عودة

فيلم «نسخة موثقة» لكيارستمي: أن يكون المرء بسيطًا ليس أمرًا بسيطًا!


رياض حمادي

13/02/2025

لنفترض أن فنانًا شهيرًا عاصر دافنشي ورسم نسخة طبق الأصل من الموناليزا. هل كانت لتساوي اليوم قيمة موناليزا دافنشي؟ وماذا لو أن دافنشي نفسه رسم لوحتين للموناليزا، واكتشفنا اليوم النسخة الثانية، هل ستساوي قيمة الأولى؟! هذان سؤالان مضمران ضمن أسئلة ودلالات عديدة يثيرها فيلم عباس كيارستمي «نسخة موثقة» أو «نسخة طبق الأصل» (2010) Certified Copy. الفيلم من بطولة الفرنسية جولييت بينوشيه (إيلي) والبريطاني ليام شيمل (جيمس). ويحمل الفيلم أسلوب كيارستمي الذي يجمع بين البساطة والعمق الفلسفي وتناغم الصورة الرمزية مع الحوار، وجدل الثنائيات والنهايات المفتوحة.

ما وراء القصة

يقول المخرج الألماني فيم فيندرز: «أنا لا أفكر، أنا أرى». ويقول تاركوفسكي: «ينبغي أن نضيف التفكير لكي نرى بشكل أوضح». وما قاله تاركوفسكي ينطبق على أفلام كيارستمي، وبخاصة فيلميه: «طعم الكرز» (1997) و«نسخة موثقة». كخبير آثار ينقَّب كيارستمي في تاريخ الأعمال الفنية ويأخذنا في رحلة حضارية تُشكك في معايير الأصالة وقيمة الإبداع البشري مقابل إبداع الطبيعة: هل يمكن للنسخة أن تساوي الأصل؟ أين تكمن قيمة العمل؟ ولماذا تتسم الأعمال القديمة بقيمة أعلى؟ وينقّب في المعدن الإنساني: هل أنت روح أم جسد؟! نسخة أصلية أم مقلدة؟! ويدير حوارًا أزليًا بين الرجل والمرأة، والصورة والكلمات، وجدالًا بين ثلاث لغات هي: الإيطالية والإنجليزية والفرنسية. ولكل ما سبق دلالات سأحاول الكشف عنها في هذه القراءة.

المشهد النواة

النهاية المفتوحة تترك الإجابات للمتفرج، لكن كيارستمي يُقدّم لنا مفاتيح إجابات محتملة: الأشياء في جواهرها ليست أصلًا ولا تقليدًا، نظرتنا لها هي التي تحدد ما إذا كانت أصلية أو نُسخ عنها، أو كما قال جيمس: «المهم ليس العمل، بل كيفية النظر إليه هي المهمة». يتناول الفيلم فكرة الأصالة والتقليد، البساطة والتعقيد. ولتحقيق هذه الفكرة يستعمل كيارستمي أدواته السردية (سيناريو وحوار وكاميرا وأداء) كخيوط النسيج، أو كالطوب في البناء. يبدو هذا في ترابط الحوارات وتناغمها مع لغة الصورة ولغة الجسد، والمشاهد التي تحيل بعضها إلى بعض، ويقوم المشهد الأول فيها بدور حجر الأساس. تنطوي الأفلام الفلسفية على مشهد يلخص مضمون الفيلم. في «طعم الكرز» يكمن هذا المشهد في الدقيقة 58 ويستمر ربع ساعة، في الدرس الذي يلقيه باقري على بديع. أما في هذا الفيلم، فيكمن في مشهد البداية، ومدته تسع دقائق تقريبًا. محاضرة يلقيها جيمس ميلر، بصفته مؤلف كتاب يحمل عنوان الفيلم. يُصور كيارستمي المشهد بلغتين: بصرية، عبر الصورة، وسمعية، عبر المحاضرة. وتأتي بقية مشاهد الفيلم لتتجادل مع هذا المشهد الأساسي عبر أمثلة عديدة.

