عودة

تأملات حول ريتشارد لينكليتر ومعضلة الزمن


أسماء عوض

22/09/2024

في إحدى ظهريات أثينا الحارّة، تجول المشّاء أرسطو كعادته يتهادى الخطى بقدميه ممارساً هوايتيه المفضلتين: المشي والتفكير. لمع في ذهنه تساؤل له كل الحق في طرحه وإن بدا أمراً محسوماً في وقتنا الحاضر، لكن لنتذكر معاً…نحن هنا في القرن الرابع قبل الميلاد. صدح بسؤاله: "ما الزمن؟"، ثم زاد من سرعة خطواته، أو لعله خفض من وتيرتها حتى يُحدث توازناً مع تلك الضجة الصادرة عن تلك المسألة، فالجسد لا يقوى على تحمل ضجيجين. لا نعلم علم اليقين كم يوماً مضى وهو يبحث عن إجابة، وكم نقاشًا خاضَ ليقتنع بما توصل إليه، وعدد الأميال المقطوعة في أثناء تلك المعمعة. إلا أننا نعلم أنه توصل لحقيقة مفادها أن "الزمن هو قياس التغيُّر". ولتفكيك تلك الجملة حتى نتشرب المفهوم بشكل أكبر، سنعي أن أرسطو رمى إلى مقصدٍ مفاده أنه إذا لا يتغيّر شيء، فإن الزمن لا يمرّ، أي لا وجود للزمن دون تغيّر. حقيقة متطرفة تلك التي نطق بها أرسطو عن الزمن، احتاجت ردًا مناقضًا له بعد قرون عدة من قِبل نيوتن، والذي أجزم على وجود زمن مستقل لا علاقة له بالأشياء وتغيراتها، حتى لو تجمّدت أرواحنا وسكنت دون تبدُّل يُذكر، سيمضي الزمن في رحلته مواصلًا الجريان دونما أي اكتراث.

لعل مرور الزمن غير المُبالي بتأثيراته على معظم البشر أمرٌ يصيب الشاهد عليه بخطب جلل، فأنت تخرج لهذه الحياة ويبدأ معها عدادك الخاص بالتكتكة دون توقف. تلك التكتكة تصاحبها تحولات في هيئتك ومعتقداتك، وفي المحيطين من حولك. حتى الأماكن لن تضطر لمغادرتها حتى تستشعر اختلافاً في بقع أخرى، ستتبدل من تلقاء نفسها مع مرور الوقت، فلن تتعرف عليها عند التواجد بداخلها. يتدفق الزمن، وهو فعلاً يمضي قدماً مثل نهر جارٍ لا يرغب في أن ينضب أو يتوقف، إلا أنه سينضب أو يتوقف على أية حال ولا نعلم بعد عن الطريقة التي يتيه بها وينحرف عن مساره الأوحد، ولا نرغب في معرفة تلك التفاصيل المرعبة. جُل ما نهابه: "ماذا يخبئ لنا المستقبل؟"...تظل تحوم وتدور حول تلك المعضلة الخفية، ولعلها نالت النصيب الأكبر من الاهتمام؛ نظرًا لغموضها وإحاطة نفسها بسواتر تجعلها لا مرئية. إذن هو خط واحد لرحلة ذهاب دون عودة: ماضي…حاضر…مستقبل. الأول يتشبث بلوعة الندم والتحسر واجتزاز ما ساء منه نحو اللحظة الآنية، والتي تعد الحاضر المُعاش. والحاضر لا يهنأ بنيل نصيبه من الاهتمام بسبب التعلق بهواجس خفية يضمرها ذلك المستقبل. السبب قبل النتيجة، الجرح قبل الألم، والنظام قبل الفوضى…تعاقبات لا يمكن العبث بها؛ فمن غير المعقول أن تطلب أن تكون في الماضي بعد الحاضر أو أن تخط الخُطى مباشرة صوب المستقبل دون البدء في الماضي.

