عودة

فيلم "سيدة البحر": تجربة سعودية مدهشة


أمير العمري

11/09/2024

دون أدنى شك، كان "سيدة البحر"، أول الأفلام الروائية الطويلة للمخرجة السعودية الشابة شهد أمين (31 سنة)، والذي عرض ضمن تظاهرة "أسبوع النقاد" في مهرجان فينيسيا السينمائي، مفاجأة بديعة حقًا. فالفيلم يبدو شديد الطموح من جانب مخرجة شابة من الواضح أنها هضمت إنجازات السينما الفنية في العالم.

ينتمي "سيدة البحر" إلى سينما الشعر، التي قد تروي قصة، كما في حالة فيلمنا هذا. وهي قصة رمزية تدور على مستوى الخيال، مع ميل مقصود للتجريد عن طريق عدم تحديد المكان، وجعل الزمان هو الماضي القريب قبل تطور سفن الصيد. غير أنها تصور مفردات هذه القصة باستخدام وسائل السينما: الصورة، والتكوين، وحركة الكاميرا، والضوء والظل، والمونتاج، والموسيقى. كل هذا في سياق غير تقليدي، بل يجنح للتجريب والتحرر من "الحبكة"، والاعتماد على ما ينتج عن الصورة من تداعيات في ذهن المشاهد.

تستمد المخرجة شهد أمين الفكرة من الواقع، لكنها تضفرها في سلسلة من المشاهد واللقطات التي تجسد من خلالها رؤيتها الخاصة لمعاناة (الأنثى/ الفتاة/ المرأة) في المجتمع العربي التقليدي. وهو كما تراه مجتمعًا أبويًا، يغفل وجود المرأة، بل ويحرمها من حقها في الحياة، وينظر لها باعتبارها كائنًا أدنى من الذكر. وكما في حالة بطلتنا الصغيرة "حياة" التي يرمز اسمها للعطاء، لا يسمح لها الصيادون بالخروج معهم للصيد، بل يحرمونها بقسوة من ممارسة الحياة كما ترغب، بدعوى أنها "الأدنى" والأضعف، ولن تقدر بطبيعة تكوينها الجسماني على مشاق الرحلات البحرية التي يخرج فيها رجال القبيلة للصيد.

مخرجة الفيلم شهد أمين الصيد يرتبط بتوفر السمك في البحر، ويرتبط هذا التوفر بدوره، برضا البحر عن الصيادين. ففي أعماق البحر تكمن "سيدة البحر" أو الحورية الشريرة التي يجب استرضاؤها باستمرار عن طريق تقديم الأضاحي والقرابين لها، والأضحية يجب أن تكون فتاة صغيرة شابة عذراء. ومن دون هذه التضحيات التي يتعين أن تقدمها كل عائلة، والتي أصبحت سمة مقدسة وتقليدًا متوارثًا عبر الأجيال، لا يكشف البحر أسراره للصيادين، ولا يجدون فيه ما يبحثون عنه، بل يمكن أن تهب العواصف القاسية، لتفتك بالسفن وأصحابها.

المرأة والعار

تدور الأحداث في جزيرة معزولة للصيادين تقع وسط البحر، حيث تضع امرأة مولودة يطلقون عليها "حياة"، يتعين تقديمها قربانًا للبحر الهائج وشياطينه أو حورياته المتعطشات لالتهام القرابين. لكن والد "حياة" ينقذها من الغرق. فهي ابنته الوحيدة. تنشأ "حياة" وتتربى في بيئة تراها الحلقة الأضعف، ويعتبرها مجتمع الصيادين وصمة عار، بل يعتقدون أن إفلاتها من الغرق قد جلب لهم سوء الحظ. ومع ذلك فققد خلقت هذه النظرة نوعًا من التحدي بداخلها، يدفعها طوال الوقت لمحاولة إثبات أنها تتفوق على الصيادين الذكور، بجرأتها وشجاعتها وإقدامها على الصيد، وعلى النزول إلى البحر الهائج والعودة بما يعجز عن الإتيان به الرجال. ولكن بعد أن تضع والدة حياة مولودَا ذكرًا، تصبح مسألة تقديم "حياة" قربانًا لسيدة البحر مفروغًا منها. تقفز "حياة" في البحر، وتختفي لأيام يتصور معها الصيادون أن البحر قد قبل قربانهم، لكنهم يفاجئون بعودتها. تعيش "حياة" في صمت تام محتفظة بسرها داخلها، وتدريجيًا يتحول جسدها الى جسد حورية بحر. لقد اكتسبت شكل الحورية الأسطورية التي يهابها الجميع.

تجربة جريئة

الفيلم تجربة شديدة الجرأة على صعيد "التجريب" في السينما العربية. وهو من حيث ما يوجهه من نقد شديد مغلف بالشعر، لهيمنة الرجل، لا يشبه عملًا آخر على صعيد الشكل، من حيث شعرية الصورة والبيئة الخاصة التي يصورها. ولكنه، من جهة أخرى، ربما يكون قريبًا بشكل كبير إلى عالم فيلم "بس يا بحر" (1972) للمخرج الكويتي خالد الصديق، فكلاهما ينتمي الى نوع خاص من "الواقعية السحرية". وبينما كان الصيادون في فيلم "بس يابحر" يلقون بقطة إلى البحر الهائج لجلب رضاه، يستبدل الصيادون في "سيدة البحر" الفتاة بالقطة. إن أهم ملامح تجربة شهد أمين في فيلمها الروائي الطويل الأول، الذي يعتبر تطويرًا لفيلمها القصير "نافذة ليلى" (2013)، اهتمامها الكبير، لا برواية قصة محكمة مترابطة الأطراف، بل بخلق بناء شعري يشبه بناء القصيدة بألغازه ورموزه ولقطاته المأخوذة من زوايا غير تقليدية. والأهم، أيضًا، ذلك الاهتمام الكبير الذي أولته للتكوين في الصورة السينمائية، مستفيدة من الخبرة الكبيرة التي يتمتع بها مدير التصوير خواو ريبرو، لإبراز قوة "حياة" وسط أجواء الطبيعة وضآلة الإنسان أمامها، وصبغ الصور بمسحة من الضباب، الذي يساهم في تعميق الإحساس بالطابع الخيالي الأسطوري للقصة دون إغفال مغزاها المعاصر. أيضًا التصوير بالأبيض والأسود الذي يحيلنا إلى الماضي، مع القدرة على خلق علاقة بديعة بين شريطي الصوت والصورة، باستخدام الأغاني الفولكلورية والموسيقى، والإيقاع الهادئ الممتد الذي يوحي بعمق الأسطورة في الزمن. إضافة إلى طريقة كتابة الحوار والايحاء بأنها شخصيات شديدة المعاصرة، دون السقوط في المباشرة الفجة.

منتج الفيلم هو العراقي محمد الدراجي، وقد أنتج الفيلم بالتعاون بين شركة "إيماج نيشن" في أبو ظبي، وشركة ايماجيناريوم" البريطانية. وقام بالأدوار الرئيسية، بتميز وحرفية عالية، الممثل الفلسطيني أشرف برهوم والممثلة السعودية الشابة بسيمة حجار، وهي نفسها التي قامت من قبل ببطولة فيلم شهد أمين القصير "نافذة ليلى"، إلى جانب يعقوب الفرحان وفاطمة التاي وهيفا الأغا وحفصة فيصل.