لأهمية المحاضرة أقتطف منها التالي. يقول جيمس:

«هدفي هو أن أُبين القيمة الحقيقية للنسخة المقلدة، لأنها ترشدنا للنسخة الأصلية، وبهذه الطريقة يمكننا تحديد القيمة. أعتقد أن هذا لا يسري فقط على الفن.. مفهوم الأصالة نوقش عبر التاريخ، حتى في وقت كان فيه الرومان يبيعون نسخًا مقلدة من الفنون المصرية. لقد احتل مفهوم الأصالة، والأصلي والتقليد، عقول أسلافنا كما يفعل بنا اليوم.. كلمة أصيل تحمل دلالات إيجابية للغاية: حقيقي، جدير بالثقة، خالد، لديه قيمة كامنة فيه.. وأصل كلمة أصلي يعود في اللاتينية إلى كلمة ولادة .. أريد أن أستخدم هذه الفكرة لأرسم خطًا موازيًا بين الاستنساخ الفني والاستنساخ البشري، ففي النهاية نحن نسخة طبق الأصل عن أسلافنا. والبحث في الأعمال الأصلية هو عملية مُساءلة لاكتشاف جذور حضارتنا، فقد بحث الفلاسفة الإنسانيون، في عصر النهضة، في جذور الثقافة الغربية. والبحث في جذور الثقافة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعريف الأساسي للأصالة.. وفي مسألة الأصالة نحن بحاجة إلى الموثوقية والحاجة إلى الإثبات الحضاري.. ولضمان أصالة الأعمال يمكن توثيقها وفقًا لأربعة معايير: أولًا، يجب التأكد من شكل وهيئة المُجسَّم، ثم المواد التي صُنع منها...

عند هذه النقطة يرن هاتف جيمس، وبِرَدِّه تُقطع المحاضرة وينتهي المشهد، ولانتهائه قبل إكمال معايير الأصالة دلالة سنكتشفها في مشهد لاحق عندما يسرد جيمس -لإيلي- المعايير من وجهة نظره الشخصية. وبمقارنة المعايير الرسمية مع معايير جيمس تبرز علامة استفهام أُولى حول أي المعايير هي الأصل: الرسمية، تلك التي تُقدّمها لنا المؤسسة أو الإجماع، أم المعايير الشخصية؟ رنين الهاتف لم يكن وحده الذي شوّش مسار المحاضرة؛ سبقه دخول إيلي ثم دخول طفلها جوليان، أثناء المحاضرة، ثم تبادلهما الحديث عبر الإشارات، ثم انصرافهما قبل انتهاء المحاضرة. ينظر جوليان إلى أمه، ويمسك ببطنه مشيرًا إلى جوعه، تبدر منها إشارة تذمر تحثه على الصبر حتى نهاية المحاضرة، يوزع جوليان نظراته اللائمة على أمه، والغاضبة على جيمس. سلوك جوليان، ودخوله وهو منشغل بجهاز ألعابه، يشيران إلى أولوية المعدة والمتعة على الفكر والثقافة. التشويش الذي تخلل المحاضرة يشير إلى ثانويتها أو هامشية القول والسماع مقارنة بالفعل والصورة، ليس لإيلي وطفلها فقط، بل أيضًا للمتفرج الذي ينتظره ما هو أهم من المحاضرة.

اللقطة الأولى من المشهد الأول مرتبة وفقًا لثلاث طبقات حضارية: واجهة حجرية عليها نقوش بالإيطالية، ثم النسخة الإيطالية للكتاب على طاولة خشبية، وأخيرًا الكاميرا التي تصور ما سبق. هذه الطبقات تختزل تاريخ الإنسان الحضاري في لغتين: مكتوبة ومرئية. ولهذا الترتيب علاقة بموضوع الفيلم الجدلي عن «الأصل والنسخة» من خلال مقابلة جدلية بين الصورة والكلام. تركيز الكاميرا على ما تفعله إيلي وطفلها -بلغة الإشارة- يجعله حدثًا رئيسًا وما يقوله جيمس خلفية له، وهذا يعطي أولوية للصورة أو أسبقية للغة الإشارة على لغة الكلمة، وأهمية للفعل مقابل القول. من جهة أخرى، يشكك في قيمة ما يقوله جيمس. ويكشف ردُّه على هاتفه -وقد نبَّه إلى ضرورة إغلاق الهواتف- عن شخصية نظرية ومتناقضة بين القول والعمل.

