عودة

الموروث في السينما السودانية- فيلم (ستموت في العشرين)


حبيبة الزين

22/09/2024

الموروث الثقافي هو أكثر ما يميز الدول والشعوب عن بعضها، ولعل هذا ما لعب عليه المخرج أمجد أبو العلا في فيلمه الشهير (ستموت في العشرين)، الذي لاقى ترحيبًا كبيرًا من الجمهور والنقاد على حد سواء. ويرجع هذا إلى أنه أول فيلم روائي طويل في السودان منذ أكثر من عشرين عامًا، ما أكسبه أهمية كبيرة لدى الجمهور والنقاد. وقد جاء الفيلم مقتبسًا من قصة شهيرة للكاتب السوداني المعروف حمُّور زيادة بعنوان (الموت عند قدمَي الجبل)، وقد شارك في الكتابة أمجد أبو العلا والكاتب يوسف إبراهيم.

اكتسب الفيلم أهميته أيضًا من قربه الشديد من البيئة السودانية، فنجد أن الأحداث تقع في منطقة الجزيرة في جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، كما نلاحظ أن القصة بسيطة ليس فيها كثير من التعقيد؛ فهي تدور حول فتى اسمه مزمل وُلد في قرية يحاصرها موروث ثقافي يقدس طريقة صوفية معينة، يتبعون شيخ تلك الطريقة وينفذون أوامره. وعندما وُلد مزمل ذهب به والداه إلى شيخ الطريقة؛ لكي يبارك الطفل ويدعو له بالخير والعمر، وفي أثناء ذلك -وفي وجود أهالي قريتهم الذين جاءوا أيضًا ليأخذوا البركة من الشيخ- يقع فأل سيئ في أثناء تسبيح درويش من دراويش الشيخ على المسبحة، حيث سقط عند حبة المسبحة العشرين، فتوقع الحضور أن هذا فأل الفتى مزمل وأنه سيموت في العشرين، وعندما حاولت سكينة والدة مزمل أن تستغيث بالشيخ وترجوه أن ينكر ما حدث، قال: "إنها أشياء بيد الله، وإن القدر مكتوب!".

ومن هنا تبدأ رحلة سكينة مع حقيقةٍ وضعوها حولها وصدقتها هي، وأصبحت ترتدي الأسود منتظرةً بلوغ فتاها سن العشرين؛ فهي -واقعيًّا وببساطة- تنتظر موته! لم تحاول سكينة الفرار من هذا الموروث الجاهل، ولم تحاول سكينة رفض هذا الواقع أو رفض ما وقع عند الشيخ. وحقيقةً لم تكن وحدها التي وقعت في هذا الفخ، بل نجد والده أيضًا يترك مزمل وسكينة مسافرًا؛ بحجة أنه لا يستطيع أن يرى ولده يموت أمام عينيه وهو ينتظر! ولكن يستمر السؤال: هل سيموت مزمل في العشرين؟

حجر يسقط في ماء الموروث

أمامنا شريط واحد لطريق واحد يمشي فيه مزمل ونمشي نحن معه، باحثين عن حقيقة موته. وبينما يسود الإحباط حياة مزمل، خلق أمجد أبو العلا شخصية سليمان التي تختلف عن الشخصية الموجودة في القصة. فسليمان هنا مصور مبدع زار كثيرًا من الدول حول العالم، ويعرف السينما والرقص، ويحب الفن أكثر من أي شيء آخر، ويختلف عن بقية القرية، أو بمعنى أدق لا يقبل موروث تلك القرية أيًّا كان هذا الموروث، وكذلك أهل القرية لا يقبلونه ويرونه غريب الأطوار، ونجد أن سليمان كان بمثابة الحجر المُلقى في بحر مزمل الساكن الذي يملؤه عفن الجهل الموروث.

ذكر أمجد أبو العلا في إحدى حواراته أن في شخصية سليمان كثيرًا من شخصيته الحقيقية، وأنه اندمج مع تلك الشخصية لدرجة كبيرة جعلته يحاول التعبير عن آرائه وغضبه وآماله من خلال سليمان.. سليمان الذي جعل مزمل -لأول مرة- يعصي أمر والدته التي أمرته أن يبتعد عنه.. سليمان الذي كشف لمزمل باب السينما ومعنى أن ترى أشياء جديدة غير الأشياء الموروثة المعتادة، ومعنى أن تختار ما ترى، وما تتقبله وما ترفضه. فنجد سليمان يثور على مزمل ويقول له منفعلًا أن يخرج من تلك البلدة، فهي مجرد بلدة، وفي آخر مشهد له مع مزمل يقيم حوارًا صادمًا وحقيقيًّا يهز مزمل ويجعله يفيق، فيقول له: "موت.. كل شي فيك بيذكرني بالموت.. مشيتك، طيبتك، نظرت عيونك ميتة يا أخي.. أنا داير اللي حواليني حيين"، ثم قام بطرده.

أثَّرت كلمات سليمان السابقة في مزمل بشكل كبير، وفي أثناء عودته لبيته ليحسب عدد الخطوط التي رسمتها سكينة على الحائط لتحسب بها عمره، نجده يقول لها: "عشرين"، أي أنه سيصل غدًا سن العشرين، ونجد سكينة تطلب منه أن يعيد حساب العلامات مرة أخرى، فلم يرد عليها، وخرج مهرولًا من البيت على الرغم من سماعه إياها، وتقوم الكاميرا هنا بدورها لتجعلنا نرى كيف أعطى مزمل ظهره لسكينة وعلاماتها، ومضى مسرعًا.

