شارك
"تساءلت، أهو دوريان غراي؟ إنه آتٍ من عصر آخر، غير أنه ليس مزيفاً، بل حقيقيًّا بشكل مطلق".
كيت بلانشيت
خلال الأسابيع والأشهر الماضية صرنا نلتقي ويس أندرسون في كل أرجاء العالم الافتراضي، أينما ذهبت ستجد موسيقى أفلامه وطريقة تصويره تنتظرك. في حفل الترند، الهواة، صناع المحتوى، المعلنين، شركات الأطعمة، بل وحتى أندية كرة القدم، لم يتأخر أحد عن اقتباس أسلوب المخرج الأمريكي الساحر، في طريقة التصوير، نوع الأزياء، مزج الألوان، سيمترية/تناظر الإطار، اختيار المشاهد، طبيعة الخلفية والموسيقى الخلابة، إلّا أن مُخرجات هذا الترند وإن كانت تعني نجاح أندرسون في تحويل أفلامه إلى نوع من الثقافة الشعبية، يجد فيه الكثيرون مثالاً يحتذى لالتقاط لحظاتهم والانتباه إلى أدق التفاصيل فيها، إذ كانت اقتباساً جمالياً سطحياً لأسلوبه، ومن وجهة نظر فنية، نكتشف بأنه بعيد جداً عن الأسلوب الجمالي المتكلف والزائف لعصر "الباروك". إنه لا يُكن حباً عميقاً للحياة بعكس ما تشي به جمالياته، وبعكسها كذلك، فهو ليس مطمئنّاً أو سعيداً، بل يعاني قلقاً وجوديا يدفعه دائماً للبحث خلف ستار الحياة، مغلفاً سعيه الحثيث للتعبير عن الآلام بالجمال الفني، ليكمل ثالوث فلسفته فلسفته التي تقوم على الجمال والتعاسة ومراوغة المصير. يقول أندرسون عن هذا المزيج الغريب: "أحب أن أدفع شخصياتٍ حقيقية لتقوم بأفعال تحمل لمحاتٍ سوريالية"، ومنه يمكن أن تُستَشَف نظرته للحياةِ المتأرجحة بين الكآبة والتفاهة والعمل على التأقلم المُعبر عنها في أعماله التي هي في مجملها تحمل طابعاً واضحاً، ليس على المستوى الظاهري فحسب، وإنما كذلك في جوهرها.
السيرة الذاتية كملهم رئيس لكتابة الأفلام
في الأول من مايو من العام 1969 ولد في مدينة هيوستن بولاية تكساس، الطفل ويسلي ويلز أندرسون، لطالبة جامعية تدرس الفن، قبل أن تكمل لاحقاً مسيرتها التعليمية بالحصول على درجة الدكتوراة في الأنثربولوجيا، وأبٍ يعمل في مجال الإعلانات ويشغل وقت فراغه بالكتابة الأدبية. لم يستمر زواجُ والدَيه طويلًا، وقبل أن يكمل الطفل ويسلي سنته الثامنة، انفصلا عن بعضَيهما، فعاش الطفل مع أخويه وأمه وغاب الأب عن المشهد. عاش ويسلي مع أخويه طفولة ناقصة، ورغم اللعب الذي لا يتوقف والمغامرات التي لا تنتهي، عجزوا عن ملئ الفراغ. صار أحد الأخوين طبيباً، أما الآخر قرر أن يتبع خطى أمه الفنية، فأصبح راسماً، أما الأخير ويسلي، قرر ممارسة هوايته في مزج كل شيء، وصار كاتب سيناريو ومخرجاً سينمائياً. حينما كان طالباً في المدرسة الابتدائية، بدأ ويس بمشاهدة الأفلام، وكان فيلمه المفضل هو "حرب النجوم – Star Wars". تعرف بعد ذلك على أعمال ألفريد هيتشكوك وأحبها كثيراً، ليصبح المخرج الإنجليزي في نظره: "الرجل الذي يصنع الصور ويتلاعب بالأصوات ليروي القصص"، رؤية لن تمضي سنواتٌ كثيرة حتّى يتبناها ويعيد إنتاجها بأسلوبه الخاص في أعماله.