تُقدِّم اللقطة الأولى الثابتة للكتاب مثالًا عن الأصالة والتقليد والبساطة والتعقيد. يظهر الكتاب في نسخته الإيطالية بينما نسخته الإنجليزية الأصل غائبة، كما يظهر الكتاب مرادفًا للحياة باعتباره نسخة موثقة لجزء منها. لكن العنوان الفرعي للكتاب: «النسخة أجمل من الأصل»، وكذلك إشادة جيمس بالنسخة (الترجمة الإيطالية) واعتبارها أفضل من الأصل الإنجليزي، يقلب معيار الأصالة؛ فتحل النسخة محل الأصل. وبدخول جوليان القاعة، وهو منشغل بجهاز ألعابه غير عابئ بالمحاضرة، تحل التقنية مقابِلًا ومنافسًا للكتاب. وستكشف المَشاهد التالية عن مقابَلات أخرى: الكبار (الآباء) مقابل الصغار (الأبناء)، النظرية مقابل التطبيق، القول مقابل العمل، الرجل أو الزوج أو الذكر مقابل المرأة أو الزوجة أو الأنثى.

جدل الثنائيات

مواصفات الأصالة، وفقًا لجيمس: الإبداع والابتكار، الجمال، العمر، الفعالية. وستظهر من خلال أمثلة عديدة. يستشهد جيمس بأشجار السرو كمثال على «الإبداع»؛ فهي: جميلة، فريدة، عتيقة، وبسيطة على الرغم من تعقيدها. يلفت المثال نظرنا إلى أصالة متحف الطبيعة وبساطته مقابل أعمال الإنسان الأثرية وتعقيدها. الأطفال مثال على البساطة مقابل الكبار، فهُم، كما قال جيمس: «يعيشون كي يستمتعوا باللحظة». جوليان نموذج للجيل الجديد: لديه حس فضول ويحب الاكتشاف والمعرفة، سريع البديهة، قوي الملاحظة، يفعل أشياء عديدة في وقت واحد: يلعب على الجهاز ويتحدث مع أمه ويستمع إلى المحاضرة. وفي سبيل قضاء وقت ممتع لا يبالي بالتوجيهات والعواقب ولا يهتم بقيمة الزمن. الاستمتاع بالحياة هو الأصل، وهو الهدف الوحيد من وجود الإنسان، لكن التفكير في العواقب يلهي الكبار ويعقد الحياة. وما يفعله الكبار مثالٌ على تعقيد البسيط، وعلى صعوبة العودة لبساطة الطفولة أو إلى الحياة الطبيعية كما تعيشها ماري وزوجها اللذان يتمنى جيمس أن يكون مثلهما.

يقول جيمس: «الجنس البشري هو الوحيد الذي نسي الهدف الكلي للحياة. المعنى الكلي للوجود هو أن نحظى بالمتعة والبهجة. فإن وَجَد أناسٌ طريقَهم إليها فليس علينا أن نحاكمهم. إذا كانوا سعداء ويستمتعون بالحياة فعلينا أن نبارك لهم لا أن ننتقدهم».

