شارك
يرسم المخرج التونسي الناصر خمير عالمًا متميزًا بمنحى تراثي عربي وإسلامي في أفلامه. يستمد المخرج مادته من المعتقدات الشعبية والميثولوجيا الكلاسيكية والحكايات القديمة وعوالم الخرافة الشفوية، ويستلهم دلالاته من التراث الثقافي للإسلام؛ يشكّل بخبرته وممارسته لفنيّ الرسم والنحت جمالياتٍ بصريةً مغايرةً تنتمي إلى الحضارة العربية - الإسلامية، بحيث تعالج أعماله موضوعات الهوية، وتنشغل بالبحث في جدلية التراث والحداثة.
يستعيد الناصر خمير في فيلم "طوق الحمامة المفقود" – وهو الجزء الثاني من ثلاثية "الصحراء"، التي تتكون من فيلم "الهائمون"، و فيلمنا هذا، والفيلم الأخير "بابا عزيز" – زمن ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس، والصراع على السلطة، والثورات المقهورة، وتعاقب الأمراء وملوك الطوائف، ولكن في مكان حيث الحب هو الناظم لهذه الحكايات المروية مثل الحلم، إذ يرفض تنويه المُشاهد بالزمن الذي يشاهده، ليس لأنه يتجنب فعل التأريخ، بل لأن "الوقت" نفسه ينقل لنا ما هو واقعي، على حين أنه يعمد إلى إلغاء الحدود الفاصلة بين الواقع والحلم، ففي فيلم "الهائمون"، تطوي كثبان الرمل جميع سمات الحاضر والواقع والعصر الحديث، فكل ما يمثُلُ أمامنا من حُطام القرية وأنقاض ودمار مجرد شواهد من الماضي. يتحدثون بحزن وأسى عن «الحديقة»، ومدينة قرطبة الأسطورية، ورحلات سندباد، وفحول القصائد العربية الكلاسيكية، ولكن هذه الصحراء تبتلع شبابهم وحاضرهم؛ فهم هائمون بهذه الحديقة المستحيلة، بالخرافات والأساطير، التي تدفعهم إلى الجنون، وتقضي عليهم بالتجول. وعلى هذا النحو، تُقدم أفلام الناصر خمير – كفنٍّ إسلامي وتأمل تاريخي – وجهةَ نظر نقدية نحو معنى التاريخ.
يستند فيلم "طوق الحمام المفقود" على مؤلَّف "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي (994-1064)، العالِم الذي عاش ليرى تدمير قرطبة وقضى سنواته الأخيرة في السجن أو المنفى، وفُقدت أعماله إلى حد كبير، باستثناء أطروحته الشعرية عن طبيعة الحب. وبرغم ابتعاد الفيلم كثيرًا عن المؤلَّف، تبقى استعارة البحث عن كتاب ابن حزم في الفيلم، في سياق معرفة حقيقة الحب؛ تنطبق على بحثه عن الهوية الثقافية بعيدًا عن المركز الغربي، كما تعكس مصائر متقاربة لأبطال منسيين في الماضي مثل ابن حزم وبطله الشاب حسن في الحاضر.
وعلى غرار كتاب ابن حزم، يشكل سير الفيلم مجموعة من أخبار وأشعار وقصص المحبين، ويقول: «السرد عندي في كل فيلم متغير، والهيكلة مختلفة، لكن فكرة ألف ليلة وليلة، التي تفرض نفسها عندي في الأفلام، ليست في عملية السرد السينمائي، إنما تتركّز في فكرة الجمال المبهر، والإحساس بالجمال بشكل غير عادي». ويتناول من خلال مغامرات "حسن وزين"، التي جرى حكيها بشكل يمزج بين الواقعي والأسطوري والفانتازي، الحياةَ التي كان يحياها عربُ الأندلس: بيوت الحكمة، فن كتابة الخط العربي، المكتبات ومخطوطاتها النادرة، بائعي الطيب، الساحات والباحات، ملتقى المثقفين، المعمار الفريد للجوامع بمآذنها وأعمدتها. ويظهر الأندلس والعالم الإسلامي كنموذج للعولمة عمره ألف عام، حين كان التبادل الثقافي والتجاري ينعكس بمنفعة مشتركة، ويستوعب ثقافات العالم ضمن حضارة «تبحث عن العلم حتى لو كان في الصين»، على عكس عالَم اليوم الذي يتدفق فيه المال والمعرفة والنفوذ بشكل عمودي.