الفرار نجاة

لم يكن بطل فيلمنا -مزمل- بطلًا في حياته، بل كان تابعًا لما حوله من اعتقاد يقول إنه سيموت في سن العشرين، ولكن في لحظة هرب مزمل، نرى أثر الحجر الذي سقط في الماء الراكد؛ أثر كلمات سليمان على مزمل، فنجده يهرب ويقتحم بيت ست النسا، ويطلب أن يقيم معها علاقة في جرأة منه وثورة، جعلته لأول مرة لا يخاف من الموت.. الخوف الذي جعله يخسر حبه لنعيمة التي جمعته بها علاقة عاطفية جميلة، لكن -لاعتقاده بأنه سيموت قريبًا- تركها، فتمت خطبتها لآخر.. الخوف الذي جعل سليمان ينهره ويقوم بطرده.. الخوف الذي سكن داخله طوال عمره.. الخوف الذي جعله يذهب للشيخ إثر وصية والديه ليدعو له بطول العمر، ولكنه لم يجده ووجد شابًّا حل محل الشيخ والذي بدوره تحرش بـمزمل، وطلب منه أن يلازمه في خلوته، ولم يأخذ مزمل أي موقف ضده، ولكنه لم ينفذ طلبه.

عندما رأى مزمل أن من الممكن أن يموت غدًا، قرر أن يفعل ما يريده ويترك الخوف جانبًا، وفي اليوم التالي في بيت ست النسا يفتح الباب، فيرى أنه لا يزال على قيد الحياة ينظر للشمس وللناس مبتسمًا في دهشة كأنه صدق حدسه، ثم يهرول مزمل وراء سيارة تخرج من القرية، ويهرول ويهرول في إشارة لهروبه من مصيره الذي وضعوه فيه، تاركًا ظنونهم خلفه ليمضي وراء حلمه في الحياة، تاركًا سكينة تدق البخور الذي يوضع مع الميت هي وجيرانها استعدادًا لموته، تاركًا خلافها هي وزوجها حول اختيار مكان قبره، والذي قررت سكينة أنه سيكون بجوار قبر أبيها. رحل مزمل تاركًا أهل قريته يبحثون عن جثته في النيل، النيل الذي دائمًا يموت فيه شباب الجزيرة ومات فيه عم مزمل. ترك مزمل كل هذا العبث الموروث خلفه وذهب لاختيار طريقه الخاص، طريق بلا خوف ولا موروث يحكمه.

كيف لبساطة الفنيات أن تترك أثرًا؟!

ينتمي الفيلم لرحلة البطل العادية، لا لعب بالمونتاج ولا قصص مختلفة عن بعضها، وكذلك ينتمي للأفلام الواقعية الجديدة، فهو يعبر عن أفكار اجتماعية تخص الطبقة الوسطى في السودان، كما أنه صُوِّر في المواقع الفعلية الواقعية، فنجد البيوت عادية كما لا يوجد استديوهات تقريبًا، بالإضافة إلى أن أمجد أبو العلا استخدم ممثلين غير محترفين، بما في ذلك الأدوار الرئيسة في الفيلم، كما استخدم مجاميع من الناس الحقيقيين كبديل للكومبارس المحترفين، ويظهر ذلك في تجمع مريدي الشيخ وفي حفلات الزار وفي اجتماع النسوة للاحتفال بزواج نعيمة. كما أننا لا نلاحظ في السيناريو الاعتماد على الحوارات الأدبية، بل اعتمد على الحوار العادي واللغة المحلية العامية الخاصة بالسودان. كما ابتعد الفيلم عن الحيل السينمائية في المونتاج والإضاءة وحركة الكاميرا، ونجد أيضًا بعض الارتجال في السيناريو وتوظيف المشاهد الطويلة والحوار الممتد، والاتصال المباشر مع الواقع الاجتماعي الحديث، بالإضافة إلى تحطيم تابوهات الموضوعات المسرودة ونقد الدين ورجاله، ويظهر هذا من خلال السخرية مما قاله الشيخ لسكينة. كما ينتقد الفيلم الشكل الجاهل للدين والتصوف بشكل غير مباشر، حيث جعل الدرويش متحرشًا في إشارة منه لتحطيم صورة الشيخ المثالية. كما نجد أنه لعب في الثوابت، فأظهر النيل -الذي هو مثال للخصوبة والخير- سارقًا للشباب الذين يغرقون فيه بكثرة، كما أنه استبعد تمامًا عنصر الراوي، واعتمد على اتخاذ وجهة نظر محايدة، فهو يعرض واقعًا اجتماعيًّا فقط.

يُقدِّم فيلم (ستموت في العشرين) بداية مختلفة لسينما سودانية جديدة، ممتلئة بروح الشباب المبدع في الإخراج والكتابة والتمثيل. وقد اقترب الفيلم من البيئة السودانية اقترابًا حقيقيًّا، جعل للفيلم خصوصية كبيرة أصبح مميزًا بها، ولم يُجمِّل أمجد أبو العلا الواقع ولم يُقبِّحه، بل عرضه للمتفرج كما يراه هو وكثيرون من أهل البلد. وقد شجع الفيلم عددًا من المخرجين السودانيين على ترك بصمات خاصة بهم، فأصبحنا نرى الأفلام السودانية تأخد مكانها في المهرجانات والمسابقات العالمية، وهذا هو ما يميز السينما.. السينما التي يستطيع الفنان فيها أن يخرج من المحلية إلى العالمية، وأن يكشف للناس حقيقة واقعهم وواقع غيرهم.