وتتجلى «الفعالية» والشخصية العملية في ماري، أخت إيلي، فهي بسيطة ولا تحاول أن تقنع أحدًا، تعيش في العالم العادي حيث يتشابه الأصلي والتقليد أو المزيف، تؤمن أن الحمقى هم من يبذلون جهدًا في الحياة، تفضّل موقد الغاز لسهولة استعماله، تحب المجوهرات المقلدة، وتزوجت رجلًا بسيطًا ترى في تلعثمه -حين ينطق اسمها- أغنية حب. ظهرت الشخصية العملية والبسيطة أيضًا في النكتة التي حكاها جيمس، عن رجل عالق في جزيرة صحراوية، يعثر على مصباح يخرج منه عفريتًا ويمنحه ثلاث أمنياتٍ. ولأن الرجل عطشان فقد استهلك أمنياته في طلب ثلاث زجاجات كوكاكولا كبيرة وباردة. هذا الرجل كما وصفه جيمس: «حياته بسيطة لدرجة أن زجاجة الكوكاكولا كانت كافيةً لتحقيق سعادته». ومع معيار «الجمال» يختفي الفارق بين الأصل والنسخة، ويظهر المثال في لوحة بوليمنيا، التي يُطلق عليها الإيطاليون: «جيوكاندا توسكانا» أو «النسخة الأصلية». لسنوات، كما ورد في الفيلم على لسان المرشد السياحي: «كان يُعتقد أن هذه اللوحة فنًا رومانيًا؛ فهي لم تكن موجودة حتى القرن العشرين، بل قبل حوالي 50 عامًا، ثم اُكتشف أنها مزورة من قِبَل مزوّر من نابولي. قرر المتحف الاحتفاظ بها كلوحة أصلية لأنها جميلة كاللوحة الأصلية. تم رسمها في القرن الثامن عشر واعتُبرت أصلية لمدة مائتي عام ثم اكتُشف أنها مزورة واسم مزورها بعد الحرب العالمية الثانية». ومثال آخر هو ما قاله جيمس عن نفسه في نهاية الفيلم: «لقد أصبحتُ أجمل»، بهدف إضفاء الأصالة على نفسه تأكيدًا لوصف إيلي له: «أنت لم تتغير.. أنت كما كنت: لطيف، جذاب، وبارد».

الصورة والظل: وجهان لحياة واحدة

لا تظهر ماري وزوجها إلا من خلال ما تحكيه إيلي لجيمس. تُعرف هذه التقنية بالحجب. وهما على هذه الحالة يُعتبران مقابلَين لإيلي وجيمس. وحجبُهما لا يعني أنهما نسخةٌ وإيلي وجيمس الأصل. قد يكون العكس هو الصحيح! تظهر إيلي في مقابلة ضدية مع جيمس، ولأنها الأقرب من شخصية ماري، فهي التجسيد المرئي لها ولما يتمناه جيمس. ظاهريًا، وكما سيتضح لاحقًا عند الحديث عن الصفات المشتركة بينهما: هي الصورة وأختها الظل. وجوهريًا، العكس هو الصحيح. أما زوج ماري فـ«جيمس» يدَّعي أنه نسخته، لكي تنظر إليه إيلي كما تنظر ماري إلى زوجها. وهذا ما سيتحقق في نهاية الفيلم. يهتم جيمس في كتابه بالتأثير النفسي والفلسفي للفنون على الجمهور، لكنه لم يستشهد فيه بلوحة بوليمنيا، ولا بشجر السرو. وإذا أضفنا إلى ما سبق المصدر الذي أوحى له بفكرة الكتاب ستتضح طبيعة شخصيته النظرية. كانت إيلي قد قالت له إن اللوحة أصلية، لترى إن كان يميز بين الأصل والنسخة. لكنه فشل، للمرة الثانية، ربما لأنه -كما قال في محاضرته- يريد أن يثبت «القيمة الحقيقية للنسخة المقلدة، فهي ترشدنا للنسخة الأصلية»، أو لأن الحديقة بلا أوراق تظل جميلة، أو لأن اللوحة «جميلة كاللوحة الأصلية» كما قال المرشد السياحي، والجمال معيار للأصالة يساوي بين الأصل والنسخة، كما عبّر جيمس، أو لأنه -كما اعترف في بداية المحاضرة- ليس خبيرًا ولا متخصصًا في الفنون.