يُبعد المخرج ريتشارد لينكليتر تلك الهواجس عنك قليلاً، مُذكّراً إياك بالبقاء داخل تلك اللحظة…ذلك اليوم. لا يرغب في أن تذكر الأمس ولا أن تفكر في الغد. ابق هنا، لا تكترث بتلك المعادلة غير المعكوسة لمرور الزمن. أربع وعشرون ساعة تعيشها لحظة بلحظة–ضجرة كانت أم جذابة–بالأحاديث المفتعلة والصمت المطبق، بالرتابة والحماسة، بالخجل والجسارة، وإن برز رأي مُعارض يجزم على عدم وجود حاضر وعلى أننا نقبع داخل متاهة مخروطية الشكل، تبرز فيها معالم ماضٍ ومستقبل دون تواجد لحظة واحدة مشتركة. فما تعُدّه حاضراً لك قد يكون ماضِيّ أنا، وما يُعد حاضرَك قد يصبح مستقبلي–إنْ تواجَدْنا في أمكنة مختلفة تتأثر من خلالها سرعة مرور الضوء–إلا أننا لا نرغب في تتبع كل أحاديث الفيزيائيين، وإن بلغوا من معرفة ما لم نقربه. في ثلاثية ما قبل الشروق/الغروب/منتصف الليل، جيسي وسيلين شخصيتان ابتدعهما لينكليتر ليثبت لنا صحة نظريته المتعلقة بروعة أحداث اليوم الكامل دون ضرورة اقتطاع الأجزاء غير المثيرة منه. في الجزء الأول من تلك السلسلة نسير معهما خطوة بخطوة في القطار أولًا، ثم النزول منه والتسكع داخل شوارع فيينا، والوقوف قليلًا عند محل موسيقي، وركوب الترام ثم النزول منه، والاضطجاع داخل الحديقة، ومراقبة شروق الشمس، والعودة مرة أخرى لمحطة القطار. تلك السلسلة تحتشد بعبارات لشخصين يرغبان بشدة في التعرف ببعضهما البعض، رغم اعتراض بعض المنغصات، متمثلةً في لحظات الريبة والصمت المبرر من دون شك. كان كلاهما المسبب الرئيس في انفراج شفتي الآخر داخل ذلك الحاضر، والذي يُعرف باليوم السادس عشر من شهر يونيو لعام 1994.

يتدفق الزمن بعد تسعة أعوام منذ ذلك اللقاء، وهنا يبرز هَوَس لينكليتر بثيمة الزمن؛ فلم يستعجل ببدء العمل على الفيلم الآخر ضمن ثلاثية جيسي وسيلين على الفور، لكنه أحب أن يضفي مصداقية على سرده لأحداث القصة بالانتظار فعليًا تسع سنوات لتصوير الفيلم الثاني. ترك الزمن يفعل فعلته بملامح البطلين، وتركه أيضًا يعبث بشخصياتهما. محاولات في إعادة تلك الرابطة المنشأة على عجل في تلك الليلة في فيينا، لكن هذه المرة في باريس. تستمر الثرثرة فيما بين جيسي وسيلين لنلاحظ معها التحوّرات التي أصابتهما خلال تلك المدة، فيبرهن جريان الزمن على وجوده. يسعى كل واحد منهما بمحاولة إعادة الآخر. نجدهما هذه المرة أكثر جدية وسوداوية مما كانا عليه في فيينا. ويذكّر بعضهما البعض–بحسرات متوالية–بما فاتهما من رغد الحياة نظير عدم بقائهما معًا بعد اللقاء الأول في فيينا. يجعل لينكليتر صفة الندم جلية، ومرتبطة بأشد الوثاق بمضّي الزمن، وكما هو الحال دائمًا، يكون الندم رفيقًا ونديمًا لما وقع في الماضي، وفي لحظات العمر الماضية قُدُمًا، وفي كل وضع يتواجد الإنسان بداخله. نجد البدايات المحلقة والمرتفعة طرديًا بلا انتكاسة إلى أن نبلغ معها قمة الحالة، ليأتي بعدها الانهيار والعودة مرة أخرى لنقطة الصفر، حالة شبيهة بما يمثله منحنى بيل الشهير. وفي لعبة الزمن داخل الفيلم، وضع لينكليتر جيسي وسيلين في الجزء الثاني من السلسلة على بُعد بضع خطوات بسيطة من قمة المنحنى.