عندما كان في العاشرة اشترت له والدته كاميرا تصوير أفلام صغيرة، وبدأ يجرّب، تارة بمساعدة أخويه، وتارة بمساعدة أصدقاء الحي، وأخرى مع زملاءه في المدرسة، وكانت له عدّة محاولات خجولة. أحب الجمال والاعتناء بالتفاصيل الدقيقة باكراً في مراهقته، غرفته كانت مَعمَلَه الجمالي، صنع على جدرانها لوحات بفن الكولاج، وفي مكتبته جمع الكتب التي تتبع الفنّ وتدرسه. ثم أحب الأدب، وبالأخص قصص فرانسيس سكوت فيتزجيرالد القصيرة، ومسرحيات هنري ميللر -وهذا الأدب سيكون له أثره الواضح على أعماله في وقت لاحق-. انتهت طفولته بأن يترك هيوستن وينتقل إلى أوستن ليدرس الفلسفة في جامعة تكساس.
التفاصيل أكثر مما يجب في استعراض الشخصية أليس كذلك؟ نعم هذا صحيح. عند الحديث عن فرانسيس فورد كوبولا أو مارتن سكورسيزي، لن تكون هناك عودة للبحث في سيرة الأم، لحظة طلاق الوالِدين، أو الألعاب التي كان يشغل بها الوقت أيام الطفولة، لكن مع ويس أندرسون تختلف المعادلة قليلاً، ويتأتى مفتاح استيعاب فنّه وأعماله من خلال سيرته الذاتية، فدون مبالغة، كل تفصيل ذكر سابقاً سنجد له ملمحاً في أفلامه. أندرسون يرى بأن أفلامه تشبهه، وأنه يجد الإلهام للصناعة السينمائية في تفاصيل حياته وذكرياته. إن أفلامه الموغلة في الشخصية يمكن أن ينطبق عليها مصطلح "سينما المؤلف" الذي ابتكره روبرت بيرسون، بسهولة، إلا أنها في الآن نفسه تتلمّس طريقها لتتسلل إلى قلوب الناس سريعاً، فهي بسيطة، لأن أسس السيرة الذاتية التي تنطلق منها ترتبط سياق الثقافة العامة والشعبية، فيجد المشاهد أنها تتقاطع معه وتشبهه. إن سينما ويس أندرسون بسيطة لا تخلو من أي تعقيد، وكوميديّة، دون أن تنقذ من التعاسة، بشخصيات حقيقية وأحداث خيالية في عالم جمالي.
الجمال والتعاسة في فلسفة الحياة
إن سينما ويس أندرسون في جوهرها تدور حول ثنائية الجمال والتعاسة ومراوغة المصير، أفلامه المسكونة بالفقد، الوحدة، الألم، الغربة، العلاقات الأسرية الهشة، الصراعات المؤلمة، والموت، وتقدّم كل ما هو قاسٍ في الحياة على طبق جمالي ساحر. في فيلمه The Darjeeling Limited نشاهد أخوة ثلاثة يجتمعون سوياً في رحلة تقطع عباب الأراضي الهندية، رغبة في الوصول إلى والدتهم التي تخلت عنهم. أما في الأفلام التي سبقته مثل: The Royal Tenenbaums وَ The Life Aquatic with Steve Zissou، كان غياب الأب وتيه الأبناء المستمر هو السمة الأقوى والأوضح. لاحقاً، في فيلم Moonrise Kingdom سيخلق الحب بين طفلين يعاني كل منهما مشاكل نفسية، فيهربان سوياً، هل ستواسيهما الحياة؟