في سبيل دفاعه عن نفسه، يعيد جيمس الأمور إلى أصولها، فالصورة الأصلية «ليست سوى نسخة من جمال الفتاة الحقيقية. ومن الممكن القول إن لوحة الموناليزا ليست سوى استنساخ للجيوكندا»، وفي النهاية، «نحن نسخة طبق الأصل عن أسلافنا». تسأله إيلي: «هل تقصد أنه لا يوجد نسخة أصلية مطلقًا؟». يرد جيمس: «ليس تمامًا. هناك عديد من النسخ الأصلية». المرة الأولى التي لم يميز فيها بين الأصلي والتقليد كانت عندما زارها في محل الأنتيكات الذي تديره. تخبره أن بعض التحف في المحل مقلدة وبعضها أصلية، في إشارة إلى عدم قدرة العين غير الخبيرة على التفريق بين ما هو أصيل وما هو دخيل.

يظهر جيمس متحدثًا باسم الأصالة ومُفككًا ما هو متعارف عليه من خلال نظرياته وكتابه وثَنائه على الترجمة الإيطالية. وتكشف نكتة الرجل وعفريت المصباح عن اختلاف جوهري بين جيمس وإيلي. تهتم إيلي بظاهر النكتة فتضحك، على الرغم من أنها قد سمعتها من قبل وتعتبرها سخيفة. هي -وفقًا لنظريات جيمس عن الأصالة والهدف من الحياة- تهتم بالجانب الوظيفي من النكتة: «المتعة لا العبرة»، ويهتم جيمس بالعبرة مناقضًا بذلك أقواله. ويتضح اختلافهما وتناقضهما عند مقارنة ما سبق بموقفهما من النبيذ، وهما في المطعم، والتمثال في الساحة. في موقفها من التمثال لم تتوقف عنده بوصفه قطعة فنية وحسب، كما فعل جيمس، لكنها غاصت إلى عمقه باحثة في فلسفة الفن عن معنى وراء مظهره الخارجي. وفيما يتعلق بالنبيذ، يرى جيمس أن مذاقه فاسد، وهو بهذا لا ينظر إلى النبيذ كما نظر إلى النكتة والعمل الفني. وفقًا لنظرياته: إن كان النبيذ فاسدًا فالمهم «ليس العمل بل كيف ننظر إليه»، أو كيف نتذوقه، و«الحديقة بلا أوراق، من يتجرأ على القول إنها ليست جميلة!». في المقابل لم ترَ إيلي النبيذ بذلك السوء الذي يصوره جيمس، فما يُهمها هو وظيفة النبيذ: الوقت السعيد الذي تقضيه برفقة جيمس. حين يفتعل جيمس مشكلة، تقول له: «ألا يمكنك الاستمتاع بما تملك بدلًا من أن تتذمر طوال الوقت؟ ألا يمكنك التغير قليلًا هنا؟». وهكذا تتخذ إيلي من النكتة والنبيذ مناسبة للدعابة والتسلية. تعطي جيمس درسًا، وتضع نظريته عن الأصل والنسخة محل اختبار.

تظهر الهوة بين الجيلين، الصغار والكبار، من خلال سير إيلي وجوليان، هي في المقدمة وخلفها ابنها. ويظهر التناقض في حديثها عنه وتعاملها معه. في حديثها عنه تعترض على كثير من تصرفاته، لكن حوارهما يظهرهما كصديقين. وتظهر هذه الصفة المشتركة بينها وجيمس في موقفهما من الزواج. تقول، في مشهد تبرّمها من سعادة عروسين أمام الكاميرا: «لو يعلمان كيف ستصبح حياتهما عندما يُرزقان أطفالًا لما ارتسمت على وجهيهما هذه الابتسامة الغبية في يوم زفافهما». يوافقها جيمس قائلا: «لا شك في ذلك»، وهذا يدل على تجربة مشتركة. ستغير إيلي رأيها في النهاية عندما تُذكّره بالزوجين المسنين. تظهر تجربة إيلي وجيمس في الماضي من خلال العروسين الشابين، أما مستقبلهما فيظهر من خلال الزوجين المسنين. في نهاية الفيلم تكشفه إيلي قائلة: «أترى؟ لم يتغير شيء. أنت لم تتغير. أنت كما كنت: لطيف، جذاب، بارد». يدَّعي جيمس الإنكار فتسأله: «هل تغيرتَ؟». يجيب: «لقد أصبحتُ أجمل». ولعله يعني التغيُّر الشكلي. فتضيف إيلي: «وأكثر غباءً»، لتحدد أن جوهره لم يتغير. ومع ذلك تتقرب منه، وهذا شاهد آخر على علاقة سابقة جمعتهما. الحوار التالي شاهد آخر على تناقض جيمس وعدم معرفته بنفسه، فضلًا عن عدم معرفته بالآخرين. تصف إيلي أختها ماري، فيقول جيمس: «إنها تشبهني». تستنكر إيلي ذلك فيقول: «أتمنى أن أكون مثلها. لقد ألّفتُ الكتاب لأحاول إقناع نفسي بفكرتي، لكنها مقتنعة بذلك بشكل طبيعي، لذا أنا أحسدها».