يمضي الزمن مرة أخرى بذات التدفق الزمني، ومعه يتخلى البطلان عن كثير من المزايا، وتبرز على الفور مساوئ لم تطفُ على السطح قبل هذه اللحظة. الملل، الرتابة، وعدم الانبهار بالآخر…جميعها ستكون عناوين رئيسة لسير علاقة بطلينا في رحلة التوجه نحو المستقبل، ويجزم لينكليتر هنا بصعوبة تعرفنا على جيسي وسيلين، فإننا سنستنكر أفعالهما رفقة أقوالهما، بل سنطرح التساؤل عن حقيقة علاقة الحب التي جمعتهما فيما مضى: هل كانت حقيقة أم هي محض وهم خلقناه نتيجة التركيز المبالغ فيه على أيام بعينها دون سواها؟ كما أن الأمل قد غادر أرواحهما لتطول رحلة البحث عنه داخل إحدى الجزر اليونانية.

في فيلمه boyhood أُصيب لينكليتر بالجنون–الجنون المصاحب للإبداع–حين ابتدع فكرة تصوير فيلم واحد لمدة تزيد عن عشرة أعوام. تتبع من خلالها مراحل نمو الطفل مايسون حتى نصل معه إلى مرحلة الشباب والانطلاق في رحلة الحياة. يعيش كل فرد منا قصة شبيهة لها، أيًا كانت بقعته الجغرافية، فكلنا نشترك في مراحل الطفولة والفضول لمعرفة العالم وإيجاد إجابات شافية لغموض ما حولنا، إما عن طريق الخبراء المحيطين بنا، أو التوصل لها في تجربة عرضية تحصل دون عمد. قد تعد قصص بعضهم مميزة بشكل أكبر إن وُجد خلل في الصورة المثالية لمراحل النمو، كمغادرة أحد الوالدين وعدم اكتمال أفراد العائلة، وهو الأمر الحاصل مع مايسون من خلال طلاق والديه. هذا الأمر يجعل القصة أكثر تشويقًا عندما نجده في كل مرة يتنقل بين البالغين المسؤولين عن نشأته لنلاحظ معها اختلافات التعامل وميله المجبر تجاه أحدهما، دون أن نغفل عن نصب مقارنات من قِبلنا عمّن هو الأفضل والأسوأ. ولعل الرغبة المنشودة من قِبل مايسون أو من وجهة نظر المخرج لينكليتر هو ألا نجعل أطفالنا أبطالًا، ولكن فقط لِنَدَعهم يبحرون في حقل التجارب الفاشلة دون حمولات ثقيلة من توقعات قد تبدو منطقية، إلا أن الشخص الملزَم بتحقيقها لا يتقبلها ببساطة، هو فقط يريد أن يحيا.

في إحدى مشروعاته القادمة–والتي ما تزال سرية وفي طور التنفيذ–ينوي لينكليتر إمضاء مدة زمنية تقارب العشرين عامًا حتى ينجز هذا العمل، حيث من المتوقع أن يصدر في عام 2040. وعلى ما يبدو أننا ما زلنا نراقب لينكليتر وهو يغوص في البحر الثري الساكن لمعضلة الزمن، يحاول أن يحرك مياهها الراكدة والتي من المؤكد أن تُخرج لنا قطعًا مشوقة تستلزم استحضار انتباهنا رفقة تساؤلاتنا.