عودة

واقعية نظرية "العَود الأبدي" في مسلسل Dark


عبده تاج

12/02/2025

يستند مسلسل Dark إلى ظاهرة «ديجافو» -وكلمة «ديجافو» هي كلمة فرنسية تعني «شُوهد مِن قَبل»- ليعرض مشاهِد المسلسل وكأن أحداث عام 2019، تاريخ البداية، قد جَرَت من قبل زمن، وديجافو -كما يفسّره علم الأعصاب- هو خلل ناتج عن اضطراب تفريغ الشحنات الكهربائية في الدماغ.

يحاول المسلسل -اعتمادًا على أحداث مثل تشيرنوبل- أنْ يمنحَ العَوْد الأبدي طابعًا واقعيًا ليصوّر الحاضر تكرارًا قريبًا للماضي، وليُبيّن أن الحياة التي يعيشها الإنسان قد حدثت من قبل وستحدث بنفس الآلية. ولكنني أستحضر كونديرا في رواية «كائن لا تُحتمل خِفته» وهو يشخّص توماس، الشخصية التي خُلِقتْ من ضوء فكرة العَود الأبدي، يناقض فكرة المسلسل إذْ يقول: «لا يمكن للإنسان أبدًا أن يدرك ماذا عليه أن يفعل لأنه لا يملك إلا حياة واحدة لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة».

وهكذا عَزَل كونديرا -من خلال توماس- الماضي عن الحاضر باعتبار كل تجربة في الحياة امتحانًا جديدًا. تكاد تكون ثيمة الرواية الرئيسة قد استندتْ إلى هذا الأساس، فالخفة والثِّقَل مبنيان على استحالة تكرار أحداث الحياة الشخصية لأبطال الرواية، ليرد تصريح تأمُلي في «كائن لا تحتمل خفته»: «إنَّ هذه المصالحة مع هتلر تفضح عمق الشذوذ الأخلاقي الملازم على انعدام العَوْد». إذنْ فالعود الأبدي منعدمٌ بالنسبة إلى السارد في الرواية، غير أن مسلسل Dark يختلف تمامًا معه، فحتى أحداث ليس لها أي تأثير مثل سقوط الطيور يتكرر كل ثلاث وثلاثين سنة، مُجسِّدة بُعدًا سينمائيًا لفكرة العَوْد الأبدي التي شَغِفَ بها نيتشه.

أورد نيشته في كتاب «العِلم المرح» التصريح بفكرة العود الأبدي، وضمن موضوع الثقل قال: «إذا ظهر لك شيطان في أحد الأيام أو الليالي، وأنت في وحدتك الشديدة، وأخبرك أن حياتك التي عشتها وستعيشها ستُعاد مرات ومرات بلا نهاية دون أي تجديد فيها، كل ألم أو فرح أو تنهيدة أو فكرة، وكل شيء أكان صغيرًا أم كبيرًا في حياتك، سيعود إليك بالتتابع والترتيب نفسه(...) الساعة الرملية الأبدية للحياة تُقلَب مرارًا وتكرارًا وأنت معها كذرة من الغبار». ويبدو أنّ فكرة مثل هذه استهوتْ كونديرا ليكتب روايته، غير أنّ المُلاحَظ في كلٍّ من «هكذا تحدث زرادشت» لنيتشه و«كائن لا تحتمل خفته» ومسلسل Dark وجود الاختلاف في تفسير العَوْد الأبدي، فالمسلسل لم يعتمد الفلسفة لتصوير الفكرة، بل استند إلى العلم، أو إلى الفيزياء تحديدًا، ليُحضر مثلاً اقتباسًا لألبرت أينشتاين: «الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم عنيد مستمر» أو نظريات مثل الثقب الدودي والسفر عبر الزمن، بينما مال كونديرا عبر شخصياته إلى نقض العود الأبدي فلسفيًا، وهو الاتجاه الذي انطلق منه نيتشه.