- إيلي: «لماذا لا يمكنك أن تكون مثلها؟»
- جيمس: «أن يكون المرء بسيطًا ليس أمرًا بسيطًا».
- إيلي: «نحن لسنا ديدان. لا يُفترض أن نكون بسطاء، نحن كائنات معقدة. ما هو الفاصل بين الشخص البسيط والعقل البسيط؟». يحتار جيمس في الجواب فيقول ساخرًا: «ذلك يحتاج إلى إجابة بسيطة».
تسأله لاحقًا: «أين النسخة الأصلية منك؟». يجيبها: «في منزل أختك». تستغرب إيلي فتسأله: «حقًا؟ أين؟». يرد: «في زوجها». وبوضعه نفسه مكان زوج أختها يريد جيمس أن يضع إيلي مكان أختها ماري. ولأنه لا يستطيع أن يتغير لكي تطابق أقواله أفعاله يريدها هي أن تتغير قائلًا: «إن لم تحاولي رؤية الأشياء من منظوري فما الفائدة!». وهذا ما تفعله إيلي في نهاية الفيلم وهي تتلعثم في نطق اسمه -"جـ.. جـ.. جـ.. ـيمس"- مثلما يفعل زوج أختها وهو ينطق اسم زوجته ماري. إيلي، في نظرتها للحياة، هي النقيض من جيمس: شخصية عاطفية، عملية، ومتّسقة مع ذاتها. يبدو ذلك من تصرفاتها ومظهرها الخارجي: ملابسها بسيطة ولا تستعمل مساحيق التجميل ولا ترتدي الحُليّ والمجوهرات. ولكي تختبر قدرة جيمس على الملاحظة تذهب إلى حمام المطعم لتتزين.

بزاوية أمامية تستعمل إيلي الكاميرا كمرآة، تضع أحمر الشفاه وقرطين كبيرين، وتعود إلى الطاولة. وحين لا يلاحظ التغيير، تنظر إليه بالزاوية نفسها، التي تجعلها تنظر إلى المشاهد، وتقول: «انظر إلى زوجتك التي جَملّت نفسها من أجلك اليوم. انظر، افتح عينيك». هذه الإشارة تثير سؤالًا: هل هما زوجان! أم أنهما منفصلان؟! أم أنهما يمثلان دور الزوجين؟! حتى هذه اللحظة لا نعرف إلا تلميحًا، وسيظل هذا هو الحال حتى آخر الفيلم لتكون العلاقة بينهما لغزًا وعلى المُشاهد حله. تحدث بينهما مشادّة كلامية تتشابك فيها لغتها الفرنسية بلغته الإنجليزية. وهما أمام الفندق تقول له: «أنت لم تلاحظ أني مسحتُ أحمر الشفاه، ولم تلاحظ القرطين. المشكلة أنك لا تراني. بينما أنا لاحظت أنك غيرت عطرك». يرد: «بلى، لاحظت». لكنه لم يعبر بما يفيد أنه لاحظ فعلًا. والحوار هنا يكشف عن شخصية الرجل وشخصية المرأة بملاحظاتها الشكلية الدقيقة. جيمس لا يُفرّق بين الأصل والتقليد، أو أنه لا يهتم، وينظر إلى الأشياء من وجهة نظر شخصية. وهذا ما رفضه حين نظرت إيلي إلى موضوع التمثال أو فلسفته. لكن هناك جانب يلتقيان فيه، فهو يعطي للنسخة قيمة مساوية للأصل، وهي أعجبها العنوان الفرعي للكتاب: «انسَ الأصل واحصل على نسخة جيدة». وفي وضعها لأحمر الشفاه والقرطين دلالةٌ على قدرتها على أن تتغير وتكون نسخة أخرى من نفسها.

