد، فالمعلومات عن الشخصيات والأحداث تطفو على السطح تدريجياً، وكلما توغلنا في الأعماق كلما انكشف المزيد عن الشخصيات وتاريخها ودوافعها، فالسيناريو تسير أحداثه وفق المبدأ التقليدي، بداية ووسط ونهاية، ومع التزام كامل بالفصول الثلاثة، والحبكات الدرامية التي تدفع الأحداث للأمام.

وبالتالي ينساب السرد في سياق عام محفوف بالتوتر المشوب بالخطر، فالمشاهد تتوالى دون أن تلوح أدنى بادرة هدوء في الأفق، فقد جعل السيناريو البيئة العامة للأحداث أشبه بالجحيم، بما يتناسب مع مضمون الفيلم التحذيري من القلاقل المُحتملة إذا ما تركت الأوضاع كما هي دون البحث عن حل حقيقي لهذه التوترات والنزاعات لإزالة الإحتقان الداخلي، وليس مجرد مُسكنات مؤقتة يشتعل بعدها الوضع مُجدداً في دوامة لا نهائية، وهو ما يعبر عنه "كريم" في أحد المشاهد عندما يقول: "هل يتحدثون عن القلاقل ؟ إذن سنريهم القلاقل".

ثائر وضابط

يبدأ الفيلم من جانب المُتظاهرين، يقتحم عالمهم، نُتابع تحركاتهم وانقضاضاتهم المُفاجئة على مركز الشرطة، وإنشاء حصونهم البدائية المُسيطرة على مداخل الحي، كل ذلك يتم بقيادة "كريم" الباحث عن حق أخيه المقتول غدراً. على الجانب الأخر يضعنا السيناريو بموازاة عالم أخر وشخصية أخرى، هي الضابط "جورمي" (انتوني باجون) وهو من قوات مكافحة الشغب، نراه في المشاهد الأولى أثناء التحضيرات لاقتحام الحي، ينظر لصورة ابنته والخوف يستولي على ملامح وجهه.

إنه يرى نفسه في حرب لا مصلحة له فيها، بالكاد يُمارس مهام عمله المتعارف عليها، فإذا كان العنصر المُضاد، أي "كريم"، يبدو ذا قوة مؤثرة ومُحركة للأحداث، فهنا "جورمي" مفعول به، لا لتبرئة جهاز الشرطة الفرنسي، بقدر ما هو تعبير عن وضع عام الجميع يرزحون فيه تحت رحمة سلطة أكبر منهم، هي التي تملك القدرة على دفع التوقعات في اتجاهات أخرى غير ما وصلت إليه. عند هذه النقطة نصل إلى جوهر الصراع الدرامي، فالصراع هنا لا يدور بين مجموعة ثائرة من المتظاهرين والشرطة فحسب، بل يمتد لما هو أعمق، فهو صراع من أجل إثبات الوجود، ففي أحد المشاهد نرى "كريم" يقول للثوار "سئمنا أن يرانا العالم كضحايا"، وفي مشاهد أخرى تتكرر نغمة "هم ونحن"، وكأن هؤلاء الغاضبون يعيشون في عالم مُنفصل عن الأخرين، فالإحساس اليقيني لدى المهاجرين الأفارقة والعرب مواطنون من الدرجة الثانية، أدنى من أمثالهم الفرنسيين، رغم مساواتهم القانونية في الحقوق والواجبات، لتبدو فرنسا كأنها تُسدد ديونها التاريخية تجاه مُستعمراتها القديمة.

فبنظرة خاطفة على الوجوه الغاضبة، يُمكن تخمين أصولهم العرقية، البعيدة تماماً عن النمط الفرنسي أو الأوروبي، وهذا ما يرغب الفيلم في التعبير عنه بهذه الجرعة الكابوسية الكثيفة المُغلفة للسرد، فالمعني هنا هو التحذير من القادم، والخوف من الوصول إلى حافة حرب أهلية، مثلما تبث النشرات الإخبارية في أحد المشاهد قائلة "حرب أهلية في فرنسا". تتحول حياة "عبدل" إلى النقيض المُعاكس، من جندي بالجيش الفرنسي يخدم بلاده الجديدة في "مالي"، إلى مُجرم هارب من العدالة، نرى ملامحه المُحتقنة بالغضب بسبب مقتل شقيقه، لكنه يُجيد إخفاء غضبه تحت أطنان من الهدوء الزائف الذي يُغلف وجهه، ليبدو وحيداً في خضم هذا الجنون المُحيط به من جهاته الأربع. هكذا رسم السيناريو شخصيته موسومة بالمُعاناة، وصولاً لحافة الانفجار والانهيار التام، بعد مقتل "كريم" كذلك برصاص الشرطة، فالشخصية تتحول تماماً إلى الإتجاه المُغاير، وتترك غضبها المُستعر يطفو على السطح.

حصان طروادة

تقتحم قوات الشرطة الحي السكني، تدفع بسيارات الإطفاء التي تتخذ من درجها المرتفع حصناً للارتقاء للصفوف العلوية، حيث يكمن المتظاهرون، في مشهد ملحمي أشبه بمعارك الإلياذة، يُشكل شريط الصوت فيه عنصراً لا يُمكن إغفاله، وفي المقابل يقف "كريم" مُنتصب القامة، بشعره الهائش، أقرب في هيئته إلى جندي يوناني قديم يتابع سير المعارك بين الطرفين. الفيلم يحفل بالعديد من اللمسات الإخراجية التي تكشف عن رؤية وبصمة خاصة، جعلت منه عملا طموحاً على مستوى الشكل والمضمون، بداية من حركة الكاميرا البانورامية المُعتمدة في تتبعها للشخصيات على اللقطة الواحدة، مروراً بإدارة المجاميع والتحكم فيها، عبر مشاهد التظاهرات والاشتباكات الموظفة درامياً، والتي لا تكاد تتوقف طوال مدة الفيلم، وما يوازي هذه المشاهد من إضاءة خافتة مُقبضة دالة على الكابوسية التي تُحيط بالأجواء، تلك السودواية التي تنبأ بها الفيلم وتكررت بعدها، هذه المرة في العالم الواقعي في بصيرة شفيفة لا تملكها سوى السينما والأفلام الكبرى، و"أثينا" أحد هذه الأفلام.




تريلر الفيلم:
https://www.youtube.com/watch?v=vRunUkdkK8s