في الاقتباس السابق لنيتشه يَرِد مشهد تصوّري لإدراك الرعب في فكرة العود الأبدي، والثقل نفسه الذي افترضه سيظهر واضحًا في شخصيات «كائن لا تحتمل خفته» في حال تكرار الأحداث، بينما Dark في هذه الفكرة يكون له السبق في تجسيد ضحايا فكرة العود الأبدي، فشخصيات مثل جوناس وكلوديا تيدمان وهانا كانوالد ستظهر مغتربة وملولة ليضفي الإخراج الفني لأحداث المسلسل -الذي يتسم أبطاله بالتوتر- إضاءة كئيبة وموسيقى ألمانية ثقيلة، حيث لم يكن الإخراج الفني للصورة السينمائية سوى امتداد للحالة الذهنية القَلِقَة لشخصيات دفعوا ثمن إدراكهم لتكرار الأحداث، وهو الافتراض الذي توقعه نيتشه وكذلك كونديرا. يستميل كونديرا القارئ -عبر شخصياته مكتوفة الأيدي أمام تجاربهم التي تبدو جديدة- بالإقناع باستحالة فكرة العود الأبدي، فضلاً عن التصريح بانعدامها، والرواية هي نقض صريح لفكرة العود الأبدي كما أسلفنا، فقد تحدث كونديرا في الرواية عن عديد من الشخصيات المتنوعة، مثل أصدقاء توماس وعشيقته السابقة، وصوّرها بشكل معقد ومتناقض ليبرز كيف تلعب التجارب المستحدثة دورًا في تعقيد الحياة، كما يتحدث أيضًا الكاتب عن العلاقة بين توماس وزوجته صبرينا، والتي تتطور بشكل غير متوقع وتتعرض لكثير من التحديات، فقد بدا مناسبًا للجو العام للخفة والثقل اختيار العلاقات الغرامية، كونها أكثر التجارب غنية بالأحداث، غير أن المشترك بين الرواية والمسلسل هو الشخصيات المعذّبة بملل الأحداث، وهي الفكرة المفترضة عند كونديرا مع استحالتها، وهي الفكرة المحقَّقة في مسلسل «دارك» استنادًا إلى نظريات علمية شحنت الجو الفني للمسلسل وعملت على إنجاحه بتقديم فكرة معقدة مثل فكرة العود الأبدي.

بالنسبة إلى فترة العَود، فلا نيتشه ولا كونديرا حدّدا المدة الزمنية له، أما Dark -وهو المسلسل الذي استوجب عليه أن يقدم أرقامًا، كونه استند إلى العلم- فقد اتفق أن تتكرر الأحداث كل ثلاث وثلاثين سنة، وهو زمن يمكن للإنسان أن يعيش فيه أحداث حياته مرتين. يُقدِم أبو جوناس على الانتحار، وهو الثِّقَل نفسه الذي أخبر به كونديرا في روايته، فالأجواء العائلية التي أحاطت بأبي جوناس كانت خانقة، فهو الذي عرف مصيره مبكرًا وعاش أحداث الماضي. يورّث قلقه إلى جوناس ابنه، إذ يعاني من أمراض نفسية ويستخدم عقاقير لتهدئته، بينما تذهب الأم لخيانة الزوج مع شخص آخر، فهذا التفكك العائلي والأمراض النفسية والانتحار كان سببهم -ما إذا قرأنا المسلسل بتفحص- هو معرفة الأشياء مسبقًا.

لا يشمل مسلسل Dark الماضي والحاضر فحسب، بل يمتد إلى المستقبل، لتأتي شخصية جوناس المستقبلية إلى شخصيته في الحاضر وتخبره بأنه يدور في دائرة مغلقة أُعدَّت أحداثها مسبقًا. جوناس المستقبلي عكس جوناس الحاضر، فهو شخصية يبدو عليها التمزق والعدمية، كونها أدركت أحداث الماضي والمستقبل معًا، مع تكرارها الحتمي، مما يذكرنا بتساؤلات نيتشه السابقة عما إذا تكررت الأحداث. كان نيتشه يؤمن بنظرية العود، بل هو نفسه كان يقول إنه مؤسسها، غير أن نظرية العود الأبدي -وهي فكرة تشبه تلك المعتقدات التي تقول بأن هناك حياة بعد الموت، وأن الروح أو الوعي يمكن أن يعود إلى الحياة بعد الموت في جسد جديد أو في عالم ما بعد الحياة- قد وُجدت في عديد من الثقافات والديانات حول العالم، وقد تم تناولها في الفلسفة والأدب والفنون وغيرها من المجالات. لكن نيتشه كان أيضًا يفرق بين إدراكها وعدم إدراكها، فشخصيات مسلسل «دارك» التي أدركت تكرار الأحداث اختلفت جذريًا عن الأخرى التي لم تدركها، لتحقِّق الثِّقل الذي افترضه كونديرا في رواية «كائن لا تحتمل خفته».

أخيرًا، تبدو الفكرة الأساسية في «كائن لا تحتمل خفته» قائمة على عدم جدوى الحاضر كمؤثر على التغيير، فالفكرة الفلسفية التي تعتمد انعدام العود الأبدي تتسم أحداثها بالنوعية، غير أن مسلسل Dark لا يتفق مع هذا، فهو يقوم على مبدأ العلية: «ليس الماضي فقط هو ما يؤثر على الحاضر، بل المستقبل أيضًا يؤثر على الحاضر». هكذا ترد جملة مثل هذه تفسر العلية التي أتت بها التجارب، حتى إن السفر إلى الماضي ومحاولة تغيير الأحداث يكون قد وجد هذا التأثير مسبقًا في عالَم الحاضر، وهكذا لم يخرج المسلسل على مبدأ العلية والمنطقية العلمية التي افترضها في جميع أحداث المسلسل، غير أن جنوحه للعلم لم يستطع أن يخرج تصوره للعود الأبدي من حاضنته الفلسفية، سواء تلك الأفكار التي حضرت في «كائن لا تُحتمل خفته» لكونديرا أو في «العلم والمرح» و«هكذا تحدث زرادشت» لنيتشه.