الكاميرا والمرآة

استخدام وضع الكاميرا في موضع الرؤية الذاتية أو حديث الممثل إلى الكاميرا مباشرةً يحطّم الجدار بين الشخصية والمتفرج. وهدف المخرج هو أن يأخذ موقفًا من الحدث، «ليوجه عواطفنا نحو شخصية بعينها دون الشخصيات الأخرى.. من أجل تحقيق توحد المتفرج مع الشخصية، ومن أجل أن نشعر بالمشاعر الداخلية للشخصية، وهو الأمر الحيوي لخلق علاقة بين المتفرج والقصة... قد تكون حركة الكاميرا الذاتية هي أقوى أدوات المخرج لكي يربط بين شخصيات الفيلم والجمهور... والإيحاء بكون الشخصيات الرئيسية ضحية». 1

الأمثلة على استعمال زاوية التصوير هذه كثيرة: مثل المشهد الأول من فيلم «انفصال» (2011)A Separation لأصغر فرهادي. وفي «برتقالة آلية»A Clockwork Orange (1971). ينظر مالكولم ماكدويل مباشرةً إلى الكاميرا. لكن اللقطة الأمامية القريبة الأولى في تاريخ السينما كانت في فيلم «سرقة القطار الكبرى» The Great Train Robbery(1903), ، حين يوجه جورج بارنيز مسدسه تجاه الكاميرا ويطلق النار.

بلقطة قريبة أمامية تُستعمل الكاميرا كمرآة. نفّذ تاركوفسكي هذه اللقطة في فيلم «المرآة» (1975) Zerkalo لامرأة تضع قرطين وهي تنظر إلى الكاميرا مباشرة. وعندما تذكّر تاركوفسكي أن بيرغمان استعمل هذه اللقطة في أحد أفلامه فكّر في تغييرها. (قال ذلك في محاضرة ألقاها في إيطاليا بعنوان «السينما والزمن، ماهية السينما ومشكلاتها»، الدقيقة الخامسة. وأشار إلى أن بيرغمان استعمل هذه الزاوية في أحد أفلامه، ولما أدرك تاركوفسكي ذلك كان على وشك أن يعيد تصوير اللقطة بزاوية مختلفة، حتى لا يقلد بيرغمان، ولكنه تركها كما هي، لتكون «تحية إجلال لهذا الصديق العظيم» كما قال).

توجيه الكاميرا تجاه المتفرج غير ممكن إلا بوسيلة غير مباشرة هي نظر الممثل إلى الكاميرا. وهذه تقنية سردية يماثلها في السرد الروائي توجيه السارد الحديث إلى القارئ، وفي السينما إلى المتفرج. «وودي ألن» هو أشهر من طبّق هذه التقنية خصوصًا في فيلمه «آني هال» (1977) Annie Hall. وفي فيلم كيارستمي هذا، تضع إيلي القرطين وترسم أحمر الشفاه، وهي تنظر إلى المرآة (الكاميرا). تُستعمل الكاميرا كمرآة، وتلوح للكاميرا في لقطة لاحقة. وبهذه الزاوية تنظر إيلي إلى المتفرج مباشرةً فتقحمه حكمًا بينها وبين جيمس، ولسان حالها يخاطب المتفرج: كيف تراني؟! أصل أم صورة؟!