في بحثه عن كلمات الحب – وعددها ستون – استطاع حسن أن يجمع منها ثلاثًا وثلاثين. وتشكل افتتاحية ابن حزم الأندلسي – «الحب – أعزك الله – أوله هزل وآخره جد» – الخط الدرامي لهذه التأملات في مشهد حلم جعفر البرمكي بحرق كيس من الكتب، حتى لا يجد أحد حُلم أميرة سمرقند. وهكذا في أحد المشاهد يرى حسن وصديقه زين رجلاً يحرق الكتب، فينهره حسن المحب للكتب، ولكنه يصر على حرق الكتب «المسمومة»، فينقذ زين مزقة من الكتب المشتعلة في النار ويهرب بها، فيندب الرجل حظ الطفل لأنه سيتسمّم، وفيها يروي خبر أميرة سمرقند وقد كُتب «الحب – أعزك الله – أوله هزل وآخره جد، في ليلة جاءتني رؤيا، جاريتان مسنتان وسط حوض فارغ ترشان قطرات ماء لعله يرتوي وعلى حافة الحوض أميرة سمرقند تحدق بعينيها الواسعتين في رمانة حمراء، غناؤها الحزين أخرجني من منامي فصحوت»، ومن ثم يبدأ الشاب حسن رحلة البحث عن الكتاب المكمل لهذه السطور لأنه سيكشف له معاني الحب. يطالعنا حسن وهو يبحث عن أسماء الحب في الكتب وفي مجالس الحكمة. يسأله الشيخ: «لماذا تريدها جميعًا؟» يرد الفتى: «أريد معرفة حقيقة الحب»، فيرد الشيخ: «إن حياتك كلها لا تكفيك لتفهم معانيها، والحقيقة كلمة واحدة تكفيك جميعها، خذ مثلاً كلمة الله تشمل الرحمن الخلّاق الوهّاب. أما أنا فوجدت ثلاثة: عشق ووجد وهيام». وبعد حواره معه، يشعر بكثير من الارتباك والحيرة والشجن، الذي تعبّر عنه الموسيقى بشكل ملائم.
تقدم رحلة البحث عن أميرة سمرقند مدخلاً مناسبًا للتنقيب في التاريخ والحب، والمساحات الملتبسة بين الفرد والرب في المفهوم الصوفي، ومعرفة مناخ الحب في المجتمع، ففي دراسة ابن القيم في مؤلَّف "روضة المحبين"، لا تُعَدُّ وفرة أسماء الحب في اللغة العربية شأنًا لغويًا، بل اجتماعيًا، إذ يشير إلى مكانة الحب الشائكة في المجتمع، فالعرب لا يتفننون في التسميات الجامحة إلا في «ما اشتد الفهم له» أو «ما كثر خطوره على قلوبهم»، بحسب ابن القيم.
تكشف أفلام ناصر خمير عن حساسية جمالية عالية، ووعيٍ فريدٍ في مناطق اشتباك اللغة والحب والمجتمع ومصائر أبطاله، إذ تتحقق بلاغة اللغة في كشف أقدار أبطاله في حرف الواو، ففي التأويل الصوفي، كما يُحدِّث الخطاط تلميذه حسن عن الحروف العربيّة، يمثّل الواو العقل عند بعض المتصوفة، وهو الحرف الوحيد المتضمن لمعنىً لأن أوله متماثلٌ مع آخره؛ فهو دائري يكرر نفسه كالرحلة التي يتصل أولها بآخرها، وهي كناية فلسفية مدهشة عن مسار رحلة أبطاله، فحالما يخرج معلم حسن الخطاط من تلك الدائرة، وتلميذُه حسن، يختل توازن المدينة وتتحول إلى خراب. بحسب المفكر المغربي عبد الكريم خطيبي في كتاب "الاسم العربي الجريح"، ليست الكتابة الخطية ذات طبيعة لغوية وحسب، حيثُ إن الخط العربي فنٌّ مستقل بذاته، له قوانينه الخاصة، أكثر مما هو وسيلة للنقل، بحيث تتحول الأناقة إلى جملة تأملية؛ إذ تفرض لعبة الأشكال والصور الجوهرَ اللغوي والمعنى المتضمَن كموضوع متجسّد. وبالنظر إلى مسار الحكاية الدائري، يبدو ما شاهدناه مُقدّرًا سلفًا، ولكن الرحلة في مستوى آخر تأخذ مسارًا أكثر مشقة ونضجًا في نفس حسن.
في جميع مستويات البحث الذاتي والإلهي والتاريخي عن طوق الحمامة المفقود – رسائل الحمام الزاجل، أميرة سمرقند، أسماء الحب، والد الطفل زين الذي لا يعرفه وينتظر عودته، وحضارة انضوت تحت الرمال – يبرز الفقد كسمة أساسية، فهو ما يحرك جميع أبطاله في ثلاثية "الصحراء". ثيمة البحث عن شيء ما مفقود وضائع، تجعل من الصحراء فضاءً مُشبعًا بالدلالة والرمز وعدم اليقين، ففي هذه الحدود الضبابية من الواقع والحلم، تتشكل الحقائق والهويات والمعارف، ولكن يبقى الثابت الوحيد في هذا العالم المتقلب مثل أمواج الرمل في الصحراء، هو الحب.