نظرة ويس أندرسون للحياة قاسية جداً، الجمال الطاغي والعناية بأدق التفاصيل الفنّية لا يجعلها تلين ولو قليلاً. في أفلامه لا أحد في مأمن، الكلاب الأليفة تدهسها السيارات، أو تصيبها سهام في الصدر مؤديّة لقتلها، القطط تُرمى من النوافذ لتموت بشكل بشع على الأرضيات الصخرية، والأطفال تصيبهم الأمراض النفسية، الأمهات يمُتن في حوادث تحطم طائرات أو تقتلهن الأمراض الخبيثة. طيف الكآبة يحيط بنا، الألم لا يفارق وجودنا، والجميع على بعد خطوة أو أقل من الموت. إذن فما معنى كل هذا الجمال المترف، والباذخ! هكذا يتم بناء الميلودراما، هكذا تكون السخرية. هذا هو تصوّر أندرسون، الجمال يكمّل الصورة، الجمال هو الوسيلة لجعل كل هذا يحتمل -ربما- والجمال وسيلة لجعل كل هذه القسوة تافهة ولا قيمة لها. لكنّ السؤال عن المعنى مهم، لأن نظرته ليست عدمية. أندرسون يشوه كل أركان الحياة بعد ذلك يحاول لملمتها في النهايات لا يمكن تسميتها بالسعيدة، وإنما يمكن وصفها بالمتصالحة أو المتقبلة.
خروج عن المألوف: الأشكال الأدبية في صناعة "ويس" السينمائية
للنصوص السينمائية باختلاف كتابها وانتماءاتهم ومشاربهم وحتى لغاتهم، أشكال مألوفة ومعتادة، سارت عليها السينما منذ عصورها الأولى وحتّى اليوم. شكل يَفترض عِلم المشاهد المسبق بأن ما يشاهده فيلم، تبدأ القصة مباشرة فيجد المشاهد أنه في خضم المشهد الأولى، فالذي يليه وهكذا حتى نهاية الفيلم، دون تدخّل من خارج عالم الفيلم. من حين إلى آخر نجد كاتب سيناريو يخرج عن هذا الطريق المرسوم سلفاً، فيعرض الأفلام كما لو كانت شيئاً مختلفاً. في السبعينات، ابتكر وودي آلن طريقته الفريدة في كتابة السيناريو السينمائي، متوجهاً إلى الكاميرا مباشرة متحدثاً إلى المشاهد، خارج عالم القصّة ولكن كجزء منها يدور في فلكها. ثورة كبرى، قلما شهدنا لها مثيلاً، ولذا يجب الاستشهاد به قبل الدخول إلى سياق الخروج عن المألوف، فدراسة الفلسفة والغرام الشديد بالقراءة، دفعا ويس أندرسون لأن يتبنى الأشكال الأدبية المختلفة كأسلوب يعرض من خلاله قصصه. فيلمه الثالث The Royal Tenenbaums المستوحى بشكل واضح من حكاية عائلته، تمّ تقديمه كمسرحية، استُعرضت فيها الشخصيات أولاً، ومن ثمّ توالت الفصول واحداً بعد الآخر. Moonrise Kingdom عُرض ككتاب قصص أطفال، The Grand Budapest Hotel قدّم على الشاشة كصفحات من كتاب يروي توثيقاً تاريخياً لأحداث من أزمنة ماضية، أما The French Dispatch كان بوضوح عرضاً سينمائياً لمقالات مجلّة فنية-اجتماعيّة-سياسية، وأخيراً فيلمه Asteroid City الذي كُتِب على شكل مسرحيّة تلفزيونية تعرض على الشاشة في الخمسينات. إن ما يمكن أن نفهمه من استخدام الأشكال الأدبية كأسلوب لكتابة السيناريو عند ويس أندرسون هو أنه يحاول الإحتفاظ بابتعاده "شكلياً" عن الواقعية، فهو يتصوّر قصصه كأحداث خيالية/سريالية ليس لها إلّا ارتباطات طفيفة بالواقع. إن التسامي على الواقع، يمنح حرّية أكبر للفنّان ومساحة أكبر للتعبير عن أفكاره ومكنوناته.
